مع بدايات زحف العولمة، مطالع عقد التسعينيات، وتزامنا مع انهيار الاتحاد السوڤييتي ومعسكر الدول «الاشتراكية» شرق أوروبا وانتهاء الحرب الباردة، سيشهد الخطاب السياسي، الدائر على مسائل المواطنة والحريات وحقوق الإنسان، على منعطف في المضامين حاد وغير مسبوق تغيرت فيه الپارادايمات السياسية التي كانت سائدة قبْلا؛ أعني منذ أن استكمل الفكر السياسي الحديث ابتناء أساسات المواطنة، وكسا هيْكـلها بلحْم مفهومي متناسق الملامح والقسمات. من الضروري الاستدراك على هذا بالقول إن المنعطف إياه أتى يفصح عن حقيقة كونية جديدة تولدت من التحولات المومأ إليها؛ هي الانتصار المتجدد للفكرة الليبرالية على نقائضها في المنافسة العالمية، ولكن - هذه المـرة - بعد أن تحولت هي نفسها إلى نيوليبرالية، أو ليبرالية متوحشة، وبدأت طوْر صعودها المدوي حتى قبل ميلاد العولمة ونهاية الحرب الباردة: أيان صعدتْ قواها إلى السلطة في المراكز الرأسمالية خلال العهد الريغاني- التاتشري في الثمانينيات.

آنها، سيشْرع مفهوم حقوق الإنسان في الحلول محل مفهوم المواطن ومفهوم المواطنة، محمولا على يقينيات من جنس انتصار النظام الديمقراطي وقيمه (وكأن المواطنة ليست من قيمه أو، قل، ليست هي التي تؤسسه، أصلا!)، أو على «نبوءات» حتْموية من قبيل «نهاية التاريخ» (لن يلبث أصحابها أن يتراجعوا عنها حين تـفْـلس). هكذا سيشْرع، في هذه المناخات، في ترويج سردية إيديولوجية ملغومة عن المواطنة ترى إلى منظومتها بوصفها منظومة مغلقة، ومحدودة الآثار بحيث لا يتمتع بها إلا من هم مواطنون في الدول التي تأخذ بها وتـقرها. بل سيذهب الكثير من ناقديها إلى الإفصاح عن مشاعرهم المناهضة لها، جملة، حين يتصورونها مجرد ستار يتوسـل به من الدول قصد التحلل - باسم السيادة الوطنية - من موجبات الالتزام بأحكام القوانين المتعلقة بأهم الحقوق عندهم: حقوق الإنسان.

سيـقال - تسويغا لتلك السردية - إن الإنسان أعلى مكانة من المواطن، لأن حقوقه أعـم وأشمل وعابرة للأوطان أو، بكلمة، لأنها كونية. ولأنها، عند القائلين بذلك، شيء بهذه المثابة وجب على كل دولة، حكما، احترامها الاحترام الصارم الذي لا شبهة فيه. واحترامها ليس شيئا سوى ذلك الالتزام الذي يقتضيها تكييف تشريعاتها الوطنية مع موجبات منظومة القوانين الدولية من غير التفات إلى ما تمليه عليها اعتبارات السيادة الوطنية. ولن نعدم وجود من يقول إن المرجع في سياسات الدول ليس دساتيرها وقوانينها، التي تسنها مؤسساتها، وإنما القانون الدولي الذي لا قانون يعلو عليه: أو هكذا يدعون. ثم لن نلبث طويلا حتى نرى كيف يصار إلى خرق «ميثاق» الأمم المتحدة نفسه بإقرار مبدإ «حق التدخل» (Right of interference) عند الاقتضاء؛ أي حين تـنْـتهك حقوق الإنسان في أي بلد: أكان فردا أو جماعة سكانية من الجماعة الوطنية (يسمونها «الأقلية»!).

وقع التـوسع في استيلاد حقوق فرعية جديدة - تحت مسمى حقوق الإنسان - وفي إقرارها بتشريعات دولية، في امتداد هذه الموجة الجديدة: العولمية- النيوليبرالية، من غير الالتفات إلى ما في إقرارها من آثـار سياسية واجتماعية مدمرة بالنسبة إلى المجتمعات الإنسانية المعاصرة وتقاليد العيش المشترك الموروثة فيها والمنحدرة من مئات السنين؛ بل من غير إعارة انتباه إلى ما في ذلك من نسف لكيان الدولة الوطنية، ولمبدأ المواطنة وشرعية منظومتها. والأسوأ من ذلك أن الإلحاح على بعض تلك التي عدت حقوقا لم يكلف نفسه حتى مراعاة الفطرة البشرية والطبيعة البشرية! هكذا انتقلنا، سريعا، من طـوْر مديد من الدفاع عن حقوق المواطن (وحقوق النساء والأطفال في جملتها) إلى طور جديد من الدفاع عن حقوق السكان الأصليين (والمفارقة أن الهنود الحمر يسْتـثْـنـوْن من هؤلاء!) في بلدان أكثرها من الجنوب! والحقوق الثـقافية للجماعات، وحقوق القلات («الأقليات») الإثنية، والحقوق الدينية للجماعات المذهبية الصغرى، وحقوق المختلفين في الميول الحيوية من الجنسين (المثليين في الاصطلاح الشائع) ... وما خفي أعظم بالنظر إلى وتيرة التدحْـرج المتسارعة لهذه المنظومة من «الحقوق» المتناسلة - مثل الفطريات - من بعضها!

هز هذا التحول العاصف يقينيات سياسية عدة رسخت لعقود طويلة، وبعضها لبضعة قرون، منها ذلك الاطمئنان المديد لمعنى المواطنة: على نحو ما استقر عليه فكريـا، وما أسست له، من قبل، معاهدة ويستفاليا: أواسط القرن السابع عشر. حتى أن ذلك الاهتزاز أصاب بعض الوعي الغربي نفسه برجة ملحوظة، واحتجاج متنام. وما تزيد عبد الله العروي حين كتب في هذا المعرض: «نلاحظ هذه الأيام معارضة قويـة، حتى في البلاد الديمقراطية، ضد هذا الاستخفاف المتزايد بالسيادة الوطنية»؛ الاستخفاف الذي تبدلت معه المعايير، تماما، فانقلب سافلها على عاليها. من ذلك مثلا أنه «كان التركيز - والكلام للعروي - في الوثائق السابقة [= الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية] على شرعية الثورة ضد الظلم، أي [ضـد] تجاهل حقوق المواطنة. الآن نرى توجها نحو تبرير الثورة على الدولة الوطنية غير الإنسانية، حتى ولو كانت عادلة خاضعة لقوانين صارمة، لكن مقصورة على أبناء الوطن». إنه، إذن، فصْل جديد من فصول تجريد الدولة الوطنية من مشروعيتها وكينونتها (= السيادة الوطنية)، ورفْع يدها عن مواطنيها كلية بدعوى أن هؤلاء مشمولين بأحكام قانون أعلى منها هو القانون الدولي. وكلما مانعت أو قاومتْ، تلـقت العقاب المبرح!

ماذا نسمي ما جرى عندنا في ما سمي بـ «الربيع العربي»، مثلا، غير أنه فصل من فصول تدمير الدولة الوطنية باسم حقوق الإنسان، وبأدوات هي أبعد ما تكون عن ثقافة حقوق الإنسان وقيم تلك الثـقافة؟ !