كنتُ أريد أن أقول إنها البارحة، لكني انتبهت فجأة إلى أنها سنوات سبع قد مضت، منذ أن توقفت يومية «السفير» عن الصدور، فعلا هي الأيام تمضي بسرعة، لكن لم تتوقف الحياة بالطبع، ما زالت تجري ونحن نحاول أن نوقف بعض لحظاتها، كأن نتذكر مثلا كلّ تلك الحكاية التي استغرقت من عمري أكثر من ثلاثين سنة. هو عمر فعلا، كأني ولدت هناك بين جدران ذاك المبنى، وتنفست رائحة الحبر والورق والجهد والعرق الذي بذله الزملاء - من كانوا قبلي، ومن كانوا معي - كي تبقى الصحيفة واحة اشتهيناها، نلوذ بها، في ظلّ بلد لم يتوقف عن توليد انهياراته المتعددة.
ولدت «السفير» عشية الحرب الأهلية اللبنانية، كان ذلك في شهر مارس من عام 1974، كان حلم مؤسسها -طلال سلمان- أن تكون «جريدة الوطن العربي في لبنان وجريدة لبنان في الوطن العربي»، لم يتوقف حلمه هذا لغاية الساعات الأخيرة من صدورها، ما أقصده، حتى في هذه اللحظات القليلة التي سبقت الأقفال، وخلال طبع العدد الوداعي، كان يتابع كل شيء. فالسفير لم تكن مجرد مشروع صحفي فقط، بالنسبة إليه، بل كانت مشروع حياة، حياته. كانت حياتنا أيضا ومشروعنا الذي تربينا عليه، الذي عملنا كي نوصله إلى حيثما نريد، وحين أقول مشروعنا، فلأننا نحن المحررون، كنّا نشعر بشراكة ما، شراكة أن نكتب وأن نقول آراءنا وأن نوصل آراء الجميع من دون استثناء.
في «الشعار» هذا الذي أوردته قبل قليل، تكمن القضية كلها، قضية أن يكون للصحيفة ذاك الامتداد العربي، وأن تكون القضية العربية، حاضرة في لبنان، من هنا، ليس من المستغرب أن يكون أول رئيس تحرير بلال الحسن، الصحفي والكاتب الفلسطيني، وليس من المستغرب أيضا، أن يكون أول مسؤول للصفحة الثقافية المسرحي السوري سعد الله ونوس، وأن يكون أحد أعمدة كتّاب صفحة الرأي التونسي الصافي سعيد، وأن يكون مراسلو الصحيفة من الخارج، من جنسيات عربية مختلفة، وحتى «ماكيت» الجريدة، وتصميم شعارها (اللوغو)، كان من عمل الفنان التشكيلي المصري حلمي التوني، كلّ هؤلاء، استطاع طلال سلمان استقطبهم إلى حلمه، حلمهم، أو ربما هم من استقطبوه إلى أحلامهم التي أرادوا كتابتها، إذ ثمة الكثير من الأشياء المشتركة بينهم، من الوجدان المشترك، من الأفكار المشتركة التي يلتقون عليها وفيها.
الصعوبة الأولى التي واجهتها السفير كانت الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 1975، لكنها عرفت كيف تتغلب عليها بجعلها نقطة لإعادة التفكير بكل أوضاع المنطقة، ليس سياسيا فقط، بل ثقافيا، فالثقافة كانت جزءا أساسيا من منظومة السفير، أي ما لا يمكن للمرء أن يقوله عبر «المقالة السياسية المباشرة»؛ - نظرا للظروف الكثيرة التي تحيط بنا والتي نعرفها كلنا - نجد أنه يمكن للمقالة الثقافية أن تلعب هذا الدور، لا أقصد تحويل الثقافة إلى خادم للمشروع السياسي، أبدا، بل إعطاء الثقافة حرية التعبير أو بالأحرى حرية الدخول إلى عمق الفكرة السياسية وتأويلها وتحليلها واقتراح ما تجده مناسبا من وجهة نظرها، لهذا غالبا ما رأينا كتّاب الصفحة الثقافية -أكانوا محررين أو رؤساء قسم، وحتى من الضيوف الذين يرغبون في النشر والمستكتبين- يدلون بدلوهم فيما يجري من أحداث، لا اللبنانية فقط بل العربية أيضا، والعالمية بطبيعة الحال، أظن أن هذه الفكرة أتاحت للكثير من المثقفين أن ينخرطوا في الراهن، أن يكون لهم موقف من الأحداث، أن يحاولوا العودة إلى طبيعة الحياة اليومية، لا أن يبقوا واقفين عند أحلامهم بكتابة نص أدبي فقط أو فني، هذا الأمر يطرح تساؤلا فعليا عن معنى الثقافة، إنها ليست فقط «تدبيج» نص رنان، بل أيضا هي محاولة للتفكير بالواقع اليومي، بشرطنا الإنساني الذي ينهار مئات المرات في اليوم.
ولدتُ في كنف عائلة تقرأ، أذكر أن بيتنا كان يستقبل صحيفتين باليوم، وعددا من المجلات الأسبوعية، كما تلك الشهرية، وذلك بعيدا عن الكتب، أذكر أيضا أنه كانت هناك جريدة يومية باسم «المحرر» تدخل إلى منزلنا، وبعد أن احتجبت عن الصدور أخذت السفير مكانها، لكن المفارقة، أن العديد من الأسماء التي كانت في المحرر عدت لأجدها في السفير، ما أريد الإشارة إليه، في قولي هذا، أن ثمة خطأ فكريا وسياسيا وثقافيا، عاد ليولد من جديد، بشكل أكثر تطورا، بشكل أكثر راهنية، وبشكل أعمق، وهو يذهب إلى «المهنية» بجدية ويجعلها هي الأساس: مهنة الصحافة. ربما هذه واحدة من أشهر ما تعلمناه في السفير: احترام القارئ، العمل بإخلاص لتقديم «المهنة» على أكمل وجه، ومن ثم يمكن لك أن تكتب رأيك مهما كان عليه شرط أن تحترم الكلمة، وأن لا تسقط في «السوقية» أو في «حرب الشوارع الميليشياوية».
في أي حال، ماذا يمكن للمرء أن يقول حين يكتشف أن أولى قراءاته في السفير كانت لأسماء مثل ألياس مرقص، وياسين الحافظ، وجوزف سماحة، وحازم صاغية، وسعد الله ونوس، وفاروق عبد القادر، وقاسم حداد، ويسري نصر الله (المخرج المصري الذي كان يكتب نقدا سينمائيا قبل أن يتحول إلى الإخراج بعد مغادرته بيروت عقب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982)... عديدة هي الأسماء التي وجدت في السفير بيتها، وكتبت فيها، ولو حاولت القيام بلائحة، لما اتسعت هذه المقالة لها، كان ذلك في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، كنت في مرحلة الدراسة الثانوية، كنت أشعر أن ما يصدر في السفير من ثقافة يعنيني أكثر بكثير من كلّ البرامج الدراسية التي عليّ «حفظها» لأنجح في امتحانات الشهادة الثانوية، المفارقة الكبيرة، أنني أصبحت «كاتبا» في هذه الجريدة بعد سنوات قليلة، أولى نصوصي الشعرية التي نشرتها كانت في عام 1983، وأول مقالة عام 1984، كان القسم الثقافي يتألف يومها من إلياس خوري، وحسن داود، وعباس بيضون، ومحمد سويد، ومحمد علي فرحات، وفيصل سلطان، وعبيدو باشا. استمر تعاوني معهم، عبر مقالات من «الخارج» حتى عام 1988 أي إلى السنة التي أصبحت فيها «رسميا» واحدا من «الزملاء»، وأحد المحررين العاملين، إلى أن استلمت رئاسة القسم والإشراف على الصفحة كما على الملحق الأسبوعي في السنوات الأخيرة من عمر الصحيفة.
هي رحلة طويلة، أعتقد، من عام 1988 (إذا لم أحسب بدايات الكتابة في عام 1983) ولغاية بداية 2017، حين احتجبت السفير عن الصدور. رحلة مليئة بأشياء كثيرة، هي رحلة معرفة بالدرجة الأولى، أجمل ما في عملنا، كل تلك الفترة كانت رغبتنا في التعلّم. ليس تعلم الكتابة فقط؛ لأنك تكتشف مع كلّ بداية مقالة جديدة أن عليك أن تعيد اختراع أدواتك الكتابية مجددا - بل أن تتعلّم وتتثقف، بمعنى ماذا لو أن هناك حفلا موسيقيا لموسيقي غربي، وأنت لا تعرف عنه شيئا، ومطلوب منك أن تحضر حفله، لكي تكتب عنه؟ عندها تبدأ عملية البحث، وعملية القراءة، ويجب أن لا ننسى: لم يكن هناك إنترنت ولا مواقع إلكترونية، كان عليك أن تبحث في أرشيفات الصحف، في المكتبات، كان الجهد في التحضير يتطلب وقتا خرافيا، ومشقة أكبر من مشقة حضور الحفل والكتابة عنه... أعتقد أن الصحفيين اليوم، وفروا على أنفسهم هذا الجهد، يكفي أن تكتب اسم من تبحث عنه على «جوجل» مثلا، لتكتشف مئات بل آلاف الصفحات التي توفر لك مادة «دسمة» مليئة بالمعلومات والتحاليل التي يمكن لك، بالتأكيد، أن تستفيد منها.
أروي هذا لأقول: كانت الكتابة الصحافية عملية شغف بالدرجة الأولى، وحين تصبح «مهنة»، مجرد مهنة لا أكثر، (وربما قد أصبحت)، تفقد رغبتك أنت، مثلما تفقد، هي، الصحافة، أحد شروط وجودها الأساسية، من منّا، اليوم، على استعداد لأن يضحي بكل شيء من أجل مقالة صحفية؟ من منّا على استعداد لأن يجعل الكتابة - (وأتحدث هنا عن الصحافة) - قضية حياته، بل أن يجعلها حياته التي يعيش من أجلها؟ لا أتحدث عن طوباوية ما، بالتأكيد، ولكن هذه هي الحقيقة، هذا هو الواقع الذي عشناه والذي استغرقنا لدرجة أننا نسينا معه حياتنا الخارجية، وأتذكر هنا أمرا: غالبا، خلال «جولات الحروب» المتنوعة التي كانت تعصف بلبنان كأمطار موسمية، لم نكن نغادر مبنى الجريدة، كنّا نقضي فيه أياما، ننام على أسرّة من تلك الأسرة التي تُطوى، كنّا «نطبخ» في غرفة جعلناها مطبخا، كانت حياتنا تدور في هذا المكان، خشية أنه فيما لو ذهبنا إلى منازلنا، ألا نستطيع العودة إلى مبنى الجريدة (بسبب القصف)، وعندها قد يتأخر العمل أو قد لا ينجز، ربما يتوجب القول هنا، إلى أنه ذات يوم، خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وكان يوما مشهودا عُرف لاحقا باسم يوم الغارات الجوية، إذ استمرت لــ15 ساعة متواصلة، كانت الصحيفة الوحيدة التي صدرت في اليوم التالي هي السفير، كان الزملاء أغلبهم ينامون في مبنى الجريدة، نعم تحولت السفير إلى بيت، هي البيت الذي عشنا فيه.
أكتب ذلك كله وأنا أتساءل، ما الذي جعل ذلك كله ممكنا؟ هل هو الشغف وحده الذي قادنا؟ أي «رسولية» كنّا نبحث عنها؟ ثمة أسئلة كثيرة يمكن أن تُطرح، ولا أعرف أي جواب عنها حقا. مثلما لا يعرف القارئ كلّ هذه التفاصيل، إذ كان يقرأ العدد، ويبحث فيه عمّا يعنيه، على القارئ إذا، أن يقول أولا لِمَ كان منشدّا إلى هذه الصحيفة.
مضت سبع سنوات على احتجاب السفير، وعلى غياب ملحقها الثقافي، كما على ملاحقها الأخرى، أسأل نفسي حقا، ما الذي قدمناه للقارئ من معرفة، حتى أجده كذلك، أي في كونه يعيش دوما على هذه الذكرى؟ ليست ذكرى فقط. لقد حاول «السفير الثقافي» (الملحق الثقافي) منذ بدايته، أن يبحث عن ثقافة جادة، عن ثقافة تعيد الوعي إلى القارئ من حيث إنها تدفعه إلى أن يفكر وأن يشارك، لا في أن يكون مجرد متلق ومستهلك، حاول الملحق الثقافي أن يبني أيضا ثقافة مغايرة، ترتبط فعلا بقضايانا الفكرية كما بقضايانا اليومية، بمعنى آخر، الثقافة لم تكن مجرد «تحصيل حاصل»، وليست تكملة لعدد صفحات الجريدة، ولا هي مجرد «تغطيات» فقط لما يحدث، بل هي ركن أساسي في أي صحيفة، لذلك كانت التغطية تتخذ شكل مقالة، أي عليك أن تكتب رأيك، أن تحلل، أن يكون لك موقف فعلي، لا مجرد شتيمة أو مديح، ولا أن تسرد تفاصيل ما حصل. كان الزميل طلال سلمان (صاحبها، وكان لا ينادي أي محرر في الجريدة إلا باسم الزميل)، يسأل دوما في اجتماعات التحرير، «ماذا هناك في صفحة يوم غد الثقافية»؟ وكان يضيف: «أخرجونا ولو قليلا من وحلّ السياسة اللبنانية التافهة، نريد شيئا يأخذنا إلى مكان آخر»، هل كنّا نبحث فعلا عن ذاك المكان الآخر الذي يُبعدنا عن أطنان الوحول التي غرقنا فيها، والتي لفتنا من كلّ جانب؟ والأهم، هل نجحنا في ذلك؟ كل ما أعرفه، وأستطيع الحديث عنه أن ثمة مكانا - يبدو الآن وكأنه كان خارج الزمن، خارج هذا الوحل - قد تمّ تشييده، وقد استطاع أن يدعو الجميع للدخول إليه وزيارته والمشاركة فيه، وأن يصبح عضوا من أعضائه، بهذا المعنى، كان القسم الثقافي بمثابة مختبر، مختبر للكتابة والنقاش الجدّي. وفي أحيان كثيرة، كان المحرر يُعدّل في مقالته، ويصححها، وفقا للنقاش، ليس المقصود أنه كان يبدل موقفه ومسلماته، بل يحاول أن يعمل عليه أكثر، أن يخرجه بصيغة أعمق، أن يحفر أكثر في الكتابة، ليكون جديرا بأن يضع اسمه في أسفل هذه المقالة، أقول هذا وأتذكر ما قاله لي الروائي إلياس خوري (وكان يومها رئيس القسم)، حين عرض عليّ أن أصبح «زميلا» في العمل: «هنا ستتعلم الكتابة». ربما تعلمنا شيئا فريدا: كيف يقف الجميع إلى جانبك، ليصححوا لك مسار الكتابة، لم يكن أي زميل يشعر بالغيرة حين يكتب زميله مقالة جيدة، بل كانت التهنئة سيدة الموقف، المطلوب من الجميع أن يكتبوا بشكل جيد، لا أن ينهوا عملا مطلوبا منهم، تخيّل الأمر التالي: أن يتصل بك رئيس التحرير في الصباح الباكر كي يوجه لك التحية والتهنئة على تعبك وعلى مقالتك «الممتازة» أو على «الصفحة» التي تحمل اليوم مواد رائعة.
أعتقد أن هذه التفاصيل كلها، التي لا يعرفها القارئ، هي التي جعلت السفير بكلّ صفحاتها وملاحقها «جمهورية خرافية»، مستقلة، في زمن سقطت فيه «الجمهورية اللبنانية» بأسرها. هل أننا نعيش على الذكرى؟ لا يجب ذلك، كانت مرحلة من مراحل العمر، ومن مراحل الصحافة العربية في احتجابها، يقفل باب وتاريخ، أهمية التاريخ أن يجعلنا نفكر بالمستقبل؛ لأن حاضرنا ... لا أعرف في أي مكان هو.
إسكندر حبش شاعر وصحفي لبناني
ولدت «السفير» عشية الحرب الأهلية اللبنانية، كان ذلك في شهر مارس من عام 1974، كان حلم مؤسسها -طلال سلمان- أن تكون «جريدة الوطن العربي في لبنان وجريدة لبنان في الوطن العربي»، لم يتوقف حلمه هذا لغاية الساعات الأخيرة من صدورها، ما أقصده، حتى في هذه اللحظات القليلة التي سبقت الأقفال، وخلال طبع العدد الوداعي، كان يتابع كل شيء. فالسفير لم تكن مجرد مشروع صحفي فقط، بالنسبة إليه، بل كانت مشروع حياة، حياته. كانت حياتنا أيضا ومشروعنا الذي تربينا عليه، الذي عملنا كي نوصله إلى حيثما نريد، وحين أقول مشروعنا، فلأننا نحن المحررون، كنّا نشعر بشراكة ما، شراكة أن نكتب وأن نقول آراءنا وأن نوصل آراء الجميع من دون استثناء.
في «الشعار» هذا الذي أوردته قبل قليل، تكمن القضية كلها، قضية أن يكون للصحيفة ذاك الامتداد العربي، وأن تكون القضية العربية، حاضرة في لبنان، من هنا، ليس من المستغرب أن يكون أول رئيس تحرير بلال الحسن، الصحفي والكاتب الفلسطيني، وليس من المستغرب أيضا، أن يكون أول مسؤول للصفحة الثقافية المسرحي السوري سعد الله ونوس، وأن يكون أحد أعمدة كتّاب صفحة الرأي التونسي الصافي سعيد، وأن يكون مراسلو الصحيفة من الخارج، من جنسيات عربية مختلفة، وحتى «ماكيت» الجريدة، وتصميم شعارها (اللوغو)، كان من عمل الفنان التشكيلي المصري حلمي التوني، كلّ هؤلاء، استطاع طلال سلمان استقطبهم إلى حلمه، حلمهم، أو ربما هم من استقطبوه إلى أحلامهم التي أرادوا كتابتها، إذ ثمة الكثير من الأشياء المشتركة بينهم، من الوجدان المشترك، من الأفكار المشتركة التي يلتقون عليها وفيها.
الصعوبة الأولى التي واجهتها السفير كانت الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 1975، لكنها عرفت كيف تتغلب عليها بجعلها نقطة لإعادة التفكير بكل أوضاع المنطقة، ليس سياسيا فقط، بل ثقافيا، فالثقافة كانت جزءا أساسيا من منظومة السفير، أي ما لا يمكن للمرء أن يقوله عبر «المقالة السياسية المباشرة»؛ - نظرا للظروف الكثيرة التي تحيط بنا والتي نعرفها كلنا - نجد أنه يمكن للمقالة الثقافية أن تلعب هذا الدور، لا أقصد تحويل الثقافة إلى خادم للمشروع السياسي، أبدا، بل إعطاء الثقافة حرية التعبير أو بالأحرى حرية الدخول إلى عمق الفكرة السياسية وتأويلها وتحليلها واقتراح ما تجده مناسبا من وجهة نظرها، لهذا غالبا ما رأينا كتّاب الصفحة الثقافية -أكانوا محررين أو رؤساء قسم، وحتى من الضيوف الذين يرغبون في النشر والمستكتبين- يدلون بدلوهم فيما يجري من أحداث، لا اللبنانية فقط بل العربية أيضا، والعالمية بطبيعة الحال، أظن أن هذه الفكرة أتاحت للكثير من المثقفين أن ينخرطوا في الراهن، أن يكون لهم موقف من الأحداث، أن يحاولوا العودة إلى طبيعة الحياة اليومية، لا أن يبقوا واقفين عند أحلامهم بكتابة نص أدبي فقط أو فني، هذا الأمر يطرح تساؤلا فعليا عن معنى الثقافة، إنها ليست فقط «تدبيج» نص رنان، بل أيضا هي محاولة للتفكير بالواقع اليومي، بشرطنا الإنساني الذي ينهار مئات المرات في اليوم.
ولدتُ في كنف عائلة تقرأ، أذكر أن بيتنا كان يستقبل صحيفتين باليوم، وعددا من المجلات الأسبوعية، كما تلك الشهرية، وذلك بعيدا عن الكتب، أذكر أيضا أنه كانت هناك جريدة يومية باسم «المحرر» تدخل إلى منزلنا، وبعد أن احتجبت عن الصدور أخذت السفير مكانها، لكن المفارقة، أن العديد من الأسماء التي كانت في المحرر عدت لأجدها في السفير، ما أريد الإشارة إليه، في قولي هذا، أن ثمة خطأ فكريا وسياسيا وثقافيا، عاد ليولد من جديد، بشكل أكثر تطورا، بشكل أكثر راهنية، وبشكل أعمق، وهو يذهب إلى «المهنية» بجدية ويجعلها هي الأساس: مهنة الصحافة. ربما هذه واحدة من أشهر ما تعلمناه في السفير: احترام القارئ، العمل بإخلاص لتقديم «المهنة» على أكمل وجه، ومن ثم يمكن لك أن تكتب رأيك مهما كان عليه شرط أن تحترم الكلمة، وأن لا تسقط في «السوقية» أو في «حرب الشوارع الميليشياوية».
في أي حال، ماذا يمكن للمرء أن يقول حين يكتشف أن أولى قراءاته في السفير كانت لأسماء مثل ألياس مرقص، وياسين الحافظ، وجوزف سماحة، وحازم صاغية، وسعد الله ونوس، وفاروق عبد القادر، وقاسم حداد، ويسري نصر الله (المخرج المصري الذي كان يكتب نقدا سينمائيا قبل أن يتحول إلى الإخراج بعد مغادرته بيروت عقب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982)... عديدة هي الأسماء التي وجدت في السفير بيتها، وكتبت فيها، ولو حاولت القيام بلائحة، لما اتسعت هذه المقالة لها، كان ذلك في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، كنت في مرحلة الدراسة الثانوية، كنت أشعر أن ما يصدر في السفير من ثقافة يعنيني أكثر بكثير من كلّ البرامج الدراسية التي عليّ «حفظها» لأنجح في امتحانات الشهادة الثانوية، المفارقة الكبيرة، أنني أصبحت «كاتبا» في هذه الجريدة بعد سنوات قليلة، أولى نصوصي الشعرية التي نشرتها كانت في عام 1983، وأول مقالة عام 1984، كان القسم الثقافي يتألف يومها من إلياس خوري، وحسن داود، وعباس بيضون، ومحمد سويد، ومحمد علي فرحات، وفيصل سلطان، وعبيدو باشا. استمر تعاوني معهم، عبر مقالات من «الخارج» حتى عام 1988 أي إلى السنة التي أصبحت فيها «رسميا» واحدا من «الزملاء»، وأحد المحررين العاملين، إلى أن استلمت رئاسة القسم والإشراف على الصفحة كما على الملحق الأسبوعي في السنوات الأخيرة من عمر الصحيفة.
هي رحلة طويلة، أعتقد، من عام 1988 (إذا لم أحسب بدايات الكتابة في عام 1983) ولغاية بداية 2017، حين احتجبت السفير عن الصدور. رحلة مليئة بأشياء كثيرة، هي رحلة معرفة بالدرجة الأولى، أجمل ما في عملنا، كل تلك الفترة كانت رغبتنا في التعلّم. ليس تعلم الكتابة فقط؛ لأنك تكتشف مع كلّ بداية مقالة جديدة أن عليك أن تعيد اختراع أدواتك الكتابية مجددا - بل أن تتعلّم وتتثقف، بمعنى ماذا لو أن هناك حفلا موسيقيا لموسيقي غربي، وأنت لا تعرف عنه شيئا، ومطلوب منك أن تحضر حفله، لكي تكتب عنه؟ عندها تبدأ عملية البحث، وعملية القراءة، ويجب أن لا ننسى: لم يكن هناك إنترنت ولا مواقع إلكترونية، كان عليك أن تبحث في أرشيفات الصحف، في المكتبات، كان الجهد في التحضير يتطلب وقتا خرافيا، ومشقة أكبر من مشقة حضور الحفل والكتابة عنه... أعتقد أن الصحفيين اليوم، وفروا على أنفسهم هذا الجهد، يكفي أن تكتب اسم من تبحث عنه على «جوجل» مثلا، لتكتشف مئات بل آلاف الصفحات التي توفر لك مادة «دسمة» مليئة بالمعلومات والتحاليل التي يمكن لك، بالتأكيد، أن تستفيد منها.
أروي هذا لأقول: كانت الكتابة الصحافية عملية شغف بالدرجة الأولى، وحين تصبح «مهنة»، مجرد مهنة لا أكثر، (وربما قد أصبحت)، تفقد رغبتك أنت، مثلما تفقد، هي، الصحافة، أحد شروط وجودها الأساسية، من منّا، اليوم، على استعداد لأن يضحي بكل شيء من أجل مقالة صحفية؟ من منّا على استعداد لأن يجعل الكتابة - (وأتحدث هنا عن الصحافة) - قضية حياته، بل أن يجعلها حياته التي يعيش من أجلها؟ لا أتحدث عن طوباوية ما، بالتأكيد، ولكن هذه هي الحقيقة، هذا هو الواقع الذي عشناه والذي استغرقنا لدرجة أننا نسينا معه حياتنا الخارجية، وأتذكر هنا أمرا: غالبا، خلال «جولات الحروب» المتنوعة التي كانت تعصف بلبنان كأمطار موسمية، لم نكن نغادر مبنى الجريدة، كنّا نقضي فيه أياما، ننام على أسرّة من تلك الأسرة التي تُطوى، كنّا «نطبخ» في غرفة جعلناها مطبخا، كانت حياتنا تدور في هذا المكان، خشية أنه فيما لو ذهبنا إلى منازلنا، ألا نستطيع العودة إلى مبنى الجريدة (بسبب القصف)، وعندها قد يتأخر العمل أو قد لا ينجز، ربما يتوجب القول هنا، إلى أنه ذات يوم، خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وكان يوما مشهودا عُرف لاحقا باسم يوم الغارات الجوية، إذ استمرت لــ15 ساعة متواصلة، كانت الصحيفة الوحيدة التي صدرت في اليوم التالي هي السفير، كان الزملاء أغلبهم ينامون في مبنى الجريدة، نعم تحولت السفير إلى بيت، هي البيت الذي عشنا فيه.
أكتب ذلك كله وأنا أتساءل، ما الذي جعل ذلك كله ممكنا؟ هل هو الشغف وحده الذي قادنا؟ أي «رسولية» كنّا نبحث عنها؟ ثمة أسئلة كثيرة يمكن أن تُطرح، ولا أعرف أي جواب عنها حقا. مثلما لا يعرف القارئ كلّ هذه التفاصيل، إذ كان يقرأ العدد، ويبحث فيه عمّا يعنيه، على القارئ إذا، أن يقول أولا لِمَ كان منشدّا إلى هذه الصحيفة.
مضت سبع سنوات على احتجاب السفير، وعلى غياب ملحقها الثقافي، كما على ملاحقها الأخرى، أسأل نفسي حقا، ما الذي قدمناه للقارئ من معرفة، حتى أجده كذلك، أي في كونه يعيش دوما على هذه الذكرى؟ ليست ذكرى فقط. لقد حاول «السفير الثقافي» (الملحق الثقافي) منذ بدايته، أن يبحث عن ثقافة جادة، عن ثقافة تعيد الوعي إلى القارئ من حيث إنها تدفعه إلى أن يفكر وأن يشارك، لا في أن يكون مجرد متلق ومستهلك، حاول الملحق الثقافي أن يبني أيضا ثقافة مغايرة، ترتبط فعلا بقضايانا الفكرية كما بقضايانا اليومية، بمعنى آخر، الثقافة لم تكن مجرد «تحصيل حاصل»، وليست تكملة لعدد صفحات الجريدة، ولا هي مجرد «تغطيات» فقط لما يحدث، بل هي ركن أساسي في أي صحيفة، لذلك كانت التغطية تتخذ شكل مقالة، أي عليك أن تكتب رأيك، أن تحلل، أن يكون لك موقف فعلي، لا مجرد شتيمة أو مديح، ولا أن تسرد تفاصيل ما حصل. كان الزميل طلال سلمان (صاحبها، وكان لا ينادي أي محرر في الجريدة إلا باسم الزميل)، يسأل دوما في اجتماعات التحرير، «ماذا هناك في صفحة يوم غد الثقافية»؟ وكان يضيف: «أخرجونا ولو قليلا من وحلّ السياسة اللبنانية التافهة، نريد شيئا يأخذنا إلى مكان آخر»، هل كنّا نبحث فعلا عن ذاك المكان الآخر الذي يُبعدنا عن أطنان الوحول التي غرقنا فيها، والتي لفتنا من كلّ جانب؟ والأهم، هل نجحنا في ذلك؟ كل ما أعرفه، وأستطيع الحديث عنه أن ثمة مكانا - يبدو الآن وكأنه كان خارج الزمن، خارج هذا الوحل - قد تمّ تشييده، وقد استطاع أن يدعو الجميع للدخول إليه وزيارته والمشاركة فيه، وأن يصبح عضوا من أعضائه، بهذا المعنى، كان القسم الثقافي بمثابة مختبر، مختبر للكتابة والنقاش الجدّي. وفي أحيان كثيرة، كان المحرر يُعدّل في مقالته، ويصححها، وفقا للنقاش، ليس المقصود أنه كان يبدل موقفه ومسلماته، بل يحاول أن يعمل عليه أكثر، أن يخرجه بصيغة أعمق، أن يحفر أكثر في الكتابة، ليكون جديرا بأن يضع اسمه في أسفل هذه المقالة، أقول هذا وأتذكر ما قاله لي الروائي إلياس خوري (وكان يومها رئيس القسم)، حين عرض عليّ أن أصبح «زميلا» في العمل: «هنا ستتعلم الكتابة». ربما تعلمنا شيئا فريدا: كيف يقف الجميع إلى جانبك، ليصححوا لك مسار الكتابة، لم يكن أي زميل يشعر بالغيرة حين يكتب زميله مقالة جيدة، بل كانت التهنئة سيدة الموقف، المطلوب من الجميع أن يكتبوا بشكل جيد، لا أن ينهوا عملا مطلوبا منهم، تخيّل الأمر التالي: أن يتصل بك رئيس التحرير في الصباح الباكر كي يوجه لك التحية والتهنئة على تعبك وعلى مقالتك «الممتازة» أو على «الصفحة» التي تحمل اليوم مواد رائعة.
أعتقد أن هذه التفاصيل كلها، التي لا يعرفها القارئ، هي التي جعلت السفير بكلّ صفحاتها وملاحقها «جمهورية خرافية»، مستقلة، في زمن سقطت فيه «الجمهورية اللبنانية» بأسرها. هل أننا نعيش على الذكرى؟ لا يجب ذلك، كانت مرحلة من مراحل العمر، ومن مراحل الصحافة العربية في احتجابها، يقفل باب وتاريخ، أهمية التاريخ أن يجعلنا نفكر بالمستقبل؛ لأن حاضرنا ... لا أعرف في أي مكان هو.
إسكندر حبش شاعر وصحفي لبناني