عندما تساءل هيرمان هسّه حول ما يُؤجج فضول الغرب نحو عوالم الشرق المتمثلة في «ألف ليلة وليلة»، ظننتُ أنّه سيذهب إلى امتداح خصوبة المخيلة وفتنة الغرائبي وتدفق الحكايات وسحرها، ولكنه على نقيض ذلك وجد أنّ مجلدات «الليالي» لا توازي حكاية واحدة من حكايات «الأخوين جريم»، ولا تُضاهي أسطورة واحدة من الأساطير المسيحية المنحدرة من القرون الوسطى!
ولكم لفتتني هذه الفكرة الواردة في مقال تركه لنا هِسه في كتابه «فن الكسل»، الذي ترجمه عن الألمانية: أحمد الزناتي، وصدر عن منشورات حياة عام ٢٠٢٢.
يجد هسّه أنّ الغرب بالغ في تقدير «الليالي»، فهي لا تحوز قيمة جمالية، إذ سرعان ما يخفتُ الإبهار والتعجب الذي يُرافق قراءتها، أما تحليله للارتباط الذي أوقع الغرب في حبائل آداب الشرق فهو راجع لروح الخمول، «روح الكسل»!
«الكسل» الذي يُمجده هسّه هنا هو نفسه الذي مجده ميلان كونديرا في روايته «البطء»، فالإنسان يفقد في عجالته الإحساس العارم باللذة، بينما الوصف الدقيق الذي تمتعت به «الليالي» لخيمة أو بطانة سرج موشاة أو سرد فضائل درويش أو مآثر حكيم هو ما يُعيدُ ارتباطنا بفن الكسل والبطء، وليست وحدها القصص وإنّما أيضا مُستمع الليالي الذي لا يعرف نفاد الصبر ولا شهوة الكلام. يُعِدُ هسّه العرب «مليونيرات الوقت»، إذ أنفقوا آناء الليل وأطراف النهار في صوغ حكايات كهذه!
وإن كان هسّه بمبالغة كبيرة يُجرد الليالي من قيمتها التي ضمنت بقاءها إلى اليوم، فإنّه يقدم ذلك كنقيض للحضارة الغربية التي التهم دولاب العلوم الحديثة فيها «الشخصية الفردية» التهاما، فانهار فنُّ الكسل وتوارى، مؤكدا أنّ «الكسل» هو أكثر ما يحتاجه الفنانون والكُتاب، لأنّه يمنحهم الفهم الكافي للتجارب والأفكار التي تعبر حياتهم، فعندما تأبى بذرة الكتابة التفتح في ذهن مبدعها قبل أوانها، فليس على المبدع إلا أن ينعم بكسله ريثما تحين اللحظة.
وعودة إلى «الليالي» التي يراها هسّه تمثيلا صريحا للكسل، من خلال عقله الألماني ومشاعره التي يملؤها الحسد لقارة آسيا التي استطاعت عبر تدريبات روحية مُوغلة في القدم أن تصبغ إيقاعا نبيلا على ما يبدو له ظاهريا «حالة هلامية» أو حالة من «فعل اللاشيء»! نجد أنّ هذا الفن الذي عُزز وصُقل عبر التقاليد المتوارثة، يلتبس علينا كعرب بين معنيين متضادين، بين كونه «فنا» أصيلا أو «تعطيلا» عن اللحاق بالركب، لاسيما في خضم التحول إلى القرية الكونية الواحدة التي سبحنا فيها جميعا لنتماس مع روح الحداثة من جهة ونثقب هُويتنا من جهة أخرى!
ثمة نبرة تهكمية ساخرة لا يمكن تجاهلها في كتابة هسّه، ربما وكما يقول في مقدمة الكتاب: هي محاولة محُرضة لمحاربة التفاؤل المُخادع الذي يُسيطر على الرأي العام، ذلك الذي ينحو لإبراز الإنسان المُتمتع بالرضا التام عن نفسه بينما هو غارق حتى أذنيه في الرعونة والغطرسة.
لقد مرّ أكثر من قرن من الزمان على كتابة هذه الأفكار: 1904، لكنها جديرة بالنقاش، فمن الملفت حقا أنّ هسّة الذي لم يتمكن من الاستمتاع بالليالي التي استعارها من المكتبة وانكب على قراءتها، عمد إلى تحليل سبب إخفاقه ذاك، ومع الوقت وجد نفسه يتدرب على متعة مجهولة بالنسبة إليه، ألا وهي «فعل اللاشيء».
هكذا تكون الليالي التي لم تصنع المتعة صنعت حالة من الانسلاخ عن سيطرة الحياة الواعية لبرهة من الزمن، «فلا ينبغي لنا أن نقرأ لكي ننسى حياتنا اليومية، علينا أن نقرأ لنملك زمام حياتنا بشكل أكثر وعيا ونضجا».
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
ولكم لفتتني هذه الفكرة الواردة في مقال تركه لنا هِسه في كتابه «فن الكسل»، الذي ترجمه عن الألمانية: أحمد الزناتي، وصدر عن منشورات حياة عام ٢٠٢٢.
يجد هسّه أنّ الغرب بالغ في تقدير «الليالي»، فهي لا تحوز قيمة جمالية، إذ سرعان ما يخفتُ الإبهار والتعجب الذي يُرافق قراءتها، أما تحليله للارتباط الذي أوقع الغرب في حبائل آداب الشرق فهو راجع لروح الخمول، «روح الكسل»!
«الكسل» الذي يُمجده هسّه هنا هو نفسه الذي مجده ميلان كونديرا في روايته «البطء»، فالإنسان يفقد في عجالته الإحساس العارم باللذة، بينما الوصف الدقيق الذي تمتعت به «الليالي» لخيمة أو بطانة سرج موشاة أو سرد فضائل درويش أو مآثر حكيم هو ما يُعيدُ ارتباطنا بفن الكسل والبطء، وليست وحدها القصص وإنّما أيضا مُستمع الليالي الذي لا يعرف نفاد الصبر ولا شهوة الكلام. يُعِدُ هسّه العرب «مليونيرات الوقت»، إذ أنفقوا آناء الليل وأطراف النهار في صوغ حكايات كهذه!
وإن كان هسّه بمبالغة كبيرة يُجرد الليالي من قيمتها التي ضمنت بقاءها إلى اليوم، فإنّه يقدم ذلك كنقيض للحضارة الغربية التي التهم دولاب العلوم الحديثة فيها «الشخصية الفردية» التهاما، فانهار فنُّ الكسل وتوارى، مؤكدا أنّ «الكسل» هو أكثر ما يحتاجه الفنانون والكُتاب، لأنّه يمنحهم الفهم الكافي للتجارب والأفكار التي تعبر حياتهم، فعندما تأبى بذرة الكتابة التفتح في ذهن مبدعها قبل أوانها، فليس على المبدع إلا أن ينعم بكسله ريثما تحين اللحظة.
وعودة إلى «الليالي» التي يراها هسّه تمثيلا صريحا للكسل، من خلال عقله الألماني ومشاعره التي يملؤها الحسد لقارة آسيا التي استطاعت عبر تدريبات روحية مُوغلة في القدم أن تصبغ إيقاعا نبيلا على ما يبدو له ظاهريا «حالة هلامية» أو حالة من «فعل اللاشيء»! نجد أنّ هذا الفن الذي عُزز وصُقل عبر التقاليد المتوارثة، يلتبس علينا كعرب بين معنيين متضادين، بين كونه «فنا» أصيلا أو «تعطيلا» عن اللحاق بالركب، لاسيما في خضم التحول إلى القرية الكونية الواحدة التي سبحنا فيها جميعا لنتماس مع روح الحداثة من جهة ونثقب هُويتنا من جهة أخرى!
ثمة نبرة تهكمية ساخرة لا يمكن تجاهلها في كتابة هسّه، ربما وكما يقول في مقدمة الكتاب: هي محاولة محُرضة لمحاربة التفاؤل المُخادع الذي يُسيطر على الرأي العام، ذلك الذي ينحو لإبراز الإنسان المُتمتع بالرضا التام عن نفسه بينما هو غارق حتى أذنيه في الرعونة والغطرسة.
لقد مرّ أكثر من قرن من الزمان على كتابة هذه الأفكار: 1904، لكنها جديرة بالنقاش، فمن الملفت حقا أنّ هسّة الذي لم يتمكن من الاستمتاع بالليالي التي استعارها من المكتبة وانكب على قراءتها، عمد إلى تحليل سبب إخفاقه ذاك، ومع الوقت وجد نفسه يتدرب على متعة مجهولة بالنسبة إليه، ألا وهي «فعل اللاشيء».
هكذا تكون الليالي التي لم تصنع المتعة صنعت حالة من الانسلاخ عن سيطرة الحياة الواعية لبرهة من الزمن، «فلا ينبغي لنا أن نقرأ لكي ننسى حياتنا اليومية، علينا أن نقرأ لنملك زمام حياتنا بشكل أكثر وعيا ونضجا».
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى