في مغامرته الرّوائية الثانية «لعنة سين» (دار عرب - 2023) يستعين بسام علي، كما فعل في روايته الأولى «عزلة الرائي» (عن الدار ذاتها - 2018) بالأسطورة من أجل بناء عالمه السّردي. وهو في الرّوايتين يُسقط الأساطير التي يستلها عادة من بلاد الرافدين على واقع حيّ. في عزلة الرّائي مثلا، كان السارد يبحث عن شيء رديف رمزي لعشبة الخلود وما ترمز إليه من خلاص، كان يبحث عن خالقه، (يمكن تسميتها كذلك برحلة الرائي) حين يجوس خلال الأرض ناثرا أسئلة وجودية قلقة يعتنق فيها جميع الديانات والمذاهب، من خلال مناطق «معاشة» تبدأ بدكان جده ثم عبري وخورفكان والبصرة والإسكندرية ومراكش وإشبيلية ليعود إلى مطرح التي انطلق منها أول مرة، مثله مثل أحد أبطال روايته الجديدة «لعنة سين» عبدالله الصوري، الذي ينطلق من صور ويجوب موانئ عديدة قبل أن يعود إلى مسقط رأسه بعد أن فقد كل شيء في طريقه. روايات الإسقاط الأسطوري هذه قد تبدو جديدة على الاشتغال الرّوائي العماني، المشدود أكثر إلى تخييل الواقع. في رواية «لعنة سين» تتنازع فضاءَ السّرد ثلاثُ شخصيات، أبرزها شخصية «أوشوكو»، الذي تحتلّ مسيرته قرابة ثلثي الرّواية موزّعة (بغير تساو، وهو توزيع يبدو مقصودا) على الصّفحات الـ292 للرّواية. تبدأ مسيرته إثر حادثة الطوفان الكبير، بعد أن قفز من السفينة في العام 1600 قبل الميلاد. ثم يصاب بلعنة الإله «سين»، وهي عقوبة تصيبه لأنه آثر نفسه على إطعام الإله من خلال سمكة حصل عليها بعد بحث طويل وهو جائع. تكون عقوبته أن يعيش أكثر من حياة، يموت ويُبعث في أزمنة مختلفة، لكن جلها يعود إلى الزّمن الأسطوري. ومن خلال ذلك الهلاك ثمّ البعث، يكشف لنا السّارد عوالم أسطورية عديدة قرأنا عنها مُتفرّقة، يجمعها السّارد في طريقه. ويمكن هنا إبداء ملحوظة حول نخبويّة هذا الحدث وافتقار المتن إلى توضيحات وشروح حول الأساطير ورموزها المعقدة، على كثرتها في الفصول المتعلقة بشخصية أوشوكو لا يجد القارئ العام أي توضح لها في الهوامش، لست مع التوضيحات في الرواية ولكن لهذه الحالة وضعيتها الخاصة وذلك حتى لا يفقد النص لذته، كذلك حتى لا يمل منه القارئ وينصرف إلى عمل آخر، فإذا كان الكاتب مقيدا، فالقارئ حر كما في مقالة قديمة أظنها منسوبة لعميد الأدب العربي. ويمكن هنا أن نطرح هذا السؤال: ماذا لو دعم الكاتب قاموسه الأسطوريَ بتعريفات؟.. لكان ربما كفى القارئ العادي مشقة الغموض والالتباس، أو أن الكاتب يكتفي هنا بالقارئ المعنيّ بعلم الأساطير، ونحن نعرف أنه علم تخصّصي لا يمكن الإحاطة به بسهولة. بيد أنه يُحسب للكاتب مغامرته الفنية في طرق عالم الأسطورة وترويضه لصالح مادته السّردية: «بعد أن اصطدت السمكة تساءلت: هل يجب عليّ أن أقدم السمكة الأولى للإله قربانا كما اعتاد الصيادون أن يفعلوا في بابل؟ ولكن، إنها سمكتي الوحيدة، وأنا أتضور جوعا، والآلهة رحيمة. أيعقل أن تغضب عليّ لأني أكلتها ونسيت أداء طقوسها وقللت من احترامها ليوم واحد فقط؟ ولكنني لا أظن أنها ستغضب فلا يوجد أي ضريح أو معبد لها هنا» ولكن الآلهة غضبت وعاقبته على سبب تافه، ربما لأنها آلهة وهمية تنقصها العدالة، أو هي لعبة في أيدي الكهنة، هؤلاء اللذين يفرد لهم الكاتب في روايته مساحات واسعة ومتعددة، فاحصا أهواءهم ونزواتهم ومقالبهم.

يدور «أوشوكو» عبر الأزمان، مُطارَدا بلعنته الأولى، لعنة سين، وهي اللعنة «البحرية» نفسُها التي ستلاحق الشّخصيتين الأخريَيْن، اللتين أفرد السّارد فصولا متقطعة لكل منهما. حيث نجد كذلك شخصية «روبرت»، الذي يلجأ إلى السّفينة «أنفستيغاتور»، التي يعمل على متنها أخوه مساعدا للقبطان. يحدوه أمل أن يلتقي بحبيبته الفرنسية، التي ترفض أمّه اقترانه بها، لكون فرنسا من حلف أعداء إنجلترا في بدايات القرن العشرين، إذ كانت تنشب بينهما حروب مصالح ميدانها السّواحل العربية والإفريقية، سوف يقوم روبرت بتسجيل فصول الرحلة بطلب من قبطان السفينة الذي سمح له بالبقاء بناء على هذا الشرط: «أحتاج منكم من يعرف الكتابة ليتفرغ لكتابة كل ما سنمر عليه في هذه الرحلة، فيكتب عن المؤن والموانئ والتاريخ والأيام وكل ما سنصادفه أمامنا من بحار ومحيطات ويابسة». الشّخصية الثالثة في الرواية هي شخصية عبدالله الصوري، التي تبدو حياتها أكثر واقعية وتجري سلِسة في الرّواية، وإن كان الكاتب مقترا جدا تجاهها، قياسا بالشّخصية الإنجليزية والبابلية، بل إن البابلية تكاد تستحوذ على معظم مساحات الرّواية، إذ جاءت شخصية «عبد الله الصوري» وكأنها استراحة محارب لحياة البابلي والإنجليزي، رغم طرافة قصة عبد الله هذا وأهمّيتها ـ بحيث يمكن للقارئ -ولم لا- أن يتساءل عن استحقاقها لأن تُفرد لها مساحة أكبر في الرّواية، حتى لا نقول رواية مستقلة.

ينطلق «عبد الله» من ميناء «خور جراما» في صور العمانية، عن طريق مركبه «السّنبوق» وطاقمه وعبيده متجها إلى ميناء مومباسا. في طريقه، يمرّ المركب الشّراعي بعدد من الموانئ، وفي كل ميناء يواجه الطاقم حدثا يكاد يُحرّف مسار المركب عن مساره لولا التدخّلات الصّارمة من النوخذة «العيدروس»، سيّد البحر، مثل ذلك الحادث الذي هرب فيه الطباخ «بلال»، الذي كان، بالإضافة إلى الطبخ اللذيذ الذي يزود به طاقم السفينة، يمتلك طاقة مليئة بالحكايات تركت أثرها في ذاكرة عبد الله: «اقترب غروب الشمس فما كان من النوخذة العيدروس إلا أن أمر بتحرك السنبوق وترك بلال خلفه تحسبا لهيجان البحر عند اقتراب القمر، أمست وجوهنا حزينة على غياب من يطعمنا ويقص الحكايا لنا. كانت الليلة الأولى من اختفاء بلال أشبه بغرفة باردة ومظلمة بالرغم من اقتراب أجسادنا من نار حطب السمر الذي أخذناه معنا من صور يوما.. هل كان يعرف ماذا تعني الحرية ليقرر انتزاعها بالهرب، أم أنه تعثر في مكان ما بسبب وزنه الثقيل؟ يا الله، كم أخشى عليك يا بلال، العم بلال، لهذه المرة فحسب». ويشير السّارد إلى أن هذا الميناء «ميناء لامو» هو الذي جُلب منه بلال أول مرة صغيرا، في إشارة دالة إلى أنه ربما عاد إليه بعد رحلة طويلة في البحار، على غرار ما سيحدث لعبدالله حين يعود إلى صور في نهاية رحلاته. تمتدّ الرّحلة بعبدالله الصوري والركاب إلى أكثر من ميناء، ضمنها ميناء مقديشو، عاصمة الصومال، الميناء الذي بنى فيه السيد برغش بن سعيد قصرا، وقد أشار السارد إليه، حيث نجد كذلك في كلّ ميناء وصفا و«فرشة» لأهمّ البضائع التي تباع وتشترى، إذ إن عبد الله يشتري قطنا بما لديه من مال يسير على أمل أن يبيعه في مومباسا بسعر أعلى. ولكنه حين يصل هناك يتعرّض للسّرقة والضّرب إلى درجة الإغماء، ليستفيق في قصر ألماني، وهناك يعمل مترجما، بعد أن يتم تعليمه اللغة الألمانية بواسطة مُمرّضة تعمل في المستشفى الألماني في مومباسا. في تلك الأثناء يتزوج عبدالله ويحصل على الجنسية الألمانية، مع احتفاظه بجنسيته العمانية الأصلية المكتوب عليها «سلطنة مسقط وعمان»، ثمّ يذهب ولداه حين يكبران للمشاركة في الحروب الألمانية في إفريقيا، ولكنهما يُقتلان. ليعود عبدالله في النهاية إلى صور، التي انطلق منها أول مرّة، وحيدا حاملا معه مخطوطا وجده في قصر الألماني، وهو مخطوط له علاقة بسيرة أحد أبطال الرّواية، الإنجليزي «روبرت». حاول السّارد أن يشبك علاقة -وإن بدت باهتة في طيات السّرد- بين شخصيات الرّواية الثلاث. وربما هذا التباعد الزّمني بين الشّخصيات يُنبئ بمدى توفق الكاتب في سد الثغرات الزّمنية للرواية، التي لا بد أنه بذل مجهودا في تجميع تفاصيلها، فليس بالأمر اليسير أن تكتب رواية تدور في أزمنة مختلفة عن بعضها بعض ومتباينة تبايُنا كبيرا دون أن تلمّ بتفاصيل كل مرحلة من حكايا وديكور وألبسة وتفاصيل، وهو ما حاول بسام علي في «لعنة سين» أن يقوم به ويفصله.

لعلّ «لعنة سين» من الرّوايات التي تحتاج إلى صبر من القارئ لكي ينسجم مع عوالمها، كما تتطلب منه معرفة -ولو أولية- بالميثولوجيا، حتى يستمتع بالمجهود الذي بذله مُؤلّفها في هذا الجانب.

محمود الرحبي كاتب وروائي عماني