لقد أعلن موريس تشانج، المؤسس الأسطوري للشركة الرائدة على مستوى تايوان (والعالم) في إنتاج أشباه الموصلات في أواخر العام الماضي بأن «العولمة على وشك الموت»، ففي عالم تعطلت فيه سلاسل التوريد بسبب «كوفيد-19» وزاد فيه التنافس الصيني الأمريكي، اتفق المعلقون الآخرون مع هذا الرأي وبدأت العديد من الشركات في تحويل مشترياتها للبضائع من بلدان أخرى بعيدة إلى البلد الأم أو إلى بلد قريب، ولكن من الخطأ الاستنتاج بأن العولمة قد انتهت، حيث إن الكثير من وقائع التاريخ البشري تكشف لنا عن سبب ذلك.

إن العولمة هي ببساطة نمو الاعتماد المتبادل عبر مسافات عابرة للقارات، بدلا من مسافات على مستوى البلد نفسه أو الإقليم. إن العولمة ليست جيدة ولا سيئة في حد ذاتها، بل لها أبعاد عديدة وهي بالتأكيد ليست جديدة. لقد دفع تغير المناخ والهجرة إلى انتشار البشر في جميع أنحاء الكوكب منذ أن بدأ أسلافنا بمغادرة إفريقيا منذ أكثر من مليون عام، وفعلت العديد من الأنواع الأخرى الشيء نفسه.

طالما أدت هذه العمليات إلى ظهور تفاعلات حيوية واعتماد متبادل. لقد نشأ الطاعون في آسيا ولكنه قتل ثلث السكان الأوروبيين. عندما سافر الأوروبيون إلى نصف الكرة الغربي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حملوا معهم مسببات الأمراض التي قضت على السكان الأصليين. ترجع العولمة العسكرية على أقل تقدير لزمن زركسيس ثم الإسكندر الأكبر الذي امتدت إمبراطوريته عبر ثلاث قارات، وبالطبع لم تغرب الشمس أبدا عن الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر، ومن خلال ذلك كله انتشرت الأديان الرئيسية أيضا عبر قارات متعددة وهذا يعد شكلا من أشكال العولمة الاجتماعية والثقافية.

أما في الآونة الأخيرة، فلقد كان التركيز على العولمة الاقتصادية: التدفقات العابرة للقارات من السلع والخدمات ورأس المال والتكنولوجيا والمعلومات، ومرة أخرى، العملية ليست جديدة، ولكن التغييرات التكنولوجية قللت إلى حد كبير من التكاليف المرتبطة بالمسافة مما جعل العولمة الاقتصادية اليوم «أكبر وأسرع». لقد ربط طريق الحرير آسيا وأوروبا في العصور الوسطى لكنه لا يضاهي التدفقات الهائلة لسفن الحاويات الحديثة، ناهيك عن اتصالات الإنترنت التي تربط القارات بشكل فوري.

بينما كان يُنظر إلى العولمة في المقام الأول على أنها ظاهرة اقتصادية في القرن العشرين، إلا أنها أصبحت كلمة سياسية طنانة (للمؤيدين والنقاد على حد سواء) في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. عندما حطم المشاغبون في دافوس نوافذ مطعم ماكدونالدز للاحتجاج على ظروف العمل في آسيا، كانت تلك عولمة سياسية.

من الواضح أن العولمة الحالية تختلف عن تلك التي كانت في القرن التاسع عشر وذلك عندما كانت الإمبريالية الأوروبية مسؤولة عن معظم هيكلها المؤسسي، وكان هناك عدد أقل من الناس يشاركون فيها بشكل مباشر بسبب تكاليفها المرتفعة. لقد بدأت الشركات الغربية في الانتشار حول العالم في القرن السابع عشر، وبحلول نهاية القرن التاسع عشر كان المخزون العالمي من الاستثمار الأجنبي المباشر يعادل حوالي 10٪ من الناتج العالمي. بحلول عام 2010 شمل المخزون العالمي من الاستثمار الأجنبي المباشر الشركات غير الغربية وكان يعادل حوالي 30٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

عشية الحرب العالمية الأولى عام 1914 كانت هناك درجة عالية من الترابط العالمي بما في ذلك تحركات الأشخاص والسلع والخدمات، وكان هناك أيضا عدم مساواة، لأن فوائد العولمة الاقتصادية كان يتم تقاسمها بشكل غير متساو، لكن الترابط الاقتصادي لم يمنع الشركاء التجاريين الرئيسيين من قتال بعضهم البعض (ولهذا السبب أطلق الناس في تلك الحقبة على ذلك القتال الحرب العظمى) وبعد تلك السنوات الأربع من العنف والدمار التي خلفت الخراب، انخفض الترابط الاقتصادي العالمي بشكل حاد، ولم تعد التجارة والاستثمار العالميان إلى مستوياتهما في عام 1914 حتى الستينيات من القرن الماضي.

هل يمكن أن يحدث الشيء نفسه مرة أخرى؟ نعم، إذا ارتكبت الولايات المتحدة وروسيا أو الصين خطأ فادحا وانخرطت في حرب كبرى، لكن باستثناء هذا الاحتمال، فإن من غير المرجح أن يحدث الشيء نفسه مرة أخرى، وعلى الرغم من كل هذا الحديث عن «الانفصال» الاقتصادي، كانت الانقطاعات حتى الآن انتقائية وغير كاملة. لقد حققت التجارة العالمية في السلع والخدمات عودة قوية بعد الانكماش الذي حصل بسبب فيروس كورونا في عام 2020 وعلى الرغم من عدم تعافي جميع المجالات بالتساوي.

مع قيام الولايات المتحدة بإنشاء حواجز جديدة لإعاقة تدفق بعض السلع الحساسة من وإلى الصين، ارتفعت وارداتها من الصين بنسبة 6٪ فقط مقارنة بمستويات ما قبل كوفيد، بينما ارتفعت وارداتها من كندا والمكسيك بأكثر من 30٪. إذن في حالة الولايات المتحدة يبدو أن المناطقية قد تعافت بشكل أكبر من العولمة. لكن لو نظرنا عن كثب سنجد أنه بينما انخفضت حصة الصين من واردات أمريكا من 21٪ إلى 17٪ بين عامي 2018 و2022، ارتفعت واردات الولايات المتحدة من فيتنام وبنجلاديش وتايلاند بأكثر من 80٪. إن من المؤكد أن هذه الأرقام لا توحي بأن العولمة قد ماتت.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه التجارة الآسيوية الجديدة مع الولايات المتحدة هي في الواقع تجارة صينية وسيطة، لا تزال الولايات المتحدة وحلفاؤها مرتبطين بشكل أعمق بالاقتصاد الصيني أكثر مما كان عليه الحال مع الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة. ويمكن للدول الغربية تقليل مخاطرها الأمنية من خلال استثناء الشركات الصينية مثل هواوي من شبكات الجيل الخامس للاتصالات وبدون تكبد التكاليف المرتفعة جدا والاستثنائية لتفكيك جميع سلاسل التوريد العالمية.

علاوة على ذلك، حتى لو أدت المنافسة الجيوسياسية إلى تقليص العولمة الاقتصادية إلى حد كبير، فإن العالم سيظل شديد الترابط من خلال العولمة البيئية حيث تخضع الأوبئة وتغير المناخ لقوانين البيولوجيا والفيزياء وليس السياسة. لا يوجد بلد يستطيع حل هذه المشاكل بمفرده. يمكن أن تؤدي غازات الدفيئة المنبعثة في الصين إلى ارتفاع مكلف في مستوى سطح البحر أو اضطرابات الطقس في الولايات المتحدة أو أوروبا، والعكس صحيح.

قد تكون هذه التكاليف هائلة. يقدّر العلماء أن كل من الصين والولايات المتحدة تكبدت أكثر من مليون حالة وفاة نتيجة لجائحة «كوفيد-19» التي بدأت في ووهان، ويرجع ذلك إلى حد ما إلى فشل كلا البلدين في التعاون بشأن الاستجابة المتعلقة بالسياسات. سيتطلب النجاح في معالجة تغير المناخ أو الأوبئة المستقبلية الاعتراف بالترابط العالمي وحتى لو كان الناس لا يحبون ذلك.

إن العولمة مدفوعة إلى حد كبير بالتغيرات التكنولوجية التي تقلل من أهمية المسافة، وهذا لن يتغير. إن العولمة لم تنته بعد ولكن ربما لم تعد من النوع الذي نريده.

جوزيف ناي سكرتير مساعد وزير الدفاع السابق، وأستاذ في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «القوة الناعمة» وكتاب «مستقبل القوة» وكتاب «هل انتهى القرن الأمريكي؟».

خدمة بروجيكت سنديكيت.