تُشكَّل الصحراء الغالبية العظمى من مساحة العالم العربي، ومع هذا فإن رواية الصحراء العربية لا تزال - من حيث الكم - أقلَّ بكثير من روايتي الريف والمدينة، لأسباب متعددة يطرحها هذا التحقيق، وأهمها شيوع المقولة النقدية أن الرواية هي ابنة المدينة في الأساس، وكذلك مغادرة كثير من الكتَّاب، أبناء الصحراء، خيامهم وتنعّمهم بحياة جديدة لا تعرف الخشونة كحيواتهم السابقة..
أصبح هناك عدد محدود من الأدباء أخلصوا لكتابة الصحراء مثل إبراهيم الكوني وعبد الرحمن منيف وخليل النعيمي، لكن هذا لا ينفي وجود بعض روايات متفرقة رسمت عالم الصحراء بامتياز، لكتّاب من أبناء المدن، مثل رواية «واحة الغروب» لبهاء طاهر، و«فساد الأمكنة» لصبري موسى. هذا التحقيق يهدف إلى رسم خريطة لرواية الصحراء في العالم العربي.
الكاتب البحريني غسان الشهابي يؤكد في بداية كلامه أن الصحراء تطبع حوالي 90% من مساحة الوطن العربي، ما عدا الأشرطة الضيقة التي تحيط بالأنهار القليلة والشحيحة في آن معا، ومع هذا فإن حضور الصحراء وثقافتها بشكل محوري في الروايات، يكاد يكون قليلا إن لم نقل نادرا، وقليلا ما يجري تناوله بالدقة والعمق ليعكس أثر الصحراء في هذه الأعمال.
إلا أن واحدا من الروائيين القلائل الذين حملوا سياط شموس الصحراء على كواهلهم هو الروائي الليبي إبراهيم الكوني (1948) إذ هو واحد من أهم الذين أحدثوا اختراقا هائلا لهذه البيئة التي يطنّ فيها الصمت، وتتسم بالعزلة أو اعتزال الناس لها، لقسوة العيش فيها.
بحسب غسان الشهابي فإن الكوني حين يُبحر في رمال الصحراء، فإنه يُنطِقها، يداعب بكلماته كل المكونات في الحياة البدوية، يستجلب الثقافة، والحيوانات (رواية «التبر»)، ويغرق في توظيف الأساطير الصحراوية («التبر» و«المجوس» وغيرهما)، وبينما تأتي أكثر الروايات في هذه السنوات عامرة بالجغرافيا ومتكئة على التاريخ يأتي الكوني بالأساطير، ولا نلبث أن نرى هذه الأساطير تتحقق الواحدة تلو الأخرى، ثم نرى الثواب أو العقاب جراء مخالفة الأسطورة أو «الناموس» كما يردد كثيرا في رواياته.
في الصحراء «الكونية»، هناك صمت طويل بين السؤال والجواب، وخطٌ في الرمال ريثما يدوزنُ الطرف الآخر ما سيقول، وهناك الشاي الأخضر ذو الطربوش، و«الودّان» النادر الوجود الآن، وغيرهما من مفردات الصحراء العربية الكبرى التي أضحت مع الكوني من الأمور التي تُرى وتُعاش، والمتتبع لأعمال الكوني القصصية والروائية، بحسب الشهابي، لن تفوته الالتفاتة إلى أنه سمكة لا تستطيع العيش في غير الصحراء، إذ حاول كتابة قصص قصيرة تنتمي إلى المدن، كما يفعل غالبية الروائيين العرب، ولكن هذه الأعمال لم تصادف النجاح نفسه الذي صادفته أعماله الصحراوية، ويعلق: «وكما هو واضح، فإن الرواية التي تركز على الصحراء في ليبيا، والروائيين، صارت من الكثرة بحيث تفرد لها جامعة سبها «جائزة رواية الصحراء»، نظرا لتفرد هذا التعاطي وخصوصيته لدى المبدعين الليبيين على ما يبدو».
الصحراء في الجوار
الكاتبة العمانية منى حبراس السليمية تقول إنه عندما يُثار حديث الصحراء يروق لها تذكر مناظر تلال الرمل على امتداد البصر بينما الشمس تؤذن بالغروب. مشهد رأته مئات المرات في اللوحات الفنية والصور الفوتوغرافية على الرغم من وجود الصحراء في الجوار. مؤكدة أنه عند الحديث عن الصحراء في الرواية لا يمكنها تجاوز اثنين من أبرز من كتبوا عنها في عالمنا العربي، هما عبدالرحمن منيف وإبراهيم الكوني على اختلاف رؤيتيهما في الكتابة عنها أو توظيفهما لها، مشيرة إلى أنه قد تخطر في البال روايات أخرى كثيرة بطبيعة الحال.
وتضيف: «بخلاف كل ما سبق، أستحضر كتاب «الرمال العربية» لويلفرد ثيسيجر بنحو خاص، الكتاب الذي قرأته أول مرة في ربيع عام 2007، ولا أنفك أعود إلى قراءته مرات ومرات من غير أن أصاب بالملل. يصور ثيسيجر/ أو مبارك بن لندن الصحراء العربية بعين الآخر، بصرف النظر عن مبررات عبوره منها، ولكن رحلته تلك أثمرت واحدا من أهم الكتب التي تناولت الصحراء العربية. ما فعله ثيسيجر بكتابه في عام 1959 لم يستطع أن يكرره خليفته أدريان هيز في عام 2011 عندما عبر الصحراء العربية أيضا مقتفيا خطى ثيسيجر، فالزمن قد تغيّر بعد كل شيء، والصحراء العربية قد تغيّرت كذلك. ولكن ثيسيجر الذي لم يرافقه سوى بن كبينة وبن غبيشة بين عامي 1945 و1950 ألّف كتابا خلده وخلد رحلته برفقتهما، بينما أدريان هيز الذي رافقته سيارات الدفع الرباعي والكاميرات - وقد تزود بلوازم الرحلات الحديثة - لم تسفر رحلته عن أكثر من تقرير متلفز بثته نشرات الأخبار، ولم تنتج كتابا ككتاب الرمال العربية. لذا قد نجدنا نسينا أدريان هيز ولكننا لن ننسى صاحب كتاب الرمال العربية».
الصحراء والساحل
الكاتب المصري أحمد عبد اللطيف قال إن القرية شغلت المساحة الأكبر في بدايات الرواية المصرية، حتى ظهرت المدينة لتكون، ليست فقط أرضًا للأحداث، وإنما سؤالًا في ذاتها وعلاقة الفرد بها. في حين كانت الصحراء الحلم البعيد. أثّر المكان الذي ولِد فيه الكُتّاب ومعرفتهم به في ظهور المكان الروائي، انطلاقًا من مقولة تبدو لي خاطئة تقول «اكتب عما تعرف»، وهي عبارة تقصي الفضول وحب المعرفة، كما تقصي الخيال الروائي في الوقت ذاته. غير أن هذه العزلة التي أحاطت الصحراء المصرية كسرتها في عدة مرات أعمال جديرة بإعادة قراءتها وتقييمها، إذ تمتعت بجمالية نبتت من المكان نفسه، وكان في اكتشاف الصحراء أفق لتأمل جديد، لعل أكثرها تأثيرًا «فساد الأمكنة» للكاتب الراحل صبري موسى. فمن الصحراء جاءت شاعرية اللغة، وكان في استحضار الطبيعة مثال مضاد، عن دون قصد، لما تمثله قسوة المدينة. واستطاع صبري أن يعيد من خلالها قراءة للهزيمة، منتصرًا للمجاز وللعمق الإنساني أكثر من انتصاره للحدث السياسي.
ويتساءل أحمد عبد اللطيف: ما الذي يمكن أن تقدمه الصحراء في عمل أدبي عكس ما تقدمه مدينة ساحلية؟ ويجيب على تساؤله: الساحل والبحر يمنح الأمل في التغيير والعبور، ثمة نظرة للخارج نعيد من خلالها تقييم الداخل. أما في الصحراء، فثمة نظرة إلى العمق، إلى الأحشاء، كأن ينظر الإنسان في قلبه. في هذه النظرة اكتشاف أعمق. لا تمنح الصحراء إلا الواقع، تأمله، مع اليقين في عدم معرفة حدوده واليقين التام في عدم تجاوزها. بذلك تخلق الصحراء، كمكان، ناسها، عادات وتقاليد، على عكس المدينة التي يخلقها سكانها ويطبعونها بطباعهم.
ويقول: «كابن للمدينة، لم أتمتع بحياة صحراوية، غير أن تجربتي في الحياة في صحراء لأيام متفرقة كانت فرصة لتأمل الحياة، ليس كمن يطل عليها من نافذة، وإنما كسائر بين رمالها. وكانت الصحراء، ولا تزال، المكان الذي أحلم بالحياة فيه، كأن الإنسان حين ينضج يحب أن يعود إلى الطبيعة الأم كما يحلم بالعودة إلى الفردوس الأول. كتبت كثيرا عن الصحراء التي عشت فيها، وعن صحارى العالم، أيضا. الصحراء كانت الأرض الأولى التي نشأت عليها، ومنها تعلمت الصبر والاحتمال والتعدد والحرية. وكلها، كما أتصوّر الآن، مفهومات إنسانية كونية لا مجال للقفز فوقها. وهي مفهومات نتعلمها مع المعلمين، في المدن، لكننا في الصحراء نتعلمها منها، من الطبيعة الأم التي تبهرنا بقوة منطقها، وأساليبها التي لا تُنسى».
صحراء عُمان باتجاه الربع الخالي
ويبدأ الكاتب السوري المقيم في فرنسا خليل النعيمي كلامه بالتأكيد على أنه في الكتابة عن الصحراء لا تهمّه الدِقّة في المكان والزمان فهما مرئيان ومُعاشان بشكل مباشر. ولا يبحث فيها عن حقيقة، أيضا، فكل شيء فيها مكشوف. وهي، أصلا، تنفي كل معْطى ثابت حتى ولو كانت «الحقيقة» نفسها. فعناصرها لا تكف عن التغيّر والتحوّر، إضافة إلى أنها تتميّز بعدم الركون إلى الأمان التقليدي الذي نصادفه في سكونية العالم الآخر، اللاصحراوي.
«ما وراء الصحراء» هو ما يريد التعبير عنه فيما يكتبه عنها، وليس مجرد وصفها الستاتيكي المحدود. يعلق: «أنا لا أبتغي في مقاربتي لها وصفها، ولا إثارة الاهتمام بها، وإنما أبحث عن الكيفية التي تصنع بها كائنات فضائها الغني والمليء بالكثير مما نجهله، وعن سرّ الوجود الخاص بها ذاك الذي يطبعنا بطابعه الخاص إلى الأبد. في الكتابة عنها نحن نبحث عن «روح الكون الأولى» المبثوثة في رمالها، والتي تتجسّد، من بعد، في مَنْ يعيش فيها: روح الحرية والتمرد والعزلة واللاامتثال. الصحراء، إذن، ليست وعاء للحياة، فحسب، وإنما هي دافع أساسي من دوافع إبداع الوجود، وإغنائه بدلالاتها اللانهائية.
في الصحراء اكتشف النعيمي أن «المطلق» ليس سوى أكذوبة. أكذوبة روّجها الذين متعتهم الحياة بما حرمت منه الآخرين! ويقول: «شيء واحد سأقتنع به: إرادة الحياة. فلكي يحيا الكائن عليه أن يتجاوز - حتى - طاقته على التحمل. وفي النهاية الصحارى مدن. مدن عماراتها الكثبان، وشوارعها الوديان. ملكتها الشمس، وسيدها القمر. رقباؤها النسور، وقادتها الأسود. حكماؤها الثعالب، ونساؤها الغزلان».
وينهي حديثه قائلا: «من الصحارى التي أثرت بي كثيرا، إضافة إلى الصحراء العربية: صحراء «أتاكاما» التشيلية، وصحراء موريتانيا، وصحراء عُمان باتجاه الربع الخالي. أما الكتب التي أثارتني فأهمها: «فساد الأمكنة» لصبري موسى، و«صحراء التتار» لدينو بوزاتي.
درجة الانتماء
تحضر الصحراء في كثير من الروايات العربية بحسب الروائي الجزائري خالد عمر بن ققه باعتبارها فضاء من ناحية الإلهام والإبداع، يتأثر بحركية الزمن عبر الفصول وتقلباتها، وكذلك من خلال إبصار آية النهار ومحو آية الليل، لكن ذلك الحضور يتنوع ويتعدد حسب القصد منه لدى الروائي من جهة، وطبقا لدرجة انتمائه للصحراء على المستويين الوجودي والوجداني من جهة أخرى. ويعلق: «تأسيسا على اطلاعي وقراءاتي لعدد من الروايات العربية، فإنه يمكنني القول: مهما يأتي الحديث عن الصحراء في تلك الأعمال ـ بموقعها الجغرافي، وبأحداثها التاريخية، وبانتماء شخوصها وأبطالها ـ وبغض النظر عن مستوى الإبداع فيها، فإنه لا يصل بنا إلى إقرار يصنفها باعتبارها «رواية صحراوية»، على غرار تلك التي ترتبط بالمدينة أو القرية، لكنها ـ بلا ريب ـ تأخذنا بكل تأكيد إلى مجال المتعة، لجهة اكتشاف المجهول، بما فيه الغرائبي، والخرافي، والروحاني، وذلك المتجسد في الذهن والغائب على مستوى الوعي، مثل: الشياطين، والجن، وأحيانا الملائكة». ويضيف: «على خلفية قراءاتي لروايات حضرت فيها الصحراء، فهي لا تُعْتَبَر مجسدة للأخيرة إلا إذا مثّلت فضاءً وفعلا إنسانيّا وذكريات وموروثا، وأطلالا، أو كانت أصواتا يرددها الكون فتُسْمَعُ فقط داخل أولئك الذين نشأوا فيها، ثم ولجوا عالمها، وفي وقت لاحق تشبَّعُوا بها فأغوَتْهُم، واعتبرت هي وحدها حياتهم، وظلت كذلك حتى بعد أن أصبحوا جزءا من المدينة والمَدنيَّة ـ وجودا وفكرا ومشاعر ـ على النحو الذي يظهر جليّا بتميّز وتدفُّق في معظم أعمال الروائي الليبي إبراهيم الكوني».
كفاف في كل شيء
الكاتب المصري علاء خالد يمنحنا ثلاثة أمثلة بثلاث روايات تتخذ من الصحراء مسرحا لأحداثها. الرواية الأولى هي «المجوس» للروائي الليبي إبراهيم الكوني وتتحدث عن عالم قبائل الطوارق في صحراء «آزجر»، هذا العالم معزول جغرافيا، وهذه العزلة هي ما حافظ على بقائه. ثم رواية الروائي المصري صبري موسى «فساد الأمكنة»، وتجري وقائعها في صحراء البحر الأحمر، قبل الثورة المصرية. أيضا تتحدث عن قبائل معزولة جغرافيا وثقافيا، هما قبيلتا البشارية والبجاة اللتان تسكنان هذا المكان الصحراوي، ثم يتم الكشف عن كنوز من الخامات تحتوي عليها الجبال والكهوف، فتتغير هوية الصحراء النقية، بدخول هذا «الآخر» المستثمر والمكتشف والمستغل في آن، وتؤدي إلى حدوث كارثة إنسانية بدخول «عصر الآلة».
الرواية الثالثة هي «النهايات» للكاتب السعودي عبد الرحمن منيف، وتتحدث عن قرية صحراوية «طيبة»، تلك القرية الرمزية المعزولة أيضا جغرافيا، وهي تتوسط البادية والبساتين، وتبعد عنها المدينة مسافة كبيرة، ومر عليها جنود من قبل أوقعوا بها ضحايا. تتعرض هذه القرية لكارثة القحط، بجانب الكارثة الأخرى وهي دخول الأغراب إليها بآلاتهم/ عرباتهم السريعة، والتي تؤدي إلى تغيير جوهري في نظرة البدوي للصحراء المقدسة ولنفسه، تجعله يشهر بالاغتراب داخلها. في الروايات الثلاث، بحسب علاء خالد، نلحظ تلك الروح الدينية التي تكتنف الأبطال ومصائرهم، فتتحول الصحراء إلى أسطورة محكية حدثت بالفعل في الماضي، وما تبقى منها هو الحكاية أو العبرة أو الحكمة التي تُحكى للأجيال. يتخلل هذه الروايات نبرة رثاء كون الصحراء تظهر دائما داخل هذه الروايات في لحظة تحول عبر أزمة/ كارثة طبيعية تمر بها. لذا تنشط العلاقة بالماضي كزمن أبدي ممتد لبداية الخلق. أورثت الصحراء ساكنيها هذه العلاقة المقدسة مع الماضي، ونشطَّت فيهم موهبة التذكر والتكرار للوصول إليه والتماهي معه، وأيضا نشطت فيهم عادة الحنين إليه.
ويضيف: «ثم جاء العصر الحديث، عصر الصناعة والآلة، لينتهك هذا الماضي المقدس. مع دخول مجتمع الآلة نشأت طرق جديدة للعيش مناقضة تماما لطريقة العيش القديمة التي كانت تعتمد على الكفاف والزهد وقلة الموارد، وحسن تدبيرها. لقد وصل هذا العصر الصناعي متأخرا للصحراء العربية، وبسببه أمكن الحصول على «الوفرة». والتي ستكون بداية لنمو رأسمال لم يعهده أهلها، سيؤدي لأشكال من السلطة والاستغلال، ستقطع العلاقة مع عالمهم القديم القائم على الزهد والكفاف في كل شيء».
مشيا على الأقدام في صحراء نجد
الكاتب السعودي فهد العتيق قرأ عددا من روايات الصحراء منها بعض روايات الكاتب السعودي عواض شاهر العصيمي. ورواية «غواصو الأحقاف» للكاتبة السعودية أمل الفاران ورواية «نقرات الظباء» للكاتبة المصرية ميرال الطحاوي. وقبل ذلك بسنوات قرأ رواية لا ينساها للكاتب الليبي إبراهيم الكوني هي «نزيف الحجر». ومثل هذه الروايات، بحسب العتيق، تكتسب جمالياتها وغناها من اللغة الممتعة ومن قدرة مثل هؤلاء الكتاب والكاتبات على الحكي بطريقة فنية جميلة غير متكلفة، بحيث تكون الحكاية هي الأساس ثم تكتشف مكانها الصحراوي وأسراره العميقة والممتعة وحكاياته الأسطورية.وينتقل فهد العتيق إلى نفسه: «أتذكر أنه في روايتي «كائن مؤجل» كتبت في فصل عن رحلة صحراوية حين غادر والد جدي قريتنا مع بعض أقاربه إلى الرياض مشيا على الأقدام في صحراء نجد في رحلة كانت صعبة وخطيرة. وهذا المقطع من روايتي يورد بعض ما يمكن أن يدور في الصحراء من حوارات يكسوها الخوف: «في مطلع القرن الماضي خرج أربعة فلاحين من إحدى قرى الرياض. خرجوا في حال الجوع يبحثون عن حياة جديدة. كانت معهم قربة ماء وكيس من التمر الناشف تعينهم على قطع أكثر من مائة كيلومتر وسط الصحراء مشيا على الأقدام. في القرية التي خرجوا منها قال الناس إنهم ذهبوا للكويت للعمل في البحر وقال آخرون إنهم ذهبوا ليعملوا في مزارع الرياض الوفيرة الماء. في الأيام الثلاثة الأولى لمسيرة الرجال الأربعة كانوا أكثر حماسا وأكثر قدرة على قطع المسافات الطويلة بسبب عمل سنوات طويلة أكسبتهم القوة والصبر. ساروا ساعات طويلة. كانوا أقوياء وكان الحلم بالحياة الجديدة في مدينة الرياض يهز مشاعرهم وهم يحثون الخطى ليل نهار. في اليوم الرابع مساء استراحوا تحت شجرة كبيرة شربوا وأكلوا من التمر الناشف ثم ناموا حتى الفجر. ثم أكملوا سيرهم الطويل حتى نفد التمر ولم يتبق سوى القليل من الماء. ظلوا يمشون حتى شعروا أنهم قطعوا أكثر من نصف المسافة. يرتاحون قليلا ثم يواصلون المسير دون أن يهتموا لأصوات غامضة تحيط بمشيهم قادمة من آخر ظلام الصحراء. يمشون بأحلام وأحزان كبيرة على فراق الأهل والأحبة.
وحين حل بهم التعب العظيم ارتاحوا بعد أن ارتسمت على وجوههم علامات التعب والبؤس والقلق. فقد نفد التمر والماء ولا يوجد قرى مجاورة وسط هذه الصحراء الواسعة. وصارت نظراتهم لبعض أو لهذا الليل الموحش في الصحراء هي لغة أخرى قاسية وخائفة. وكأن الخوف يكاد يتحول إلى شيء أو رائحة تدور حول أرواحهم.
وفي لحظة غامضة نظر الرجل الرابع لأصحابه نظرة غريبة. كان مستلقيا غير بعيد عنهم لكنه شم رائحة ما مخيفة. فنهض واقفا وركض بكل ما تبقى له من قوة. ركض مسافات طويلة حتى غاب عن أصحابه الثلاثة في ظلام صحراء نجد العريقة. لقد شعر هذا الرجل أن أصحابه الثلاثة وهم أصلا أبناء عم يفكرون في أكله. وفي اللحظة التي داهمه هذا الشعور. فقط بادلهم نظرات وجلة ثم أطلق ساقيه للريح. بينما كانوا في حيرة من أمرهم. كيف عرف هذا الرجل بما كان يدور فعلا في أذهانهم بشكل غير جاد».
أرض الحرافيش
يرى الناقد المصري محمد سليم شوشة أنه من الطبيعي أن يكون للصحراء حضور قوي في الخطاب الروائي العربي؛ فالإنسان في كل أشكال الفنون يتأثر ولو بشكل لا واعٍ بمحيطه ومحددات بيئته، ولذا وظفت كثيرٌ من الروايات الصحراء، فنجدها عند نجيب محفوظ عبر توظيفه الرمزي للصحراء بوصفها المكان البكر والأكثر براءة ونقاء والملاذ الطبيعي للفارين من الجوائح والظلم والمطرودين من الحرافيش، فهي أرض الهروب والخروج من المدنية أو الحضارة الظالمة، ونجدها كذلك لدى إدوار الخراط في روايته «أضلاع الصحراء».
والصحراء بشكل عام قوية الحضور في الرواية التاريخية، كما يقول شوشة، فلدى أميمة الخميس نجد جدل الصحراء والمدينة في روايتها «مسرى الغرانيق في مدن العقيق»، وحاضرة لدى كثير من الروائيين العرب كذلك مثل الروائي الليبي إبراهيم الكوني، وفي المرحلة الأخيرة نجد للصحراء حضورا قويا في الرواية العمانية التي قاربت تاريخيا الفترات السابقة أو عقود ما قبل النهضة حيث حياة الجبال والبداوة، فنجدها لدى جوخة الحارثي وهدى حمد وبشرى خلفان وزهران القاسمي، ويقول: «في تقديري أن واحدة من أهم الروايات التي وظفت الصحراء في الرواية العربية هي رواية «طعم الذئب» للروائي الكويتي المتميز عبدالله البصيص فهي قائمة بالأساس على تصوير البداوة والصحراء والفرار نحو المدينة من جحيم الثأر والقبلية»، ويضيف: «عن نفسي كانت الرواية حاضرة في إبداعي في رواية «سور ثلجي في الصحراء» الصادرة 2016 عن هيئة قصور الثقافة بمصر، وهي دالة على العزلة أو الهجرة الاختيارية والرغبة في إنشاء مملكة جديدة أو نظام حضاري جديد، وللصحراء بشكل عام لغتها ومفرداتها وتوظيفها المتعدد بما يجعلها جديرة بالبحث والدراسات أو التحقيقات الصحفية الجادة».
منذ الأزل
يؤكد الكاتب السوداني طارق الطيب أنه لا يخلو بلد عربي من جغرافيته الصحراوية، المتشابهة المتباينة، ولا يخلو أدب أي بلد عربي من استلهام الصحراء بصور مبتكرة، ولذلك فإن العناوين متعددة والكُتّاب الذين تناولوا البرية كثيرون، وإن استثنينا ديوان الشعر العربي العظيم في صحرائه وأثرها منذ الشعر الجاهلي في عصر امرئ القيس والحطيئة وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى وغيرهم؛ فإن السرد العربي قدّم صورا لا نهائية للصحراء. ويقول إن الإنسان العربي عاش روح الصحراء منذ الأزل، حيث توارث الخلَف عن السلَف عبر الجينات وعبر الوجدان ما يختلف كثيرا عن كتابات الصحراء مثلا في أمريكا الجديدة، ففي الأخيرة نجد أن الأثر التحديثي يسيطر على صحاريها، فهناك دوما شاحنات وعربات تسير في طرق معبدة تجيد قراءة الأسفلت لا الرمال، وحتى في أفلام «الكاوبوي» الشهيرة القديمة بمعاركها الضارية مع الهنود، فإن الصحراء تبدو فيها موقعة وليست موقعا.وبحسب الطيب فإن الصحراء في السرد العربي فيها طمأنينة وتوجس وفيها قسوة ولطف وفيها شمس حارقة ونجوم متلألئة، وفيها وحوش وفيها خيام ورمال وإبل، وفيها ينابيع وجدب على صخورها وفي كهوفها تاريخ مكتوب، والصحراء العربية ملحمة كبيرة تفيض بالإلهام، فيها دائما صراع الموت والحياة.
وينهي كلامه قائلا: «في تجربتي الشخصية استلهمت الصحراء كمسير للهلاك في رواية «بيت النخيل» واستلهمتها كمسار ومصير للنجاة في روايتي الأخيرة «لهو الإله الصغير»، ومن أبرع الكتاب العرب المعاصرين الذين خصصوا كتابات وفيرة مثيرة عن الصحراء وعن أسطورتها وسطوتها وأسرارها هو الكاتب المتفرد إبراهيم الكوني الذي أراه أبو الديوان السردي الحديث للصحراء».
الصحراء بدأت من الشعر
الكاتب المصري محمد أبو زيد يؤكد أن الصحراء جزء من تكوين الثقافة العربية، بل يمكن اعتبارها جزءا أساسيا من المخيلة العربية، إذ تحتل مساحة كبيرة من الأدب الجاهلي، نظرا لطبيعة البيئة العربية وقتها، بما يرتبط بها من حروب ورحلات صيد وطبيعة، ويمكن أن نكتشف ذلك بوضوح في شعر امرئ القيس وعنترة بن شداد وعمرو بن كلثوم وطرفة والحطيئة، وغيرهم.
لكن حتى مع تطور الأدب، وظهور المدينة بشكلها الحضاري في المنطقة العربية ظلت الصحراء رافدا أساسيا من مكونات الأدب العربي، شعرا ورواية، لأنها جزء من جغرافية المنطقة كلها، سواء في الخليج العربي، أو المغرب العربي، أو حتى ليبيا ومصر التي تحتل الصحراء الشرقية جزءا كبيرا منها. لكن تغير طبيعة المدن ودخول العمران، جعل الصحراء جزءا على الهامش، وهذا في ظني ما رصدته الرواية.
ويقول: «البعض يرى أن الرواية ابنة للمدينة، لكني أعتقد أنها ابنة للحياة، بغض النظر عن كون هذه الحياة في المدينة أو الريف أو الصحراء. فالحياة في الصحراء تقدم مستويات مختلفة من الحكي والفلسفة مختلفة عما تقدمها المدينة، وهو ما نلمسه في عدد من الروايات العربية الشهيرة. هناك بالطبع روايات تدور بالكامل في الصحراء وتقدمها كعالم مستقل، بعيدا عن المدينة، مثل روايات الليبي إبراهيم الكوني «التبر» و«رباعية الخسوف» وغيرها، وهناك روايات ترصد هذا التحول وتبايناته كما نرى عند عبدالرحمن منيف في «مدن الملح»، وهناك من قدم الصحراء كعالم سحري يجترح معجزاته الخاصة كما نرى في رواية «فساد الأمكنة» لصبري موسى، وهناك من قدمها كجزء من تاريخ سري كما نرى في واحة الغروب لبهاء طاهر».
ويضيف: «بالنسبة لي أعتقد أن الصحراء توجد في أعمالي الشعرية كفكرة، كجزء من تكويني الثقافي المتأثر بتاريخ الشعر، خاصة وأني قضيت جزءا من حياتي في الخليج، لكن ظهورها في عمل روائي لي لم يحدث بعد».
صحراء ونيل
يرى الكاتب المصري أحمد أبو خنيجر أن الصحراء المصرية متفردة بين الصحراوات العربية، فرغم أنها جزء من امتدادها، لكن الموقع الجغرافي ونهر النيل قطعا التمدد الهائل للصحراء الإفريقية وعملا على زرع الحياة الحضرية وسط هذا الامتداد الهائل للرمال، بل إن تلك الحياة تمددت ومدت وشائجها داخل الصحراء ذاتها شرقا وغربا، وإن ظلت الصحراء، الكتومة بطبعها، محافظة على أسرارها وأساطيرها وخرافتها وغواياتها المرعبة، وصار الاقتراب منها محفوفا دوما بالخطر والترقب، ورغم العلاقات العديدة الناشئة بين الحياة الحضرية والصحراوية، فإن الصحراء تظل متفردة بطبعها وموقعها، وهو ما ينعكس بوضوح على أبنائها وطرق حياتهم وتعاملهم وفهمهم للعالم وللكون من حولهم، وفي المقدمة فهم وجودهم ذاته، وكيفية النظر للقادمين إليهم من أبناء الريف والمدن الكبيرة.
وينتقل أبو خنيجر إلى نقطة جديدة: «الرواية بنت المدينة، هكذا يقرر دارسو الأدب وأساتذته، ليس لأن الرواية نشأت في أحضان المدينة الحديثة فقط، لكن لأن كتّاب الرواية هم مدنيون بطبيعة تكوينهم، وقد يكون البعض منهم أصحاب أصول صحراوية، لكن تم تشكيل وعيهم عبر المدينة ودروبها وطرقها المتشعبة في التعليم والثقافة والسياسة والفلسفة والتعايش الاجتماعي، وغير ذلك من أنماط التكوين العقلي»، ويضيف: «وإذا كان الأمر كذلك فإن الكتابة عن الصحراء تمت عن طريق القادمين من خارجها، وهم رحالة ومستكشفون ورجال تعدين وعسكريون وأدباء ولصوص وأولياء ورهبان ومغامرون، وباحثون عن الجواهر والكنوز وآثار الأقدمين. وفي حالتنا فإن كتاب الرواية غالبا يستعينون بما كتبه غيرهم ممن أشرنا إليهم، والبعض القليل منهم يذهب للصحراء أو يكون أحد أبنائها، وذلك نادر، لتظل الصحراء دوما منظورا لها من الخارج، وأستثني كل ما ينتجه أبناء الصحراء من فنون وآداب شفاهية من: شعر وقصص وحكايات وأمثال وحكم، مع العلم أن الكتاب ينظرون إليها بوصفها نتاجا لعقل بدائي محدود التفكير، فهي في الختام أدب شعبي متدني المرتبة، حتى المراكز البحثية التي تجمع تلك المأثورات تقوم بتحنيطها داخل كتبها ومتاحفها بنوع من الزهو الأكاديمي».
ويختم حديثه: «أنا أعتبر نفسي ابن البيئتين، ابن الوادي المحاط بالصحراء من شرقه وغربه، وابن الصحراء التي يمر بها النيل مخففا من وطأتها القاسية، وهو ما يتجلى واضحا عندي في الكتابة، حيث لا يمكن الفصل بين العالمين».
يرتحل وفي جيبه نجمة
في رأي الكاتب العراقي عبدالكريم هداد أن حضور الصحراء لا يزال خجولا في الرواية العربية، بالرغم من أنها تشمل 80% من مساحة بلداننا العربية، وهي بيئة أسطورية نقية ما زال البدوي العربي فيها يرتحل وفي جيبه نجمة.
ولم يخرج الروائي العربي، بحسب عبدالكريم هداد، من عقدة تقليد التراكيب الفنية في صناعة الحكاية وتلمس سيرة الإنسان والغوص في سيرته زمانيا ومكانيا، وبقيت الرواية العربية بعيدة عن استلهام الصحراء كمكان في تجربتها اليومية، واستمر تبني فكرة الغرب الاستعماري بأن الصحراء مكان موحش خال من الحياة، وبالتالي لم يجد، هداد، الصحراء كمذاق ونكهة ملموسة وواضحة في تكوين السياق العام لبعض الروايات العربية إلا في عطاء الكاتب عبدالرحمن منيف، إذ أوفى الصحراء حقها كمكان وبيئة لشخوصه بكل تفاصيلها الحيوية وسياقها الجمالي، من خلال الجزأين الأولين من روايته «مدن الملح»، بينما كانت الصور متكررة ونمطية عن البداوة في سلوكيات الشخوص الروائية في «رجال تحت الشمس» لغسان كنفاني.
فراغ وشسوع
الكاتب المصري أحمد القرملاوي يرى أن الصحراء مُكوِّن أساسي من مكونات الثقافة العربية، لذا يصعب الحديث عن أي شيء يتعلَّق بالشخصية العربية ونِتاجها الثقافي والفكري بمعزلٍ عن التأثر بالصحراء، إذ هي تُحيط بالفرد العربي أينما ارتحل في ربوع بلاده. حتى البلدان العربية التي اشتهرت بالزراعة لا تنعَم بالمساحات الخضراء إلا في أعماق الريف، والذي لا يشكِّل عادةً إلا نسبة ضئيلة للغاية من مساحة أي بلد عربي.
وبحسب القرملاوي فإن الصحراء مثلما ساهمت في إنتاج الشعر العربي -ديوان العرب وأحد أهم نتاجات الثقافة العربية- فلا بد أن تكون قد ساهمت في إبداع الرواية العربية، فثمة خط ممتد بين الشعر والرواية أشار إليه عميد الرواية العربية نجيب محفوظ حين قال إن الرواية هي شعر العصر الحديث، وهو ملمح قد نراه أكثر جلاءً في الروايات التي تناولت الصحراء، كروايات الروائي الليبي الكبير إبراهيم الكوني، فاللغة التي توحي بها الصحراء بما تنطوي عليه من فراغ وشسوعٍ ومساحات للعزلة والتأمل، هي لغة أقرب لمجازية الشعر منها لتقريرية نقل الأخبار، وهو ما نراه ملحوظًا عند الروائيين الذين اختاروا الصحراء مكانًا لعوالمهم الروائية وتأملهم للحياة.
ويذكر القرملاوي على سبيل المثال رواية «التبر» لإبراهيم الكوني، ورواية «فساد الأمكنة» لصبري موسى، ورواية «منافي الرب» لأشرف الخمايسي، و«واحة الغروب» لبهاء طاهر، فجميعها اتَّصف بتلك اللغة المجازية والشعرية في وصف المكان والشخصيات والتأملات النابعة من تجاربهم الإنسانية، ويعلق أخيرا: «لولا هذه النزعة التأملية ما اختار الروائي الصحراء مجالًا لسرد حكايته وخلق عالمه».
حسن عبد الموجود قاص وصحفي مصري
أصبح هناك عدد محدود من الأدباء أخلصوا لكتابة الصحراء مثل إبراهيم الكوني وعبد الرحمن منيف وخليل النعيمي، لكن هذا لا ينفي وجود بعض روايات متفرقة رسمت عالم الصحراء بامتياز، لكتّاب من أبناء المدن، مثل رواية «واحة الغروب» لبهاء طاهر، و«فساد الأمكنة» لصبري موسى. هذا التحقيق يهدف إلى رسم خريطة لرواية الصحراء في العالم العربي.
الكاتب البحريني غسان الشهابي يؤكد في بداية كلامه أن الصحراء تطبع حوالي 90% من مساحة الوطن العربي، ما عدا الأشرطة الضيقة التي تحيط بالأنهار القليلة والشحيحة في آن معا، ومع هذا فإن حضور الصحراء وثقافتها بشكل محوري في الروايات، يكاد يكون قليلا إن لم نقل نادرا، وقليلا ما يجري تناوله بالدقة والعمق ليعكس أثر الصحراء في هذه الأعمال.
إلا أن واحدا من الروائيين القلائل الذين حملوا سياط شموس الصحراء على كواهلهم هو الروائي الليبي إبراهيم الكوني (1948) إذ هو واحد من أهم الذين أحدثوا اختراقا هائلا لهذه البيئة التي يطنّ فيها الصمت، وتتسم بالعزلة أو اعتزال الناس لها، لقسوة العيش فيها.
بحسب غسان الشهابي فإن الكوني حين يُبحر في رمال الصحراء، فإنه يُنطِقها، يداعب بكلماته كل المكونات في الحياة البدوية، يستجلب الثقافة، والحيوانات (رواية «التبر»)، ويغرق في توظيف الأساطير الصحراوية («التبر» و«المجوس» وغيرهما)، وبينما تأتي أكثر الروايات في هذه السنوات عامرة بالجغرافيا ومتكئة على التاريخ يأتي الكوني بالأساطير، ولا نلبث أن نرى هذه الأساطير تتحقق الواحدة تلو الأخرى، ثم نرى الثواب أو العقاب جراء مخالفة الأسطورة أو «الناموس» كما يردد كثيرا في رواياته.
في الصحراء «الكونية»، هناك صمت طويل بين السؤال والجواب، وخطٌ في الرمال ريثما يدوزنُ الطرف الآخر ما سيقول، وهناك الشاي الأخضر ذو الطربوش، و«الودّان» النادر الوجود الآن، وغيرهما من مفردات الصحراء العربية الكبرى التي أضحت مع الكوني من الأمور التي تُرى وتُعاش، والمتتبع لأعمال الكوني القصصية والروائية، بحسب الشهابي، لن تفوته الالتفاتة إلى أنه سمكة لا تستطيع العيش في غير الصحراء، إذ حاول كتابة قصص قصيرة تنتمي إلى المدن، كما يفعل غالبية الروائيين العرب، ولكن هذه الأعمال لم تصادف النجاح نفسه الذي صادفته أعماله الصحراوية، ويعلق: «وكما هو واضح، فإن الرواية التي تركز على الصحراء في ليبيا، والروائيين، صارت من الكثرة بحيث تفرد لها جامعة سبها «جائزة رواية الصحراء»، نظرا لتفرد هذا التعاطي وخصوصيته لدى المبدعين الليبيين على ما يبدو».
الصحراء في الجوار
الكاتبة العمانية منى حبراس السليمية تقول إنه عندما يُثار حديث الصحراء يروق لها تذكر مناظر تلال الرمل على امتداد البصر بينما الشمس تؤذن بالغروب. مشهد رأته مئات المرات في اللوحات الفنية والصور الفوتوغرافية على الرغم من وجود الصحراء في الجوار. مؤكدة أنه عند الحديث عن الصحراء في الرواية لا يمكنها تجاوز اثنين من أبرز من كتبوا عنها في عالمنا العربي، هما عبدالرحمن منيف وإبراهيم الكوني على اختلاف رؤيتيهما في الكتابة عنها أو توظيفهما لها، مشيرة إلى أنه قد تخطر في البال روايات أخرى كثيرة بطبيعة الحال.
وتضيف: «بخلاف كل ما سبق، أستحضر كتاب «الرمال العربية» لويلفرد ثيسيجر بنحو خاص، الكتاب الذي قرأته أول مرة في ربيع عام 2007، ولا أنفك أعود إلى قراءته مرات ومرات من غير أن أصاب بالملل. يصور ثيسيجر/ أو مبارك بن لندن الصحراء العربية بعين الآخر، بصرف النظر عن مبررات عبوره منها، ولكن رحلته تلك أثمرت واحدا من أهم الكتب التي تناولت الصحراء العربية. ما فعله ثيسيجر بكتابه في عام 1959 لم يستطع أن يكرره خليفته أدريان هيز في عام 2011 عندما عبر الصحراء العربية أيضا مقتفيا خطى ثيسيجر، فالزمن قد تغيّر بعد كل شيء، والصحراء العربية قد تغيّرت كذلك. ولكن ثيسيجر الذي لم يرافقه سوى بن كبينة وبن غبيشة بين عامي 1945 و1950 ألّف كتابا خلده وخلد رحلته برفقتهما، بينما أدريان هيز الذي رافقته سيارات الدفع الرباعي والكاميرات - وقد تزود بلوازم الرحلات الحديثة - لم تسفر رحلته عن أكثر من تقرير متلفز بثته نشرات الأخبار، ولم تنتج كتابا ككتاب الرمال العربية. لذا قد نجدنا نسينا أدريان هيز ولكننا لن ننسى صاحب كتاب الرمال العربية».
الصحراء والساحل
الكاتب المصري أحمد عبد اللطيف قال إن القرية شغلت المساحة الأكبر في بدايات الرواية المصرية، حتى ظهرت المدينة لتكون، ليست فقط أرضًا للأحداث، وإنما سؤالًا في ذاتها وعلاقة الفرد بها. في حين كانت الصحراء الحلم البعيد. أثّر المكان الذي ولِد فيه الكُتّاب ومعرفتهم به في ظهور المكان الروائي، انطلاقًا من مقولة تبدو لي خاطئة تقول «اكتب عما تعرف»، وهي عبارة تقصي الفضول وحب المعرفة، كما تقصي الخيال الروائي في الوقت ذاته. غير أن هذه العزلة التي أحاطت الصحراء المصرية كسرتها في عدة مرات أعمال جديرة بإعادة قراءتها وتقييمها، إذ تمتعت بجمالية نبتت من المكان نفسه، وكان في اكتشاف الصحراء أفق لتأمل جديد، لعل أكثرها تأثيرًا «فساد الأمكنة» للكاتب الراحل صبري موسى. فمن الصحراء جاءت شاعرية اللغة، وكان في استحضار الطبيعة مثال مضاد، عن دون قصد، لما تمثله قسوة المدينة. واستطاع صبري أن يعيد من خلالها قراءة للهزيمة، منتصرًا للمجاز وللعمق الإنساني أكثر من انتصاره للحدث السياسي.
ويتساءل أحمد عبد اللطيف: ما الذي يمكن أن تقدمه الصحراء في عمل أدبي عكس ما تقدمه مدينة ساحلية؟ ويجيب على تساؤله: الساحل والبحر يمنح الأمل في التغيير والعبور، ثمة نظرة للخارج نعيد من خلالها تقييم الداخل. أما في الصحراء، فثمة نظرة إلى العمق، إلى الأحشاء، كأن ينظر الإنسان في قلبه. في هذه النظرة اكتشاف أعمق. لا تمنح الصحراء إلا الواقع، تأمله، مع اليقين في عدم معرفة حدوده واليقين التام في عدم تجاوزها. بذلك تخلق الصحراء، كمكان، ناسها، عادات وتقاليد، على عكس المدينة التي يخلقها سكانها ويطبعونها بطباعهم.
ويقول: «كابن للمدينة، لم أتمتع بحياة صحراوية، غير أن تجربتي في الحياة في صحراء لأيام متفرقة كانت فرصة لتأمل الحياة، ليس كمن يطل عليها من نافذة، وإنما كسائر بين رمالها. وكانت الصحراء، ولا تزال، المكان الذي أحلم بالحياة فيه، كأن الإنسان حين ينضج يحب أن يعود إلى الطبيعة الأم كما يحلم بالعودة إلى الفردوس الأول. كتبت كثيرا عن الصحراء التي عشت فيها، وعن صحارى العالم، أيضا. الصحراء كانت الأرض الأولى التي نشأت عليها، ومنها تعلمت الصبر والاحتمال والتعدد والحرية. وكلها، كما أتصوّر الآن، مفهومات إنسانية كونية لا مجال للقفز فوقها. وهي مفهومات نتعلمها مع المعلمين، في المدن، لكننا في الصحراء نتعلمها منها، من الطبيعة الأم التي تبهرنا بقوة منطقها، وأساليبها التي لا تُنسى».
صحراء عُمان باتجاه الربع الخالي
ويبدأ الكاتب السوري المقيم في فرنسا خليل النعيمي كلامه بالتأكيد على أنه في الكتابة عن الصحراء لا تهمّه الدِقّة في المكان والزمان فهما مرئيان ومُعاشان بشكل مباشر. ولا يبحث فيها عن حقيقة، أيضا، فكل شيء فيها مكشوف. وهي، أصلا، تنفي كل معْطى ثابت حتى ولو كانت «الحقيقة» نفسها. فعناصرها لا تكف عن التغيّر والتحوّر، إضافة إلى أنها تتميّز بعدم الركون إلى الأمان التقليدي الذي نصادفه في سكونية العالم الآخر، اللاصحراوي.
«ما وراء الصحراء» هو ما يريد التعبير عنه فيما يكتبه عنها، وليس مجرد وصفها الستاتيكي المحدود. يعلق: «أنا لا أبتغي في مقاربتي لها وصفها، ولا إثارة الاهتمام بها، وإنما أبحث عن الكيفية التي تصنع بها كائنات فضائها الغني والمليء بالكثير مما نجهله، وعن سرّ الوجود الخاص بها ذاك الذي يطبعنا بطابعه الخاص إلى الأبد. في الكتابة عنها نحن نبحث عن «روح الكون الأولى» المبثوثة في رمالها، والتي تتجسّد، من بعد، في مَنْ يعيش فيها: روح الحرية والتمرد والعزلة واللاامتثال. الصحراء، إذن، ليست وعاء للحياة، فحسب، وإنما هي دافع أساسي من دوافع إبداع الوجود، وإغنائه بدلالاتها اللانهائية.
في الصحراء اكتشف النعيمي أن «المطلق» ليس سوى أكذوبة. أكذوبة روّجها الذين متعتهم الحياة بما حرمت منه الآخرين! ويقول: «شيء واحد سأقتنع به: إرادة الحياة. فلكي يحيا الكائن عليه أن يتجاوز - حتى - طاقته على التحمل. وفي النهاية الصحارى مدن. مدن عماراتها الكثبان، وشوارعها الوديان. ملكتها الشمس، وسيدها القمر. رقباؤها النسور، وقادتها الأسود. حكماؤها الثعالب، ونساؤها الغزلان».
وينهي حديثه قائلا: «من الصحارى التي أثرت بي كثيرا، إضافة إلى الصحراء العربية: صحراء «أتاكاما» التشيلية، وصحراء موريتانيا، وصحراء عُمان باتجاه الربع الخالي. أما الكتب التي أثارتني فأهمها: «فساد الأمكنة» لصبري موسى، و«صحراء التتار» لدينو بوزاتي.
درجة الانتماء
تحضر الصحراء في كثير من الروايات العربية بحسب الروائي الجزائري خالد عمر بن ققه باعتبارها فضاء من ناحية الإلهام والإبداع، يتأثر بحركية الزمن عبر الفصول وتقلباتها، وكذلك من خلال إبصار آية النهار ومحو آية الليل، لكن ذلك الحضور يتنوع ويتعدد حسب القصد منه لدى الروائي من جهة، وطبقا لدرجة انتمائه للصحراء على المستويين الوجودي والوجداني من جهة أخرى. ويعلق: «تأسيسا على اطلاعي وقراءاتي لعدد من الروايات العربية، فإنه يمكنني القول: مهما يأتي الحديث عن الصحراء في تلك الأعمال ـ بموقعها الجغرافي، وبأحداثها التاريخية، وبانتماء شخوصها وأبطالها ـ وبغض النظر عن مستوى الإبداع فيها، فإنه لا يصل بنا إلى إقرار يصنفها باعتبارها «رواية صحراوية»، على غرار تلك التي ترتبط بالمدينة أو القرية، لكنها ـ بلا ريب ـ تأخذنا بكل تأكيد إلى مجال المتعة، لجهة اكتشاف المجهول، بما فيه الغرائبي، والخرافي، والروحاني، وذلك المتجسد في الذهن والغائب على مستوى الوعي، مثل: الشياطين، والجن، وأحيانا الملائكة». ويضيف: «على خلفية قراءاتي لروايات حضرت فيها الصحراء، فهي لا تُعْتَبَر مجسدة للأخيرة إلا إذا مثّلت فضاءً وفعلا إنسانيّا وذكريات وموروثا، وأطلالا، أو كانت أصواتا يرددها الكون فتُسْمَعُ فقط داخل أولئك الذين نشأوا فيها، ثم ولجوا عالمها، وفي وقت لاحق تشبَّعُوا بها فأغوَتْهُم، واعتبرت هي وحدها حياتهم، وظلت كذلك حتى بعد أن أصبحوا جزءا من المدينة والمَدنيَّة ـ وجودا وفكرا ومشاعر ـ على النحو الذي يظهر جليّا بتميّز وتدفُّق في معظم أعمال الروائي الليبي إبراهيم الكوني».
كفاف في كل شيء
الكاتب المصري علاء خالد يمنحنا ثلاثة أمثلة بثلاث روايات تتخذ من الصحراء مسرحا لأحداثها. الرواية الأولى هي «المجوس» للروائي الليبي إبراهيم الكوني وتتحدث عن عالم قبائل الطوارق في صحراء «آزجر»، هذا العالم معزول جغرافيا، وهذه العزلة هي ما حافظ على بقائه. ثم رواية الروائي المصري صبري موسى «فساد الأمكنة»، وتجري وقائعها في صحراء البحر الأحمر، قبل الثورة المصرية. أيضا تتحدث عن قبائل معزولة جغرافيا وثقافيا، هما قبيلتا البشارية والبجاة اللتان تسكنان هذا المكان الصحراوي، ثم يتم الكشف عن كنوز من الخامات تحتوي عليها الجبال والكهوف، فتتغير هوية الصحراء النقية، بدخول هذا «الآخر» المستثمر والمكتشف والمستغل في آن، وتؤدي إلى حدوث كارثة إنسانية بدخول «عصر الآلة».
الرواية الثالثة هي «النهايات» للكاتب السعودي عبد الرحمن منيف، وتتحدث عن قرية صحراوية «طيبة»، تلك القرية الرمزية المعزولة أيضا جغرافيا، وهي تتوسط البادية والبساتين، وتبعد عنها المدينة مسافة كبيرة، ومر عليها جنود من قبل أوقعوا بها ضحايا. تتعرض هذه القرية لكارثة القحط، بجانب الكارثة الأخرى وهي دخول الأغراب إليها بآلاتهم/ عرباتهم السريعة، والتي تؤدي إلى تغيير جوهري في نظرة البدوي للصحراء المقدسة ولنفسه، تجعله يشهر بالاغتراب داخلها. في الروايات الثلاث، بحسب علاء خالد، نلحظ تلك الروح الدينية التي تكتنف الأبطال ومصائرهم، فتتحول الصحراء إلى أسطورة محكية حدثت بالفعل في الماضي، وما تبقى منها هو الحكاية أو العبرة أو الحكمة التي تُحكى للأجيال. يتخلل هذه الروايات نبرة رثاء كون الصحراء تظهر دائما داخل هذه الروايات في لحظة تحول عبر أزمة/ كارثة طبيعية تمر بها. لذا تنشط العلاقة بالماضي كزمن أبدي ممتد لبداية الخلق. أورثت الصحراء ساكنيها هذه العلاقة المقدسة مع الماضي، ونشطَّت فيهم موهبة التذكر والتكرار للوصول إليه والتماهي معه، وأيضا نشطت فيهم عادة الحنين إليه.
ويضيف: «ثم جاء العصر الحديث، عصر الصناعة والآلة، لينتهك هذا الماضي المقدس. مع دخول مجتمع الآلة نشأت طرق جديدة للعيش مناقضة تماما لطريقة العيش القديمة التي كانت تعتمد على الكفاف والزهد وقلة الموارد، وحسن تدبيرها. لقد وصل هذا العصر الصناعي متأخرا للصحراء العربية، وبسببه أمكن الحصول على «الوفرة». والتي ستكون بداية لنمو رأسمال لم يعهده أهلها، سيؤدي لأشكال من السلطة والاستغلال، ستقطع العلاقة مع عالمهم القديم القائم على الزهد والكفاف في كل شيء».
مشيا على الأقدام في صحراء نجد
الكاتب السعودي فهد العتيق قرأ عددا من روايات الصحراء منها بعض روايات الكاتب السعودي عواض شاهر العصيمي. ورواية «غواصو الأحقاف» للكاتبة السعودية أمل الفاران ورواية «نقرات الظباء» للكاتبة المصرية ميرال الطحاوي. وقبل ذلك بسنوات قرأ رواية لا ينساها للكاتب الليبي إبراهيم الكوني هي «نزيف الحجر». ومثل هذه الروايات، بحسب العتيق، تكتسب جمالياتها وغناها من اللغة الممتعة ومن قدرة مثل هؤلاء الكتاب والكاتبات على الحكي بطريقة فنية جميلة غير متكلفة، بحيث تكون الحكاية هي الأساس ثم تكتشف مكانها الصحراوي وأسراره العميقة والممتعة وحكاياته الأسطورية.وينتقل فهد العتيق إلى نفسه: «أتذكر أنه في روايتي «كائن مؤجل» كتبت في فصل عن رحلة صحراوية حين غادر والد جدي قريتنا مع بعض أقاربه إلى الرياض مشيا على الأقدام في صحراء نجد في رحلة كانت صعبة وخطيرة. وهذا المقطع من روايتي يورد بعض ما يمكن أن يدور في الصحراء من حوارات يكسوها الخوف: «في مطلع القرن الماضي خرج أربعة فلاحين من إحدى قرى الرياض. خرجوا في حال الجوع يبحثون عن حياة جديدة. كانت معهم قربة ماء وكيس من التمر الناشف تعينهم على قطع أكثر من مائة كيلومتر وسط الصحراء مشيا على الأقدام. في القرية التي خرجوا منها قال الناس إنهم ذهبوا للكويت للعمل في البحر وقال آخرون إنهم ذهبوا ليعملوا في مزارع الرياض الوفيرة الماء. في الأيام الثلاثة الأولى لمسيرة الرجال الأربعة كانوا أكثر حماسا وأكثر قدرة على قطع المسافات الطويلة بسبب عمل سنوات طويلة أكسبتهم القوة والصبر. ساروا ساعات طويلة. كانوا أقوياء وكان الحلم بالحياة الجديدة في مدينة الرياض يهز مشاعرهم وهم يحثون الخطى ليل نهار. في اليوم الرابع مساء استراحوا تحت شجرة كبيرة شربوا وأكلوا من التمر الناشف ثم ناموا حتى الفجر. ثم أكملوا سيرهم الطويل حتى نفد التمر ولم يتبق سوى القليل من الماء. ظلوا يمشون حتى شعروا أنهم قطعوا أكثر من نصف المسافة. يرتاحون قليلا ثم يواصلون المسير دون أن يهتموا لأصوات غامضة تحيط بمشيهم قادمة من آخر ظلام الصحراء. يمشون بأحلام وأحزان كبيرة على فراق الأهل والأحبة.
وحين حل بهم التعب العظيم ارتاحوا بعد أن ارتسمت على وجوههم علامات التعب والبؤس والقلق. فقد نفد التمر والماء ولا يوجد قرى مجاورة وسط هذه الصحراء الواسعة. وصارت نظراتهم لبعض أو لهذا الليل الموحش في الصحراء هي لغة أخرى قاسية وخائفة. وكأن الخوف يكاد يتحول إلى شيء أو رائحة تدور حول أرواحهم.
وفي لحظة غامضة نظر الرجل الرابع لأصحابه نظرة غريبة. كان مستلقيا غير بعيد عنهم لكنه شم رائحة ما مخيفة. فنهض واقفا وركض بكل ما تبقى له من قوة. ركض مسافات طويلة حتى غاب عن أصحابه الثلاثة في ظلام صحراء نجد العريقة. لقد شعر هذا الرجل أن أصحابه الثلاثة وهم أصلا أبناء عم يفكرون في أكله. وفي اللحظة التي داهمه هذا الشعور. فقط بادلهم نظرات وجلة ثم أطلق ساقيه للريح. بينما كانوا في حيرة من أمرهم. كيف عرف هذا الرجل بما كان يدور فعلا في أذهانهم بشكل غير جاد».
أرض الحرافيش
يرى الناقد المصري محمد سليم شوشة أنه من الطبيعي أن يكون للصحراء حضور قوي في الخطاب الروائي العربي؛ فالإنسان في كل أشكال الفنون يتأثر ولو بشكل لا واعٍ بمحيطه ومحددات بيئته، ولذا وظفت كثيرٌ من الروايات الصحراء، فنجدها عند نجيب محفوظ عبر توظيفه الرمزي للصحراء بوصفها المكان البكر والأكثر براءة ونقاء والملاذ الطبيعي للفارين من الجوائح والظلم والمطرودين من الحرافيش، فهي أرض الهروب والخروج من المدنية أو الحضارة الظالمة، ونجدها كذلك لدى إدوار الخراط في روايته «أضلاع الصحراء».
والصحراء بشكل عام قوية الحضور في الرواية التاريخية، كما يقول شوشة، فلدى أميمة الخميس نجد جدل الصحراء والمدينة في روايتها «مسرى الغرانيق في مدن العقيق»، وحاضرة لدى كثير من الروائيين العرب كذلك مثل الروائي الليبي إبراهيم الكوني، وفي المرحلة الأخيرة نجد للصحراء حضورا قويا في الرواية العمانية التي قاربت تاريخيا الفترات السابقة أو عقود ما قبل النهضة حيث حياة الجبال والبداوة، فنجدها لدى جوخة الحارثي وهدى حمد وبشرى خلفان وزهران القاسمي، ويقول: «في تقديري أن واحدة من أهم الروايات التي وظفت الصحراء في الرواية العربية هي رواية «طعم الذئب» للروائي الكويتي المتميز عبدالله البصيص فهي قائمة بالأساس على تصوير البداوة والصحراء والفرار نحو المدينة من جحيم الثأر والقبلية»، ويضيف: «عن نفسي كانت الرواية حاضرة في إبداعي في رواية «سور ثلجي في الصحراء» الصادرة 2016 عن هيئة قصور الثقافة بمصر، وهي دالة على العزلة أو الهجرة الاختيارية والرغبة في إنشاء مملكة جديدة أو نظام حضاري جديد، وللصحراء بشكل عام لغتها ومفرداتها وتوظيفها المتعدد بما يجعلها جديرة بالبحث والدراسات أو التحقيقات الصحفية الجادة».
منذ الأزل
يؤكد الكاتب السوداني طارق الطيب أنه لا يخلو بلد عربي من جغرافيته الصحراوية، المتشابهة المتباينة، ولا يخلو أدب أي بلد عربي من استلهام الصحراء بصور مبتكرة، ولذلك فإن العناوين متعددة والكُتّاب الذين تناولوا البرية كثيرون، وإن استثنينا ديوان الشعر العربي العظيم في صحرائه وأثرها منذ الشعر الجاهلي في عصر امرئ القيس والحطيئة وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى وغيرهم؛ فإن السرد العربي قدّم صورا لا نهائية للصحراء. ويقول إن الإنسان العربي عاش روح الصحراء منذ الأزل، حيث توارث الخلَف عن السلَف عبر الجينات وعبر الوجدان ما يختلف كثيرا عن كتابات الصحراء مثلا في أمريكا الجديدة، ففي الأخيرة نجد أن الأثر التحديثي يسيطر على صحاريها، فهناك دوما شاحنات وعربات تسير في طرق معبدة تجيد قراءة الأسفلت لا الرمال، وحتى في أفلام «الكاوبوي» الشهيرة القديمة بمعاركها الضارية مع الهنود، فإن الصحراء تبدو فيها موقعة وليست موقعا.وبحسب الطيب فإن الصحراء في السرد العربي فيها طمأنينة وتوجس وفيها قسوة ولطف وفيها شمس حارقة ونجوم متلألئة، وفيها وحوش وفيها خيام ورمال وإبل، وفيها ينابيع وجدب على صخورها وفي كهوفها تاريخ مكتوب، والصحراء العربية ملحمة كبيرة تفيض بالإلهام، فيها دائما صراع الموت والحياة.
وينهي كلامه قائلا: «في تجربتي الشخصية استلهمت الصحراء كمسير للهلاك في رواية «بيت النخيل» واستلهمتها كمسار ومصير للنجاة في روايتي الأخيرة «لهو الإله الصغير»، ومن أبرع الكتاب العرب المعاصرين الذين خصصوا كتابات وفيرة مثيرة عن الصحراء وعن أسطورتها وسطوتها وأسرارها هو الكاتب المتفرد إبراهيم الكوني الذي أراه أبو الديوان السردي الحديث للصحراء».
الصحراء بدأت من الشعر
الكاتب المصري محمد أبو زيد يؤكد أن الصحراء جزء من تكوين الثقافة العربية، بل يمكن اعتبارها جزءا أساسيا من المخيلة العربية، إذ تحتل مساحة كبيرة من الأدب الجاهلي، نظرا لطبيعة البيئة العربية وقتها، بما يرتبط بها من حروب ورحلات صيد وطبيعة، ويمكن أن نكتشف ذلك بوضوح في شعر امرئ القيس وعنترة بن شداد وعمرو بن كلثوم وطرفة والحطيئة، وغيرهم.
لكن حتى مع تطور الأدب، وظهور المدينة بشكلها الحضاري في المنطقة العربية ظلت الصحراء رافدا أساسيا من مكونات الأدب العربي، شعرا ورواية، لأنها جزء من جغرافية المنطقة كلها، سواء في الخليج العربي، أو المغرب العربي، أو حتى ليبيا ومصر التي تحتل الصحراء الشرقية جزءا كبيرا منها. لكن تغير طبيعة المدن ودخول العمران، جعل الصحراء جزءا على الهامش، وهذا في ظني ما رصدته الرواية.
ويقول: «البعض يرى أن الرواية ابنة للمدينة، لكني أعتقد أنها ابنة للحياة، بغض النظر عن كون هذه الحياة في المدينة أو الريف أو الصحراء. فالحياة في الصحراء تقدم مستويات مختلفة من الحكي والفلسفة مختلفة عما تقدمها المدينة، وهو ما نلمسه في عدد من الروايات العربية الشهيرة. هناك بالطبع روايات تدور بالكامل في الصحراء وتقدمها كعالم مستقل، بعيدا عن المدينة، مثل روايات الليبي إبراهيم الكوني «التبر» و«رباعية الخسوف» وغيرها، وهناك روايات ترصد هذا التحول وتبايناته كما نرى عند عبدالرحمن منيف في «مدن الملح»، وهناك من قدم الصحراء كعالم سحري يجترح معجزاته الخاصة كما نرى في رواية «فساد الأمكنة» لصبري موسى، وهناك من قدمها كجزء من تاريخ سري كما نرى في واحة الغروب لبهاء طاهر».
ويضيف: «بالنسبة لي أعتقد أن الصحراء توجد في أعمالي الشعرية كفكرة، كجزء من تكويني الثقافي المتأثر بتاريخ الشعر، خاصة وأني قضيت جزءا من حياتي في الخليج، لكن ظهورها في عمل روائي لي لم يحدث بعد».
صحراء ونيل
يرى الكاتب المصري أحمد أبو خنيجر أن الصحراء المصرية متفردة بين الصحراوات العربية، فرغم أنها جزء من امتدادها، لكن الموقع الجغرافي ونهر النيل قطعا التمدد الهائل للصحراء الإفريقية وعملا على زرع الحياة الحضرية وسط هذا الامتداد الهائل للرمال، بل إن تلك الحياة تمددت ومدت وشائجها داخل الصحراء ذاتها شرقا وغربا، وإن ظلت الصحراء، الكتومة بطبعها، محافظة على أسرارها وأساطيرها وخرافتها وغواياتها المرعبة، وصار الاقتراب منها محفوفا دوما بالخطر والترقب، ورغم العلاقات العديدة الناشئة بين الحياة الحضرية والصحراوية، فإن الصحراء تظل متفردة بطبعها وموقعها، وهو ما ينعكس بوضوح على أبنائها وطرق حياتهم وتعاملهم وفهمهم للعالم وللكون من حولهم، وفي المقدمة فهم وجودهم ذاته، وكيفية النظر للقادمين إليهم من أبناء الريف والمدن الكبيرة.
وينتقل أبو خنيجر إلى نقطة جديدة: «الرواية بنت المدينة، هكذا يقرر دارسو الأدب وأساتذته، ليس لأن الرواية نشأت في أحضان المدينة الحديثة فقط، لكن لأن كتّاب الرواية هم مدنيون بطبيعة تكوينهم، وقد يكون البعض منهم أصحاب أصول صحراوية، لكن تم تشكيل وعيهم عبر المدينة ودروبها وطرقها المتشعبة في التعليم والثقافة والسياسة والفلسفة والتعايش الاجتماعي، وغير ذلك من أنماط التكوين العقلي»، ويضيف: «وإذا كان الأمر كذلك فإن الكتابة عن الصحراء تمت عن طريق القادمين من خارجها، وهم رحالة ومستكشفون ورجال تعدين وعسكريون وأدباء ولصوص وأولياء ورهبان ومغامرون، وباحثون عن الجواهر والكنوز وآثار الأقدمين. وفي حالتنا فإن كتاب الرواية غالبا يستعينون بما كتبه غيرهم ممن أشرنا إليهم، والبعض القليل منهم يذهب للصحراء أو يكون أحد أبنائها، وذلك نادر، لتظل الصحراء دوما منظورا لها من الخارج، وأستثني كل ما ينتجه أبناء الصحراء من فنون وآداب شفاهية من: شعر وقصص وحكايات وأمثال وحكم، مع العلم أن الكتاب ينظرون إليها بوصفها نتاجا لعقل بدائي محدود التفكير، فهي في الختام أدب شعبي متدني المرتبة، حتى المراكز البحثية التي تجمع تلك المأثورات تقوم بتحنيطها داخل كتبها ومتاحفها بنوع من الزهو الأكاديمي».
ويختم حديثه: «أنا أعتبر نفسي ابن البيئتين، ابن الوادي المحاط بالصحراء من شرقه وغربه، وابن الصحراء التي يمر بها النيل مخففا من وطأتها القاسية، وهو ما يتجلى واضحا عندي في الكتابة، حيث لا يمكن الفصل بين العالمين».
يرتحل وفي جيبه نجمة
في رأي الكاتب العراقي عبدالكريم هداد أن حضور الصحراء لا يزال خجولا في الرواية العربية، بالرغم من أنها تشمل 80% من مساحة بلداننا العربية، وهي بيئة أسطورية نقية ما زال البدوي العربي فيها يرتحل وفي جيبه نجمة.
ولم يخرج الروائي العربي، بحسب عبدالكريم هداد، من عقدة تقليد التراكيب الفنية في صناعة الحكاية وتلمس سيرة الإنسان والغوص في سيرته زمانيا ومكانيا، وبقيت الرواية العربية بعيدة عن استلهام الصحراء كمكان في تجربتها اليومية، واستمر تبني فكرة الغرب الاستعماري بأن الصحراء مكان موحش خال من الحياة، وبالتالي لم يجد، هداد، الصحراء كمذاق ونكهة ملموسة وواضحة في تكوين السياق العام لبعض الروايات العربية إلا في عطاء الكاتب عبدالرحمن منيف، إذ أوفى الصحراء حقها كمكان وبيئة لشخوصه بكل تفاصيلها الحيوية وسياقها الجمالي، من خلال الجزأين الأولين من روايته «مدن الملح»، بينما كانت الصور متكررة ونمطية عن البداوة في سلوكيات الشخوص الروائية في «رجال تحت الشمس» لغسان كنفاني.
فراغ وشسوع
الكاتب المصري أحمد القرملاوي يرى أن الصحراء مُكوِّن أساسي من مكونات الثقافة العربية، لذا يصعب الحديث عن أي شيء يتعلَّق بالشخصية العربية ونِتاجها الثقافي والفكري بمعزلٍ عن التأثر بالصحراء، إذ هي تُحيط بالفرد العربي أينما ارتحل في ربوع بلاده. حتى البلدان العربية التي اشتهرت بالزراعة لا تنعَم بالمساحات الخضراء إلا في أعماق الريف، والذي لا يشكِّل عادةً إلا نسبة ضئيلة للغاية من مساحة أي بلد عربي.
وبحسب القرملاوي فإن الصحراء مثلما ساهمت في إنتاج الشعر العربي -ديوان العرب وأحد أهم نتاجات الثقافة العربية- فلا بد أن تكون قد ساهمت في إبداع الرواية العربية، فثمة خط ممتد بين الشعر والرواية أشار إليه عميد الرواية العربية نجيب محفوظ حين قال إن الرواية هي شعر العصر الحديث، وهو ملمح قد نراه أكثر جلاءً في الروايات التي تناولت الصحراء، كروايات الروائي الليبي الكبير إبراهيم الكوني، فاللغة التي توحي بها الصحراء بما تنطوي عليه من فراغ وشسوعٍ ومساحات للعزلة والتأمل، هي لغة أقرب لمجازية الشعر منها لتقريرية نقل الأخبار، وهو ما نراه ملحوظًا عند الروائيين الذين اختاروا الصحراء مكانًا لعوالمهم الروائية وتأملهم للحياة.
ويذكر القرملاوي على سبيل المثال رواية «التبر» لإبراهيم الكوني، ورواية «فساد الأمكنة» لصبري موسى، ورواية «منافي الرب» لأشرف الخمايسي، و«واحة الغروب» لبهاء طاهر، فجميعها اتَّصف بتلك اللغة المجازية والشعرية في وصف المكان والشخصيات والتأملات النابعة من تجاربهم الإنسانية، ويعلق أخيرا: «لولا هذه النزعة التأملية ما اختار الروائي الصحراء مجالًا لسرد حكايته وخلق عالمه».
حسن عبد الموجود قاص وصحفي مصري