حتى البرهة الراهنة، تستحوذ علينا فكرة رومانسية تومئ إلى أنّ مشاعرنا الانفعالية لا يمكن تزييفها وهي جوهر الفرق بيننا وبين الآلة!
ولكن كما يبدو لم يعد كافيا أن نحتمي بمظلتنا الانفعالية التي يُدافع عنها رولان بارت عند الكتابة قائلا: «لا يمكن لأحدنا أن يكتب دون أن يتخذ موقفا انفعاليا مهما بلغ تجرد الرسالة الظاهرة مما يحدث في العالم»، فها هي الآلة تكتب دون أن يرف لها جفن مستعينة بمخزون هائل من المعلومات! بطريقة مُرعبة، ندركُ الآن أنّ ما اقترحته أفلام الخيال العلمي على مدى عقود، حول توحش «الآلة» واختراقها لأدق التفاصيل، يغدو حقيقة مُربكة ومتسارعة النفاذ إلى صميم حياتنا، بل تتمكن «الآلة» بصورة مذهلة من زعزعة اطمئناننا الهش والأخير، فلقد ظننا بمثالية ساذجة أنّ الآلة مهما بلغ تفوقها فإنها لن تقدر على اختراق ذلك الغشاء الرقيق الذي يُحيط بالأدب والفن والموسيقى، باعتبارها أمورا لا تخرج إلا من حساسية إنسانية وإدراك عميقين، لكن ها هو «الذكاء الصناعي» الجديد يكسر كل أسوارنا التي ظنناها منيعة، يكسر كل تصوراتنا الواهمة عن أنفسنا، لنراه يرسم لوحة ويؤلف نصّا أدبيا متماسكا أو مقطوعة موسيقية بل ويُبدي رأيا نقديا ويؤلف الشعر والقصص بصورة تتجاوز الفانتازيا! فإن كان أوسكار وايلد قد قال يوما: «الحياة تقلد الفن»، فنحن نجزم الآن بأنّ الحياة التقنية تتجاوز الفن وكلّ أساطيره! أتذكر رواية «فرنكشتاين» لماري شيلي، عندما قضى الوحش على الإنسان الذي صنعه، هنالك من كتب آنذاك أنّ الرواية ضد غطرسة العلم. وكما يبدو يعترينا الآن قلق مُشابه بسبب اقتراب «الذكاء الاصطناعي» من أكثر سمات وأفعال البشرية حساسية، وكأنه يهدد ماهيتنا !
سأتذكر ما قاله عيسى مخلوف في حوار أجري معه عندما حلّ ضيفا على معرض الكتاب في مسقط 2023، فهو يجد أن هذه الصدمة كابدها من قَبْل الفنانون التشكيليون الذين عملوا لسنوات طويلة لرسم لوحاتهم شديدة الدقة، ثم جاءت الآلة في عام 1800 م، لتقترح شكلا جماليا جديدا بضغطة زر واحدة، بالتأكيد لم تكن صدمة عابرة، لقد شعر الفن التشكيلي بالتهديد أيضا، ولكن بعد استيعاب المرحلة تساير الرسم والتصوير، واستفاد أحدهما من تقنيات الآخر. فهل نكابد صدمة مشابهة الآن؟! أم أنّ الصدمة أكثر عنفا في التسارع المحموم الذي يصعب القبض على لجامه؟!
من المؤكد أن حياتنا بعد ثورة الذكاء الاصطناعي وتشات جي بي تي، لن تعود كما كانت مرة أخرى، ومن المؤكد أيضا بصفتنا مجتمعات من هذه البقعة من العالم الثالث، وباعتبارنا في خانة المستهلكين سيغدو المأزق أكثر تعقيدا، ريثما يتم استيعابه على نحو جيد. فماذا سيحل بمدارسنا وجامعاتنا التي تعاني أصلا من البحوث الجاهزة، وكيف ستواجه هذا الفيض من المعلومات التوليدية؟!
علينا ألا ننفي المخاوف من المعلومات المضللة والمزيفة وغير الدقيقة، ولكن «الذكاء الاصطناعي» سيدخل في صيرورة من التحسينات، فماذا عنا نحن؟
لعلي أؤمن بما قاله غوته: «الكائن الذي لا يتحول مصيره الزوال»، ولذا علينا أن نعترف، لم يعد بإمكاننا أن ننعزل، سنُخترق لا محالة! علينا أن نؤسس صمّامات أمان لحماية المجتمعات، ليس بالنفور من مُقترحات العصر الجديد، بل بإيجاد صيغة واعية بداخل بنيته المغايرة، ليس بالاستخفاف أو التعنت، وإنما بإدراك واع أننا ينبغي أن نربي أبناءنا لغير زماننا، بانفتاح وتسلح معرفي.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
ولكن كما يبدو لم يعد كافيا أن نحتمي بمظلتنا الانفعالية التي يُدافع عنها رولان بارت عند الكتابة قائلا: «لا يمكن لأحدنا أن يكتب دون أن يتخذ موقفا انفعاليا مهما بلغ تجرد الرسالة الظاهرة مما يحدث في العالم»، فها هي الآلة تكتب دون أن يرف لها جفن مستعينة بمخزون هائل من المعلومات! بطريقة مُرعبة، ندركُ الآن أنّ ما اقترحته أفلام الخيال العلمي على مدى عقود، حول توحش «الآلة» واختراقها لأدق التفاصيل، يغدو حقيقة مُربكة ومتسارعة النفاذ إلى صميم حياتنا، بل تتمكن «الآلة» بصورة مذهلة من زعزعة اطمئناننا الهش والأخير، فلقد ظننا بمثالية ساذجة أنّ الآلة مهما بلغ تفوقها فإنها لن تقدر على اختراق ذلك الغشاء الرقيق الذي يُحيط بالأدب والفن والموسيقى، باعتبارها أمورا لا تخرج إلا من حساسية إنسانية وإدراك عميقين، لكن ها هو «الذكاء الصناعي» الجديد يكسر كل أسوارنا التي ظنناها منيعة، يكسر كل تصوراتنا الواهمة عن أنفسنا، لنراه يرسم لوحة ويؤلف نصّا أدبيا متماسكا أو مقطوعة موسيقية بل ويُبدي رأيا نقديا ويؤلف الشعر والقصص بصورة تتجاوز الفانتازيا! فإن كان أوسكار وايلد قد قال يوما: «الحياة تقلد الفن»، فنحن نجزم الآن بأنّ الحياة التقنية تتجاوز الفن وكلّ أساطيره! أتذكر رواية «فرنكشتاين» لماري شيلي، عندما قضى الوحش على الإنسان الذي صنعه، هنالك من كتب آنذاك أنّ الرواية ضد غطرسة العلم. وكما يبدو يعترينا الآن قلق مُشابه بسبب اقتراب «الذكاء الاصطناعي» من أكثر سمات وأفعال البشرية حساسية، وكأنه يهدد ماهيتنا !
سأتذكر ما قاله عيسى مخلوف في حوار أجري معه عندما حلّ ضيفا على معرض الكتاب في مسقط 2023، فهو يجد أن هذه الصدمة كابدها من قَبْل الفنانون التشكيليون الذين عملوا لسنوات طويلة لرسم لوحاتهم شديدة الدقة، ثم جاءت الآلة في عام 1800 م، لتقترح شكلا جماليا جديدا بضغطة زر واحدة، بالتأكيد لم تكن صدمة عابرة، لقد شعر الفن التشكيلي بالتهديد أيضا، ولكن بعد استيعاب المرحلة تساير الرسم والتصوير، واستفاد أحدهما من تقنيات الآخر. فهل نكابد صدمة مشابهة الآن؟! أم أنّ الصدمة أكثر عنفا في التسارع المحموم الذي يصعب القبض على لجامه؟!
من المؤكد أن حياتنا بعد ثورة الذكاء الاصطناعي وتشات جي بي تي، لن تعود كما كانت مرة أخرى، ومن المؤكد أيضا بصفتنا مجتمعات من هذه البقعة من العالم الثالث، وباعتبارنا في خانة المستهلكين سيغدو المأزق أكثر تعقيدا، ريثما يتم استيعابه على نحو جيد. فماذا سيحل بمدارسنا وجامعاتنا التي تعاني أصلا من البحوث الجاهزة، وكيف ستواجه هذا الفيض من المعلومات التوليدية؟!
علينا ألا ننفي المخاوف من المعلومات المضللة والمزيفة وغير الدقيقة، ولكن «الذكاء الاصطناعي» سيدخل في صيرورة من التحسينات، فماذا عنا نحن؟
لعلي أؤمن بما قاله غوته: «الكائن الذي لا يتحول مصيره الزوال»، ولذا علينا أن نعترف، لم يعد بإمكاننا أن ننعزل، سنُخترق لا محالة! علينا أن نؤسس صمّامات أمان لحماية المجتمعات، ليس بالنفور من مُقترحات العصر الجديد، بل بإيجاد صيغة واعية بداخل بنيته المغايرة، ليس بالاستخفاف أو التعنت، وإنما بإدراك واع أننا ينبغي أن نربي أبناءنا لغير زماننا، بانفتاح وتسلح معرفي.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى