في عام 1974 قدمت الصحفية وأستاذة العلوم السياسية الألمانية «اليزابيث نيومان»، فكرة دوامة الصمت، التي تحولت إلى نظرية من أهم نظريات الإعلام وتشكل الرأي العام. وتنطلق النظرية ذات الأصول الاجتماعية والنفسية من فكرة أن وسائل الإعلام لا تعبر أو لا تعكس الرأي العام القائم في المجتمع، وإنما تخلق هذا الرأي، وبالتالي يجب أن ننظر إلى هذه الوسائل باعتبارها منشئة للرأي العام، وذلك من خلال ما تقدمه من ضغوط على الناس تجعلهم يستجيبون لرأيها بقبول وإذعان أو بالصمت.

وتتمثل الفرضية الرئيسية للنظرية في أن الناس الذين يعتقدون أنهم يحملون وجهات نظر تمثل الأقلية يتجهون إلى الصمت وعدم التعبير عن آرائهم، بينما يتجه الذين تتوافق آراؤهم مع رأي الأغلبية إلى التعبير عن آرائهم. ففي القضايا المختلفة يجد الفرد نفسه في أحد جانبين إما مع الأغلبية أو مع الأقلية. فإذا اكتشف أن رأيه يتفق مع رأي الأغلبية فإن ثقته في نفسه تزداد، ويكون قادرًا على التعبير عن نفسه بقوة دون خوف من الانعزال، أما إذا اكتشف أن الرأي الذي يعتنقه لا يتفق مع رأي الأغلبية، فإن ثقته في نفسه ورغبته في التعبير عن هذا الرأي تقل كثيرا. وتأخذ رغبة أو اتجاه فرد إلى الحديث والتعبير عن رأيه، واتجاه فرد آخر إلى الصمت، شكل عملية دوامة تنتهي بتأكيد تفوق رأي على آخر.

منذ إطلاق هذه النظرية قبل نحو نصف قرن من الزمن وحتى اليوم جرت في بحر تكنولوجيا الاتصال والمعلومات ووسائل الإعلام والرأي العام مياه كثيرة، إذ تراجعت وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية، أمام سطوة وانتشار الوسائل الجديدة مثل المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، التي منحت كل فرد حرية التعبير عن رأيه على منصاته، حتى وإن كان معارضا لرأي الأغلبية، وذلك بدرجة أقل من الخوف أو ربما دون خوف من العزلة الاجتماعية. ويفتح هذا التغير الباب واسعا لإعادة النظر في نظرية دوامة الصمت ومراجعتها في ظل ما يشهده العالم من تغيرات على جميع المستويات الإعلامية والسياسية والاجتماعية.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل انتهى الصمت البشري الذي ارتبط كما أوضحت «نيومان» حين وضعت أسس النظرية، بخريطة إعلامية محدودة الوسائل، وخاضعة لتوجهات من يملكها من حكومات وشركات ومؤسسات وأفراد، بينما نعيش الآن في عصر تعددت فيه الوسائل الجماهيرية والشخصية التي يمكن للفرد استخدامها للتعبير عن رأيه؟

واقع الحال أن الإجابة عن هذا السؤال تبدو صعبة للغاية. فالمؤكد أن أعداد الصامتين قلت كثيرا خاصة بعد ظهور وانتشار منصات التواصل الاجتماعي التي مكنت كل من له حساب عليها أن يشارك في الحوارات الوطنية والعالمية، ويدلي برأيه حتى وإن كان مخالفا لرأي الأغلبية. ومع ذلك فإن الملاحظ أن الصمت وإن كاد يختفي في القضايا العالمية، فإنه ما زال قائما وبقوة في القضايا الوطنية والإقليمية. ويقل الصمت أيضا في القضايا الخلافية ذات الطابع الثقافي والفني والرياضي بينما يزيد في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. في نفس الوقت لا يمكن الزعم بأن جميع مستخدمي هذه المنصات في كل دول العالم يقومون بالتعبير عن آرائهم على هذه المنصات، خاصة إن كانت لا تتوافق مع رأي الأغلبية، خوفا أيضا من العزلة، وربما خوفا من التعرض للسب والإهانة من أصحاب رأي الأغلبية.

وقد أضيف إلى الخوف من طغيان الأغلبية على شبكات التواصل الاجتماعي، والذي قد يؤدي إلى استمرار الصمت، ثلاثة عوامل مهمة. الأول منها يتعلق بانتشار ظاهرة «الجيوش الإلكترونية» التي يتم توظيفها من جانب العديد من حكومات العالم خاصة في العالم الثالث للترويج لرأي معين في القضايا الخلافية المطروحة، لتأكيد تفوق رأي معين من جانب، والهجوم على أصحاب الرأي المخالف. ويصل الأمر في بعض القضايا إلى توجيه تهديدات واضحة للذين يريدون الخروج من دوامة الصمت بالإيذاء النفسي أو المادي وإبلاغ السلطات عنهم ومقاضاتهم، بالإضافة إلى اتهامهم بعدم الوطنية أو مخالفة الدين أو الأعراف أو التقاليد. أما العامل الثاني فيتمثل في تدخل بعض الحكومات المباشر في عمل تلك المنصات عبر تخصيص أجهزة لمراقبة كل ما ينشر عليها، واصطياد أصحاب الرأي المخالف أو الرأي الناقد لتوجهات أو سياسات أو أداء الأنظمة السياسية، وهو ما يجبر قطاعا واسعا من الناس على تجنيب أنفسهم عناء المساءلة وعدم التعبير عن آرائهم إذا كانت مخالفة لرأي تلك الأنظمة. ويصل الحال في بعض الدول إلى قيام أجهزة الأمن بتفتيش هواتف الأفراد ومطالبتهم بفتح حساباتهم الشخصية على المنصات الاجتماعية، بحثا عما تعتقد هذه الأجهزة أنه مخالف لتوجهات النظام.

ويتمثل العامل الثالث والمهم الذي يؤدي إلى استمرار الصمت حتى على المنصات الاجتماعية إلى قدرة الحكومات المختلفة على التحكم في خدمة الإنترنت وحظر الشبكات التي لا تريد أن يستخدمها مواطنوها. وقد شهد العالم قيام دول عديدة باتخاذ إجراءات تتراوح، وفقا لخطورة الموقف، بين وقف خدمات الإنترنت في جميع أنحاء الدولة في بعض الأحيان، ومنع الوصول إلى مواقع محددة ومنصات اجتماعية معينة لفترة قد تطول أو تقصر، بالإضافة إلى ممارسة الضغوط على شركات التكنولوجيا العملاقة لفلترة المحتوى الذي يقدمه الأفراد على هذه الشبكات، والذي قد يمثل، من وجهة نظر بعض الحكومات، تهديدا للأمن الوطني.

في ظل ذلك يكون من الطبيعي أن تستمر دوامة الصمت خاصة وأن منصات التواصل الاجتماعي تساعد مستخدميها على استخدام ما أطلقت عليه «نيومان» «الحاسة شبه الإحصائية» للتعرف على مناخ الرأي السائد. ويمكن من خلال تلك الحاسة أن يقدم على التعبير عن رأيه. وبذلك فإن هذه المنصات تمثل مصدرا مهما يلجأ إليه الناس لكي يعرفوا توزيع الرأي العام في القضية المطروحة. ويمكن لهذه المنصات أن تؤثر في دوامة الصمت بعدة طرق، إذ إنها تشكل الانطباعات عن الرأي السائد؛ وتشكل الانطباعات عن الرأي الذي يتزايد داعموه؛ وبالتالي تشكل الانطباعات عن الآراء التي يمكن للشخص أن يتبناها دون أن يصبح مهددا بالعزلة. والمعروف أن الرغبة في التعبير عن الرأي الشخصي في القضايا المطروحة تتأثر بشكل كبير بإدراك مناخ الرأي، فإذا كان مناخ الرأي يسير عكس رأي الشخص، فإن هذا الشخص سوف يبقى صامتا. والقوة الدافعة لهذا الصمت تتمثل في الخوف من العزلة.

لقد كان الأمل في أن تؤدي وسائل الإعلام الجديدة دورا مختلفا في دوامة الصمت، وأن تُنهي حالة الصمت التي يفرضها المجتمع على أصحاب رأي الأقلية، ولكن اتضح أن مؤثرات أخرى كثيرة اجتماعية ونفسية وسياسية وقانونية تلعب دورا في بقاء الصمت على حاله، حتى في المجتمعات الديمقراطية. ولعل هذا ما يدفعنا مع كثيرين من الباحثين في الإعلام ومنصات الإعلام الجديد إلى إعادة التأكيد على ضرورة عدم الثقة الكاملة في صحة الرأي العام. وذلك لأن كثيرًا من الناس لاعتبارات نفسية واجتماعية يميلون إلى التوافق مع الرأي السائد، حتى من دون اقتناع، وذلك لتجنب الرفض والانعزال عن الأغلبية، أو تجنب العقاب النفسي والبدني والقانوني. وحتى عندما يدرك بعض الأفراد أو الجماعات أنهم مختلفون وغير مسايرين لرأي الأغلبية، فإنهم إما يغيرون آراءهم لتتسق مع رأي الأغلبية، أو يؤثرون الصمت تجنبًا للضغوط الاجتماعية.