نُجربُ ثيابنا أكثر من مرّة، كأميرات وأمراء فروا من القصص، ليحصلوا في كل مرّة على انعكاس جديد في المرآة. ندور وندور كأنّ مسّا من السحر أصاب قلوبنا، نلبسُ أحذيتنا ذهابا وإيابا، نضم تفاصيل العيد كأثمن الأشياء التي حصلنا عليها، نتصل ببنات الجيران ونطلبُ منهن المجيء لمشاهدة أغراضنا، وما إن يفعلن حتى يطلبن منا القيام بأمر مماثل، فنذهبُ بسعادة وفضول لا حد لهما.
وفي الليلة الموعودة يُجافينا النوم، فتصبح عقارب الساعة أبطأ من المعتاد، كأنّها تتقصد اغاضتنا. قد لا يتعلق الأمر بعقارب الساعة وحسب، قدر ما يتعلق بأيدينا وأقدامنا التي تربطها أمّنا بإحكام بأقمشة وقراطيس بلاستيكية كي لا ينفلت «الحناء» فيلوثُ فراشنا!
في اليوم التالي تغسل أمّي أيدينا وأقدامنا لنشهد تغير لونها الجذاب، نشهد تغير لون أظافرنا بقدرة قادر، فنلبسُ ثيابنا وأحذيتنا وننتظر العائدين من صلاة العيد. نُلقي عليهم التحية فيضعون المال في حقائبنا الصغيرة، نفترش الأرض لنعد «العيدية» مرارا وتكرارا، وكأنّها ستزيد بتكرار العد!
***
قالوا لي بأنّ الحيوانات لا تملكُ شعورا أو عاطفة، حدث ذلك عندما توقفتُ عن تناول اللحم في المرحلة الإعدادية لفترة قصيرة من حياتي، لكني لم أكن لأصدقهم، فثغاء العنزات «الأمهات» لم يكن ليتوقف طوال أيام العيد. كان صوتها الحزين يخترق الجدران والنوافذ، ويتسربُ إلى غرفتي فيسرق نومي.
لم يكن الأمر يسيرا على كل حال. كنا نُربي صغارها بين أيدينا، ونلقمها مراضع أخوتنا التي لم يعودوا بحاجتها، نُطلق عليها الأسماء ونركض خلفها، فتلمعُ أعينها بفيض من المودة كلما مضينا جوارها، لكنها كانت تكبر بأسرع مما نظن، فتكابد مصيرا يجرفنا ونحن صغار لأوجاع غير محتملة!
قلتُ في نفسي ينبغي ألا نطعمها، وألا نطلق عليها الأسماء، إلى أن انفصلنا عنها بصورة جادة، مُجازفين بتمزق الألفة النادرة بيننا!
***
في ثالث أيام العيد نذهبُ إلى بلدتنا «الحيلين»، فنقصدُ «العزوة»، ذلك الفن البديع الذي يوحد الرجال، وليس ببعيد منهم تصطفُ النساء. لا أذكر على وجه الدقة الكلمات، ولكن من الموقع المرتفع الذي احجزه لنفسي يأسرني التناغم الآسر بين الغناء وحركة الأجساد وصليل السيوف. ومن ثم نمضي إلى الدكاكين الصغيرة، لننفق عيديتنا، فيذهب جلها في شراء اليانصيب والمفرقعات التي نضيء بها ليل «الحيلين».
وفي طريق العودة المُوحش حيث الظلام الكثيف يُحيط بسيارة عمّي «البيك آب»، تتناسل قصص السحر، فأقلب وجهي بين الجبال فأجدها كأذرعٍ تُعانق الكون، آنذاك يُخبرني خفقان قلبي المتسارع بأنّ وراء كل جبل يختبيء سحرة ومغاصيب!
***
لقد كبرتُ في حقل، حيث الفرجة الساحرة، نخيل وأشجار «الأمبا» التي يسجد ثمرها من ثقله -على حد تعبير أمّي- كبرتُ وأنا أحصي أرخبيلات الموز الشاسعة راكضة تحت غلالة من الضوء، ولو أنني واصلتُ المشي إلى حدود مزرعة جدي لأمكنني أن أرى البحر بعيني.. لم يكن العيد خارج هذا الحقل يعني شيئا البتة. كانت روائح الأخشاب المحروقة تملأ الحقل بحنين جارف، فتُعيدنا لنأكل «المشاكيك» التي يتناوب الجيران على وضعها فوق «الصار»، كما يتناوبون على إلقاء «جواني» لحم شوائهم في التنور. كنا نراقب كل تلك التفاصيل الصغيرة بأعينٍ تواقة لعالمنا الوحيد!
وكما يبدو أنّ ما يتبقى لنا نحن الكبار: لا أن نعيش العيد وإنما أن نتجلى في صور ذاكرتنا. بينما يعيشُ أبناؤنا الآن فيضا هائلا من التحولات. لكنني أظن: لا ينبغي بأي حال أن نُفضل زماننا على زمانهم، وليس لنا أن نُلغي حياتهم لحنيننا المبالغ فيه لذكرياتنا!
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
وفي الليلة الموعودة يُجافينا النوم، فتصبح عقارب الساعة أبطأ من المعتاد، كأنّها تتقصد اغاضتنا. قد لا يتعلق الأمر بعقارب الساعة وحسب، قدر ما يتعلق بأيدينا وأقدامنا التي تربطها أمّنا بإحكام بأقمشة وقراطيس بلاستيكية كي لا ينفلت «الحناء» فيلوثُ فراشنا!
في اليوم التالي تغسل أمّي أيدينا وأقدامنا لنشهد تغير لونها الجذاب، نشهد تغير لون أظافرنا بقدرة قادر، فنلبسُ ثيابنا وأحذيتنا وننتظر العائدين من صلاة العيد. نُلقي عليهم التحية فيضعون المال في حقائبنا الصغيرة، نفترش الأرض لنعد «العيدية» مرارا وتكرارا، وكأنّها ستزيد بتكرار العد!
***
قالوا لي بأنّ الحيوانات لا تملكُ شعورا أو عاطفة، حدث ذلك عندما توقفتُ عن تناول اللحم في المرحلة الإعدادية لفترة قصيرة من حياتي، لكني لم أكن لأصدقهم، فثغاء العنزات «الأمهات» لم يكن ليتوقف طوال أيام العيد. كان صوتها الحزين يخترق الجدران والنوافذ، ويتسربُ إلى غرفتي فيسرق نومي.
لم يكن الأمر يسيرا على كل حال. كنا نُربي صغارها بين أيدينا، ونلقمها مراضع أخوتنا التي لم يعودوا بحاجتها، نُطلق عليها الأسماء ونركض خلفها، فتلمعُ أعينها بفيض من المودة كلما مضينا جوارها، لكنها كانت تكبر بأسرع مما نظن، فتكابد مصيرا يجرفنا ونحن صغار لأوجاع غير محتملة!
قلتُ في نفسي ينبغي ألا نطعمها، وألا نطلق عليها الأسماء، إلى أن انفصلنا عنها بصورة جادة، مُجازفين بتمزق الألفة النادرة بيننا!
***
في ثالث أيام العيد نذهبُ إلى بلدتنا «الحيلين»، فنقصدُ «العزوة»، ذلك الفن البديع الذي يوحد الرجال، وليس ببعيد منهم تصطفُ النساء. لا أذكر على وجه الدقة الكلمات، ولكن من الموقع المرتفع الذي احجزه لنفسي يأسرني التناغم الآسر بين الغناء وحركة الأجساد وصليل السيوف. ومن ثم نمضي إلى الدكاكين الصغيرة، لننفق عيديتنا، فيذهب جلها في شراء اليانصيب والمفرقعات التي نضيء بها ليل «الحيلين».
وفي طريق العودة المُوحش حيث الظلام الكثيف يُحيط بسيارة عمّي «البيك آب»، تتناسل قصص السحر، فأقلب وجهي بين الجبال فأجدها كأذرعٍ تُعانق الكون، آنذاك يُخبرني خفقان قلبي المتسارع بأنّ وراء كل جبل يختبيء سحرة ومغاصيب!
***
لقد كبرتُ في حقل، حيث الفرجة الساحرة، نخيل وأشجار «الأمبا» التي يسجد ثمرها من ثقله -على حد تعبير أمّي- كبرتُ وأنا أحصي أرخبيلات الموز الشاسعة راكضة تحت غلالة من الضوء، ولو أنني واصلتُ المشي إلى حدود مزرعة جدي لأمكنني أن أرى البحر بعيني.. لم يكن العيد خارج هذا الحقل يعني شيئا البتة. كانت روائح الأخشاب المحروقة تملأ الحقل بحنين جارف، فتُعيدنا لنأكل «المشاكيك» التي يتناوب الجيران على وضعها فوق «الصار»، كما يتناوبون على إلقاء «جواني» لحم شوائهم في التنور. كنا نراقب كل تلك التفاصيل الصغيرة بأعينٍ تواقة لعالمنا الوحيد!
وكما يبدو أنّ ما يتبقى لنا نحن الكبار: لا أن نعيش العيد وإنما أن نتجلى في صور ذاكرتنا. بينما يعيشُ أبناؤنا الآن فيضا هائلا من التحولات. لكنني أظن: لا ينبغي بأي حال أن نُفضل زماننا على زمانهم، وليس لنا أن نُلغي حياتهم لحنيننا المبالغ فيه لذكرياتنا!
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى