ترجم مؤخرا كتاب «قدوم الثورة الفرنسية 1789م» للمؤرخ الفرنسي جورج لوفيفر (ت 1959م)، والذي أطلق عليه مؤرخ الثورة الفرنسية، حيث اهتم بها في السوربون، وأسس لها معهد تاريخ الثورة الفرنسي، وكما تحدث عنه ألبير سوبول (ت 1982م) في مقدمته للكتاب أنه «كرس مجمل حياته للتدريس والبحث التاريخيين، منذ وثائقه المتعلقة بتاريخ أشكال العيش في منطقة بيرغ، إلى دراساته حول الثورة الفرنسية، التي نشرت بعد ذلك بأربعين سنة».

ترجم الكتاب إلى العربية، وقدم له عبد النبي كوَارة، وطبعه منتدى العلاقات العربية والدولية بقطر، في طبعته الأولى 2021م، وهو من الكتب القيمة التي لا تنظر إلى الثورة الفرنسية كحدث سياسي مجرد، بل يربط بين الاقتصاد والاجتماع وتأثير ذلك على الوضع السياسي، فهو يفككك الوضع الاقتصادي بإسهاب، كما أنه لا يهمل أثر النظريات الإنسانية وعلى رأسها المساواة والعدالة في التأثير على العقل الجمعي، وبالتالي التأثير الاجتماعي على السياسي، فيرى أنه يوجد سببان رئيسان للثورة الفرنسية: «مناداتها بحقوق الإنسان والمواطن التي أججت النفوس»، ولأن «لويس السادس عشر (ت 1793م) وضع ماليته في وضع سيئ عندما منحها الدعم»، ويرى «أن الفكر الثوري ولد من رحم الحراك الاقتصادي والاجتماعي».

ولعل هناك سؤال لطالما طرح في صناعة الحدث وما يتبعه من تغيير، فمن يصنع الحدث؟ هل يصنعه الشخوص، أو أن هناك اقتضاءات سابقة تدفع بالشخوص إلى صناعة ذلك الحدث، بمعنى لو ولد ذات الشخوص في فترة متقدمة وكانت الاقتضاءات غير مهيئة لذلك الحدث بسننيتها، لما استطاعوا صنع ذلك مع ذات عبقريتهم وحضورهم، لهذا نجد جورج لوفيفر يفككك هذه الاقتضاءات التي خلقت الثورة الفرنسية، من القرن الرابع عشر الميلادي، وحتى الثامن عشر، ومن الثورة الأرستقراطية، إلى الثورة البرجوازية فالشعبية، فثورة المزارعين، وهنا يفككك الحدث التأريخي، وفق المنظومة الاقتصادية والاجتماعية، وتأثيرها على السياسي، فهو معني بالحدث أكثر من الشخوص، وهذا خلاف ما اعتدنا قراءاته في دراساتنا التأريخية العربية من الاعتناء بالشخوص أكثر من اقتضاءات الحدث، وكأن عبقرية التغيير أقرب إلى الأساطير والمعاجز الفردية.

هنا يرجع لوفيفر «السبب الأول لثورة 1789م إلى أعماق تاريخ فرنسا، حتى نهاية القرن الثامن عشر ظلت البنية الاجتماعية لفرنسا أرستقراطية، وحافظت على أثر أصلها، في حين كانت الأراضي تشكل الثروة الوحيدة إلى حد كبير، ومالكوها كانوا أسياد أولئك الذين هم في حاجة إليها للعمل والعيش»، فنهضة التجارة والصناعة خلفت من القرن الرابع عشر «شكلا جديدا من الثروة، الثروة المالية، وطبقة جديدة، طبقة البرجوازية»، وفي القرن الثامن عشر «صارت البرجوازية هي التي تتدخل لإنقاذ الخزينة الملكية في الأوقات الصعبة، وينتمي إلى صفوفها أغلب الموظفين العموميين، وأصحاب المهن الحرة»، لهذا كتب شاتوبريان (ت 1848م): «بدأ الأرستقراطيون الثورة وأكملها الفقراء».

ينطلق لوفيفر في كتابه إلى أن بدايات الثورة الفرنسية ارتبط بالأرستقراطيين، وصراعهم مع سلالة آل كابيه لإعادة نفوذهم السياسي، حيث «في فرنسا القديمة كان القانون يميز بين ثلاث طبقات: رجال الدين، والنبلاء، والطبقة الثالثة»، «فيتمتع رجال الدين بأعظم الامتيازات... ومزودون بمحاكم خاصة، المحاكم الأسقفية، ولا يدفعون أي ضريبة، ويحددون بأنفسهم الهبة المجانية التي يمنحونها للملك ... وكانوا أسيادا في العديد من القرى، ويتلقون إتاوات سيادية... ويحتكرون التعليم والمساعدة، ويشاركون في فرض الرقابة على كل ما يطبع قانونيا»، وبعد طبقة رجال الدين تتمتع طبقة النبلاء بامتيازات شرفية ونفعية، «غير أنها أقل من امتيازات رجال الدين»، «وإن ما يميز النبالة حقا هي الولادة، إذ يمكن للمرء أن يصبح نبيلا؛ لكن في نظر الجميع النبيل الحقيقي هو الذي يولد نبيلا»، وهذه الطبقة «لم تكتف باحتكارها الوظائف العمومية؛ صارت تطمح إلى المشاركة في السلطة المركزية، والاستيلاء على الإدارة المحلية بأسرها».

بيد أن لوفيفر ينصف رجال الدين، فيميل إلى رأي إيمانويال سياس (ت 1748م) إلى أن رجال الدين هم «مهنيون وليسوا طبقة اجتماعية، وحدتهم روحية بحتة... يمثلون الكنيسة والمجتمع الإلهي والمثالي... ويمكن التمييز بين النبلاء... الذين يشتغلون المراتب العليا: الأساقفة والقساوسة وبعض الكنسيين... والعوام، وهم غالبية الكهنة والنواب والرهبان... والذين سيحققون الفوز للطبقة الثالثة».

هنا استثمر الأرستقراطيون الوضع الاقتصادي السيئ لصالحهم، حيث «الإسراف المخزي للوزراء والبلاط، وإلى المكاسب البشعة للماليين الصارمين في تحصيل الضرائب غير المباشرة»، «ففي الجيش على سبيل المثال أصبح عدد الضباط كبيرا جدا، ووحدها المحسوبية تبرر بعض المعاشات»، وفي المقابل» لم تكن هناك رغبة في سد العجز عن طريق الزيادة في الضرائب الموجودة، فهي أصلا ثقيلة جدا»، «وسنلاحظ أن الأسعار ارتفعت بنسبة 65 في المائة ... ولأن القدرة الشرائية قد تقلصت عند شرائح عريضة من المجتمع».

لهذا «شكلت الأرستقراطية تكتلا ضد سلطة الملك، وأظهر الولاة ترددا أمام تحالف الممالك، والجمعيات الإقليمية، والمجلس الأعلى لرجال الدين»، «واشترطت رسميا صياغة الدستور، والتصويت الضريبي من طرف الجمعيات العامة... مع رغبتها في حماية الحرية الفردية، وحرية الصحافة، بل حرية الضمير».

وفي مقابل الثورة الأرستقراطية كانت الثورة البرجوازية، والبرجوازية من الطبقة الثالثة، وتتمدد من «الأكثر ثراء بين البرجوازية إلى الأكثر فقرا بين المتسولين»، فالطبقة الثالثة اجتماعيا قادت الثورة، إلا أن البرجوازيين جنوا معظم ثمارها، فالبرجوازية «خرجت من صفوف المزارعين»، واستثمرت المال والعقار والتجارة والصناعة والمهن الحرة، «فتميزت بتنوع كبير في الأحوال»، «فالتجار الكبار يعيشون في الفنادق الخاصة الرائعة بالأحياء الجديدة في باريس والمدن الكبرى».

أصبح العامل الوحيد الذي يميز الأرستقراطية عن البرجوازية هو عامل الدم، لهذا «ظلت البرجوازية لعدة قرون في غيرة من الطبقة الأرستقراطية، تفكر في التسلل إلى صفوفها، وقد نجحت في ذلك أكثر من مرة، فخلال القرن الثامن عشر صار عدد كبير من النبلاء ينحدر من الطبقة البرجوازية التي حصلت على النبالة»، «ثم أصبحت التراتبية القانونية وامتياز الولادة لا تتعارض مع الحفاظ على التراتبية المبنية على الثراء والوظيفة أو المهنة»؛ لأن مع الثراء العام تزايد البرجوازيون، وتعاظم طموحهم.

ومن رحم هذا التدافع بين الطبقتين كان الفكر الفلسفي يلقى رواجا كبيرا في الطبقة الثالثة، ولهذا الفكر «غذت مؤلفات الفلاسفة الدعاية الشفوية في الصالونات والمقاهي التي تكاثرت في القرن الثامن عشر»، وفي الجمعيات مثل: جمعيات الفلاحة والمدرسين والجمعيات الخيرية، وقد نتج عنها ضرورة «إبطال ميزة الدم لإفساح المجال للجدارة»، «وأنسنة السعادة في الدنيا عن طريق العلم وتحقيق كرامة الإنسان، ومنح الحرية المطلقة لروح البحث والابتكار»، «والمساواة بين جميع الناس، وعدم التمييز لسبب الولادة، ينقلنا إلى «منافسة كونية ينتج عنه تطور أبدي للبشرية»، كما نتج عنها نتائج عملية تمثل في أنه «أبدى عدد من البرجوازيين خاصة رجال القانون تأييدهم قضية البرلمان لمواجهة الوزراء الذين لا ينتظرون منهم شيئا إيجابيا»، ثم تأسيس الحزب الوطني أو القومي للوقوف ضد ذوي الامتيازات، ومن ذوي الامتيازات من وقف معهم.

ومع هذا «الطبقة الأرستقراطية هي التي أثارت الثورة من خلال إرغام الملك على استدعاء الجمعية العامة بعد أن أعطيت الكلمة للطبقة الثالثة، ووجب على النبلاء والملك أن يتنازلوا عن امتيازاتهم مؤقتا»، «واتفق النبلاء والبرجوازيون بخصوص التحول من الملكية إلى الحكومة الدستورية، دون أن يفقد لويس السادس عشر شيئا من سلطته».

ومع افتتاح الجمعيات العامة 1789م، والجدل والتدافع المترتب فيها ومنها؛ ورفض الملك لحكمة الأرستقراطيين والبرجوازيين، وعدم تنازل من النبلاء عن مصالحهم، في هذه الأجواء ولدت الثورة الشعبية، وضاعف في تحريكها الأزمة الاقتصادية والمجاعة والبطالة وغلاء الأسعار، لتبدأ الثورة الباريسية في 14 يوليو/ تموز 1789م، من التمرد إلى الاستيلاء على الباستيل واستسلام الملك، لكن الوضع لم يتوقف، والخوف لم يرتفع، ليولد بعدها ثورة المزارعين، «فهم يشكلون على الأقل ثلاثة أرباع سكان المملكة» أي فرنسا، «ولولا انضمامهم لما نجحت الثورة إلا بصعوبة»، حيث «وجهوا ضربة قاضية لما تبقى من النظام الإقطاعي».

هذه الثورات الأربع: الأرستقراطية والبرجوازية والشعبية والمزارعين، وما صاحبها من تدافع فلسفي وعملي ابتداء، واقتصادي واجتماعي، إلى مرحلة الدم والخوف والصراع ثم الاستقرار، في هذه الأجواء جميعها بتدافعها السنني، واقتضاءاتها التأريخية؛ «كان بزوغ فجر المساواة أمام القانون»، وأصبحت «الحرية والمساواة لا ينفصلان، «فأصبح الفرنسيون أحرارا ومتساوين في الحقوق، وأسسوا من جديد أمة واحدة غير قابلة للتجزئة»، ففي الاقطاعيات استطاع المزارعون أن يجعلوا سلطة السيد «مجرد مواطن عادي، وهو ما يعني المساواة».

آمن الفرنسيون بفكرة المساواة المرتبطة بالإنسان، وليست حكرا على الفرنسيين، «فالحرية والمساواة هما تراث مشترك للإنسانية»، كما «أن الأمم سوف تتصالح إلى الأبد في سلام عالمي بعد أن تصبح حرة»، إلا أن الواقع بعد ذلك انحرف في تعامل الجمهوريات الفرنسية المتعاقبة مع الشعوب المستعمرة من قبل فرنسا، كما في الجزائر وبلاد الشام مثلا، وكما يرى صادق جواد سليمان (ت 2021م) أن «الجمهورية الخامسة بعد مجيء ديغول (ت 1970م).. كانت فرنسا دولة استعمارية، فناهض الذي كانت عليه فرنسا، وغير توجه الجمهورية الفرنسية من الاستعمار إلى غيره».