أشرنا الأسبوع الماضي في القسم الأول من هذا المقال إلي أن العامل الثالث في النقلة الجديدة في سلوك صيني جديد في ممارسة السياسة الخارجية على الصعيد الدولي ارتبط بالمتابعة والقراءة الصينية الدقيقة للتطورات الأخيرة في الحرب الأوكرانية. صحيح أن الصين تبدو محايدة فيما يتعلق بالصراع العسكري للحرب الأوكرانية ولكنها قطعا ليست محايدة فيما يتعلق بالصراع الاستراتيجي لهذه الحرب، فهي تعرف على وجه اليقين أن هذه الحرب هي حربها بنفس القدر الذي هي فيه حرب روسيا. فإذا كان هدف واشنطن من حرب الوكالة ضد موسكو من خلال أوكرانيا هي إضعاف روسيا إلى درجة تسمح للولايات المتحدة بالتفرغ للصراع الأكبر مع الصين فإن الصين تعرف أن منع أمريكا من الاستفراد بها لاحقا مرهون بصمود روسيا في هذه الحرب وخروجها منها قوية ومرفوعة الرأس.

إن أحد أسباب مفارقة الحذر وسلوك رد الفعل الصيني إلى الطابع المبادر الجديد هو التطور الخطير الذي شهدته الحرب الأوكرانية في الشهر ونصف الماضيين من سقوط كل الروادع الغربية في التورط في النزاع مع روسيا فكل ما تعهدت به واشنطن ودول الناتو عن التزامها بعدم تقديم دبابات متقدمة وأنظمة صاروخية وحتى طائرات هجومية لأوكرانيا تم التخلي عنها وتتدفق دبابات «ليوبارد» و«تشالنجر» و«ابرامز» الغربية لتنضم إلى الجيش الأوكراني الذي كان قد تلقى عدة هزائم وبدا أنه على شفا مرحلة انهيار جزئي سواء بسبب زيادة أعداد القتلى بين صفوفه أو بسبب تدمير جزء مهم من معداته ونفاد جزء مهم من الذخيرة رغم الإمدادات الغربية الهائلة. إمدادات بدأت عملية استهلاكها ونفاذها القياسي من أيدي الجيش الأوكراني تقلق حتى القادة العسكريين الغربيين لدرجة التصريح العلني أنها قد تضع الجيوش الوطنية لبلادهم وحلف الناتو عموما في وضع دفاعي خطر في حال امتداد الحرب أو نشوء تهديد عسكري جديد.

مع هذه التطورات يمكن القول إن قرارا صينيا قد اتخذ بالانتقال إلى مرحلة الهجوم الدبلوماسي النشط للحيلولة دون أن يؤدي الاندفاع العسكري الغربي غير المحسوب والتسليح النوعي الجديد لأوكرانيا إلى انكسار عسكري روسي.

بعبارة أوضح يتصرف الصينيون - سياسيا وليس عسكريا - باعتبار أن روسيا هي خط الدفاع الأول عن الصين وأنهم لن يسمحوا بسقوط هذا الخط في يد الغرب. تعرف بكين أكثر من غيرها أن هزيمة روسيا عسكريا في الحرب الراهنة معناه سقوط نظام الرئيس بوتين الحليف لها وزيادة احتمالات تولي نظام موال للغرب في الكرملين وهو ما يشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي الصيني من بلد جار كروسيا له حدوده الطويلة مع الصين وهو تهديد لا تستطيع بكين التساهل معه أو قبوله.

لعل هذا يفسر المغزى الاستراتيجي الكبير لاختيار شي بينغ أن تكون أول زيارة رسمية له للخارج بعد توليه فترة الرئاسة الثالثة إلى روسيا. لكنه وهذا هو الأهم يفسر سقوط التعبير التقليدي أو الكليشيه العلاقات الصينية - الروسية «أكثر من صداقة وأقل من تحالف». يجازف هذا المقال بالقول بأن ما نتج عن هذه الزيارة هو تحالف حقيقي ولا أعرف معنى آخر لقول شي بينغ لبوتين «نحن الصين وروسيا سنقود التغييرات التي تحدث الآن والتي لم يشهدها العالم منذ ١٠٠ عام»، والمعنى أنهما يقودان معا تحالفا يهدف لصنع نظام جديد للعلاقات الدولية ينهي اللامركزية الغربية وهيمنة قائدها الأمريكي الحالي على الشؤون العالمية.

ولا أعرف معنى آخر لتعبير أن «صداقتنا أبدية» الذي قال به بوتين وبينغ غير أنهما يتحدثان عن تحالف استراتيجي (ليس بالضرورة عسكريا ولكن قابل لذلك إذا ادلهمت الخطوب ووضعت مصائر بلديهما على المحك). وهي مصائر باتت مرتبطة بدرجة وثيقة ولوقت غير قليل في المستقبل ببعضهما البعض. الأهداف العالمية للسياسة الخارجية النشطة والجديدة لبكين من إعلان التزامها الاستراتيجي بعدم السماح بهزيمة روسيا أو سقوط بوتين: تسعى الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم عبر تحالفها مع روسيا تاسع أكبر اقتصاد بالمعيار الدولاري ٢٠٢٢ إلى تحقيق أهداف تنموية واستراتيجية في مواجهة واشنطن وحلفائها تدفع من خلالها مسيرتها نحو عالم متعدد الأقطاب والأجناس:

- ١- الإبقاء على إمدادات الغاز والنفط الرخيصة نسبيا من روسيا عبر حدودهما المشتركة التي لا يستطيع أن يعترضها أو يمنعها بلد آخر وذلك لمد شرايين الصناعة الصينية بالطاقة التي تحتاجها وترفع بالتالي صادراتها وميزانها التجاري الذي اقترب فائضه السنوي إلى ما يقرب من ٨٠٠ مليار دولار. يمكن للتحليل السياسي أن يصف الأمر على هذا النحو: إن الصين تسعى لأن تتمتع بالوضع الاستثنائي الذي تمتعت به ألمانيا وباقي أوروبا الغربية من معدلات نمو هائلة في العقود الماضية على قاعدة استيراد الغاز الطبيعي الرخيص من روسيا يساوي = تنمية صناعية وصادرات أوروبية هائلة، وتحل محلهم في هذه الميزة الهائلة بعد اضطرار أوروبا التخلي التدريجي عن واردات الغاز الروسي الرخيصة التزاما بالعقوبات الأورو- أطلسية على موسكو.

٢- تعرف الصين أنها متقدمة نسبيا في التكنولوجيا المدنية إذا صح التعبير أكثر من التكنولوجيا العسكرية والعكس صحيح بالنسبة للروس المتقدمين عسكريا ومتأخرين نسبيا في التكنولوجيا المدنية، تأمل بكين من تبادل الخبرات بين البلدين في صيغة تكامل يستفيد من المزايا النسبية لكل منهما الوصول إلي سد تدريجي للفجوة التقنية بينها وبين الغرب والوصول إلى مرحلة صين مستقلة تكنولوجيا عن الغرب. درس تعلمته بكين من المحظورات التي فرضتها أمريكا وحلفائها على صادرات تكنولوجية بعينها ومنعت وصولها إلى الصين مهددة الصناعة الصينية تهديدا خطيرا وهو نفس الدرس الذي تتشارك فيه مع روسيا. بل تعلمته موسكو بثمن أفدح من خلال عقوبات الغرب الاقتصادية والمالية والتكنولوجية غير المسبوقة بعد عمليتها العسكرية في أوكرانيا.

٣-الصين القادرة على امتلاك مزيد من القدرات الدولية لإضعاف هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي وعلى التجارة والاحتياطيات النقدية العالمية.

فكما لاحظ المحلل الأمريكي فريد زكريا أن أخطر عبارة وردت في اتفاقيات بوتين - بينغ هي قول بوتين «إننا نؤيد استخدام اليوان الصيني للتسويات التجارية بين روسيا ودول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية». أي أنه هنا -حسب قوله يتحالف أكبر مصدر للطاقة «روسيا» مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم «الصين» التقليل من هيمنة الدولار كمرتكز للنظام المالي، أي أن زكريا يشير إلى أن التحالف الروسي- الصيني بات موجها لانتزاع القوة العظمى الأخيرة التي تتحكم أمريكا بها في العالم اقتصاديا وسياسيا.

٤- الصين القادرة على تحقيق استراتيجيتها الصبورة التي تعمل عليها منذ سنوات وأنفقت فيها مئات المليارات من الدولارات في عمليات بنية تحتية في آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا ألا وهو إعادة بناء طريقة الحرير القديم وهو ما يعني في الوضع المعاصر بناء سوق عالمي بديل للصادرات الصينية يحل تدريجيا محل الصادرات الصينية للغرب في حال وصول المواجهة مع واشنطن في لحظة تاريخية ما إلى عقوبات وعمليات حظر تجاري غربي تغلق الباب أمام المنتجات الصينية.

٥-التمهيد لتشكيل أكبر كتلة يابسة أوراسية بقيادتها وبمشاركة روسيا ربما كما حلم يوما الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين عندما خاطب الزعيم الصيني ماو تسي تونج قائلا: «يجب أن يكون هناك نوع من تقسيم العمل، فربما عليكم أن تتحملوا مسؤولية أكبر تجاه الشرق وأن نتحمل نحن مسؤولية أكبر تجاه الغرب».

أو كما يحلم الآن الكسندر دوغين المفكر الروسي القومي الذي يدعو إلى تحالف أوراسي- جغرافي وحضاري أكبر لمواجهة المركزية الغربية يشمل الحضارة الروسية والحضارة الصينية والحضارة الإسلامية.

إلام ستصل الصين في الغاية النهائية من ذلك التحالف مع روسيا وغيرها من القوي الصاعدة؟ ستصل الي تحقيق وعد آخر لشي بينغ سبق أن تعهد به لشعبه هو الوصول إلى حالة الصين العظمى القوية الواحدة مرهوبة الجانب عالميا والتي تتحقق فيها وحدة الأراضي الصينية النهائية ويصبح انضمام تايوان إلى الوطن الأم أمرا واقعا قد لا يحتاج إلى حرب وقد يتحقق أيضا في وقت قريب وليس بعيد.

حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري