في بداية عام 1998م أهدت «سوزان» حرم طه حسين أوراق طه حسين الخاصة إلى دار الوثائق المصرية؛ لكي تكون في متناول الباحثين والدارسين. وقد احتوت هذه الوثائق على قضايا عديدة وتجارب خصبة، معظمها مراسلات ما بين عميد الأدب العربي وتلاميذه وأصدقائه، بعضها مقترحات من عامة الناس تتعلق بالتعليم والثقافة والفنون، ظل طه حسين يتلقاها طوال حياته سواء حينما كان عميدًا لكلية الآداب، أو مديرًا للجامعة المصرية، أو حتى حينما صار وزيرًا للمعارف (التعليم).
تتناول هذه الوثائق الفترة من عام 1925 حتى عام 1972م أي قبل وفاته بعام واحد، وجميعها تعد ثروة فكرية، وخصوصًا المراسلات التي لم تكن مجرد خطابات روتينية، وإنما جاء معظمها على شكل حوارات فكرية راقية، طوال نصف قرن منذ أن ظهر اسم طه حسين في الصحف المصرية عقب عودته من باريس أستاذًا في الجامعة المصرية، وعميدًا لكلية الآداب، ومديرًا للجامعة، ثم وزيرًا للمعارف بعد أن انغمس في السياسة طوال هذه المراحل، ورغم ذلك كان حريصًا على التواصل مع تلاميذه ومتابعيه وقرائه من خلال المراسلة باعتبارها الوسيلة الوحيدة وقتئذ؛ للتعرف على أفكار الناس، والإفادة من مقترحاتهم في قضايا التعليم والثقافة والفكر والفن والأدب... إلخ.
لم يكن طه حسين في كل ما كتب إلا صاحب مشروع كبير ناقدًا، ومحللاً، وفيلسوفًا، جريئًا في طرح أفكاره، لذا ووجه بسيل عارم من النقد والتجريح والإهانات أحيانًا، لكنه لم يأبه برأي منتقديه، بل واصل رسالته التي بدأها عمليًا 1925م حينما عُين أستاذا للأدب العربي في الجامعة المصرية، وقد راح يُعيد ما كُتب عن العصر الجاهلي وشعره، وفي كل محاضراته كان يُشرك طلابه عارضًا عليهم ما كان يتوصل إليه أولاً بأول، وقد أقدم على نشر أول مقال له في هذا الموضوع بعنوان: «مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تُلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي»، ثم أتبعها بمقال آخر: «وجوب دراسة آداب وتاريخ العرب على طريقة ديكارت»، بعدها أخذ يواصل كتاباته النقدية وصولاً إلى الفكرة التي انتهى إليها، وهي أن ما أضيف إلى العرب قبل الإسلام ليس لهم، وإنما لجماعة من المزيفين قالته ونحلته وردده الناس من بعدهم.
على الرغم من موجة النقد التي تجاوز بعضها حدود الأخلاق والمنطق، والعقل، إلا أن الرجل لم يأبه بكل ذلك، وقد أقدم على نشر فكرته التي توصل إليها في كتاب: «في الشعر الجاهلي» 1926م. بعده قامت الدنيا ولم تقعد وخصوصًا حينما قام بعض مشايخ الأزهر وطلابه بتقديم بلاغات إلى النائب العام يتهمون الرجل في عقيدته، وأنه فيما كتب قد كذَب القرآن الكريم وطعن على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أثار ذلك قلق د.طه حسين وخوفه، لذا بادر من تلقاء نفسه بالكتابة إلى مدير الجامعة «أحمد لطفي السيد» في رسالة تداولتها الصحف وقتئذ مؤكدًا إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأنه في كل ما كتب لم يتعرض للإسلام، لكن الأزمة لم تتوقف بعد أن أصبحت حديث كل الأوساط في الصحف والمنتديات الفكرية والثقافية والدينية، وانقسم الناس بين غالبية قد انساقت وراء الهجوم على الرجل، وبين أقلية من المثقفين (النخبة) راحت تناصر الرجل في اجتهاده.
لم تهدأ الأزمة إلا بعد أن مثُل الرجل أمام النائب العام الذي درس القضية وحققها وأصدر بشأنها حكمًا تاريخيًا بالغ الأهمية (30 مارس 1927م)، وقد أكد النائب العام «محمد نور» بأن المؤلف سلك طريقًا جديدًا في البحث العلمي حذا فيه حذو العلماء الغربيين، ولم يكن يقصد أبدًا الطعن على الدين، وأن أركان القضية الجنائية غير متوفرة لذلك انتهى بحفظ القضية في حكم تاريخي يُسجل لنزاهة القضاء.
لم يتوقف المهاجمون عن هجومهم، ولم يَقنعوا بحكم النائب العام، بل راحت الصراعات السياسية والحزبية تلقي بظلالها على المناخ العلمي داخل الجامعة وخصوصًا بعد أن تولى إسماعيل صدقي رئاسة الحكومة (يونيو 1930م)، وقد راح يتدخل في سياسات الجامعة، وفي برامجها التعليمية، وهو ما لم يقبله طه حسين الذي صدر قرار بنقله إلى وظيفة متواضعة في وزارة المعارف (مارس 1932م)، وهو ما أغضب رئيس الجامعة (أحمد لطفي السيد) فتقدم باستقالته؛ تأكيدًا على استقلال الجامعة، وصونًا لكرامة أساتذتها.
احتوت أوراق طه حسين على وثائق وافية عن هذه القضية وغيرها من القضايا التي كانت تتعلق بمشروعات التطوير والتحديث والبرامج الدراسية التي كانت تتطلع إدارة الجامعة إلى العمل بها، فضلاً عن دراسات فكرية وثقافية تتعلق بحرية البحث العلمي، كما تناولت تفاصيل كثيرة عن ظروف عزله من وظيفته، وانقطاع راتبه والمعاناة التي واجهها مع أسرته في ظل حصار الحكومة له، وانصراف أصدقائه عنه خوفًا على مصالحهم، مما اضطره إلى الاقتراض لكي يُنفق على أسرته.
لاحظت أن ما تلقاه من رسائل خلال فترة عزله من وظيفته ( 1932 – 1934م) لم تتجاوز عشر رسائل مقارنة بالسنوات التي سبقت الأزمة، وهو ما أشعره بالمرارة والجحود، لذا فضل الوحدة التي عبر عنها بمرارة وحزن شديدين حينما كتب إلى أحد أصدقائه: «نجيب الهلالي» قائلاً: «إن صديقك قد هجره أقرب الناس إليه وألصقهم به، وفر منه من لم يكن يطيق له فرارًا، وأصبح يستقبل الحزن مع ضوء الشمس، ويباشره طوال النهار، ثم يستقبل الهم مع ظلمة الليل... ورغم ذلك لم أزل حيًا، أرأيت لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي من الكتابة إليك، ولا ينبغي لك أن تمضي في نسياني، فإن كتابًا منك ولو قصيرًا إن وصل إليَ خليق أن يحمل إليَ بعض الراحة، وما أظنك تبخل على صديق آثرته دائمًا باصفى الود وأنقاه».
كل مراسلات طه حسين مع أصدقائه وتلاميذه سواء قبل محنته أو بعدها ذات طابع فكري وفلسفي وتعليمي، ولعل ما كتبه الدكتور محمد مندور أحد تلاميذه يُشكل نموذجًا من هذه المراسلات، وكان أستاذه قد ابتعثه للدراسة في جامعة السربون لكي يدرس النقد الأدبي، وقد لاحظ الأستاذ أن تلميذه قد أخذ وقتًا طويلاً قي بعثته (1930 – 1939م)، وقد عاتبه الأستاذ عتابًا شديدًا، بينما راح التلميذ يبرر ضياع الوقت بحجة دراسة المناهج الحديثة، ودراسته للغتين اليونانية واللاتينية، إلا أن الأستاذ ظل غاضبًا على تلميذه.
تُعد هذه الأوراق في مجملها بمثابة مشروع كبير للنهوض بالتعليم والثقافة وكان الكثير منها موجهًا إلى وزارة المعارف ورؤساء الجامعة واحدًا بعد الأخر، وكان في كل ما كتب حريصًا على بناء العقول، ورغبته في أن يكون حق الناس في التعليم كحقهم في الماء والهواء.
أعترف رغم علاقتي بالجمعية المصرية للدراسات التاريخية التي أُنشئت في منتصف أربعينيات القرن الماضي بأنني لم أكن أعرف أن صاحب الفضل في إنشائها هو طه حسين إلا بعد أن قرأت هذه الوثائق، وقد تبين لي أنه كتب إلى وزارة المعارف (20 أبريل 1940م) مقترحًا إنشاء الجمعية التاريخية أسوة بمثيلاتها في كل البلاد المتحضرة؛ لكي تختص بشؤون البحث التاريخي دراسة، وتحقيقًا، وترجمة خدمة للتاريخ المصري والعربي.
لم تكن هذه الأوراق مجرد خطابات شخصية، وإنما هي وثائق أدبية وفكرية وثقافية أقرب إلى الحوارات بين شيوخ المثقفين والمفكرين تُشكل ملامح عصر من التنوير، ومما يُلفت النظر أن الأوراق قد تضمنت مراسلات مع الكثير من أعلام الفكر والثقافة من قبيل: مصطفى عبد الرازق، وتوفيق الحكيم، ومحمد مندور، وسهير القلماوي، وعبد الرزاق السنهوري، وخليل مطران، ولطفي السيد، وعباس العقاد، ومصطفى النحاس... وغيرهم كثيرون، ومن الواضح أن كل هذه الأوراق قد حرص الأستاذ على أن يحتفظ بها في مكتبته؛ لكي تكون بمثابة ذاكرة عملية لكل المعنيين بالفكر والثقافة والتعليم.
على الرغم من كل الكتب والبحوث التي كتبها طه حسين، والتي وجدت طريقها إلى النشر، وقد راح المثقفون العرب يتلقفونها بالدراسة والتحليل إلا أن مصدرين مهمين من مصادر التعريف بفكر طه حسين لم يجدا طريقهما إلى النور إلا في العقدين الأخيرين من القرن الماضي وبداية القرن الحالي، أولهما: مقالات طه حسين التي كتبها في مختلف الصحف المصرية منذ بداية القرن العشرين وحتى قبيل وفاته بوقت قصير، وقد جمعها بعض الباحثين في مركز تاريخ مصر الحديث والمعاصر وأشرف عليها المرحوم د. رؤوف عباس، وقد نُشرت تباعًا في أربعة مجلدات، ثانيهما: أوراق طه حسين الخاصة، وقد شرفت والزميل الدكتور أحمد زكريا الشلق بالإشراف على نشرها ودراستها في مجلدين كبيرين نُشرا تباعًا في عامي 2005 م، و 2007م، وأعتقد أن الكتابة عن طه حسين مفكرًا وناقدًا وسياسيًا ستظل قاصرة ما لم يرجع المعنيون بتراثه إلى هذين المصدرين باعتبارهما أكثر اقترابًا من شخصية الرجل الذي انشغل الناس به حيًا وميتًا.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
تتناول هذه الوثائق الفترة من عام 1925 حتى عام 1972م أي قبل وفاته بعام واحد، وجميعها تعد ثروة فكرية، وخصوصًا المراسلات التي لم تكن مجرد خطابات روتينية، وإنما جاء معظمها على شكل حوارات فكرية راقية، طوال نصف قرن منذ أن ظهر اسم طه حسين في الصحف المصرية عقب عودته من باريس أستاذًا في الجامعة المصرية، وعميدًا لكلية الآداب، ومديرًا للجامعة، ثم وزيرًا للمعارف بعد أن انغمس في السياسة طوال هذه المراحل، ورغم ذلك كان حريصًا على التواصل مع تلاميذه ومتابعيه وقرائه من خلال المراسلة باعتبارها الوسيلة الوحيدة وقتئذ؛ للتعرف على أفكار الناس، والإفادة من مقترحاتهم في قضايا التعليم والثقافة والفكر والفن والأدب... إلخ.
لم يكن طه حسين في كل ما كتب إلا صاحب مشروع كبير ناقدًا، ومحللاً، وفيلسوفًا، جريئًا في طرح أفكاره، لذا ووجه بسيل عارم من النقد والتجريح والإهانات أحيانًا، لكنه لم يأبه برأي منتقديه، بل واصل رسالته التي بدأها عمليًا 1925م حينما عُين أستاذا للأدب العربي في الجامعة المصرية، وقد راح يُعيد ما كُتب عن العصر الجاهلي وشعره، وفي كل محاضراته كان يُشرك طلابه عارضًا عليهم ما كان يتوصل إليه أولاً بأول، وقد أقدم على نشر أول مقال له في هذا الموضوع بعنوان: «مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تُلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي»، ثم أتبعها بمقال آخر: «وجوب دراسة آداب وتاريخ العرب على طريقة ديكارت»، بعدها أخذ يواصل كتاباته النقدية وصولاً إلى الفكرة التي انتهى إليها، وهي أن ما أضيف إلى العرب قبل الإسلام ليس لهم، وإنما لجماعة من المزيفين قالته ونحلته وردده الناس من بعدهم.
على الرغم من موجة النقد التي تجاوز بعضها حدود الأخلاق والمنطق، والعقل، إلا أن الرجل لم يأبه بكل ذلك، وقد أقدم على نشر فكرته التي توصل إليها في كتاب: «في الشعر الجاهلي» 1926م. بعده قامت الدنيا ولم تقعد وخصوصًا حينما قام بعض مشايخ الأزهر وطلابه بتقديم بلاغات إلى النائب العام يتهمون الرجل في عقيدته، وأنه فيما كتب قد كذَب القرآن الكريم وطعن على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أثار ذلك قلق د.طه حسين وخوفه، لذا بادر من تلقاء نفسه بالكتابة إلى مدير الجامعة «أحمد لطفي السيد» في رسالة تداولتها الصحف وقتئذ مؤكدًا إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأنه في كل ما كتب لم يتعرض للإسلام، لكن الأزمة لم تتوقف بعد أن أصبحت حديث كل الأوساط في الصحف والمنتديات الفكرية والثقافية والدينية، وانقسم الناس بين غالبية قد انساقت وراء الهجوم على الرجل، وبين أقلية من المثقفين (النخبة) راحت تناصر الرجل في اجتهاده.
لم تهدأ الأزمة إلا بعد أن مثُل الرجل أمام النائب العام الذي درس القضية وحققها وأصدر بشأنها حكمًا تاريخيًا بالغ الأهمية (30 مارس 1927م)، وقد أكد النائب العام «محمد نور» بأن المؤلف سلك طريقًا جديدًا في البحث العلمي حذا فيه حذو العلماء الغربيين، ولم يكن يقصد أبدًا الطعن على الدين، وأن أركان القضية الجنائية غير متوفرة لذلك انتهى بحفظ القضية في حكم تاريخي يُسجل لنزاهة القضاء.
لم يتوقف المهاجمون عن هجومهم، ولم يَقنعوا بحكم النائب العام، بل راحت الصراعات السياسية والحزبية تلقي بظلالها على المناخ العلمي داخل الجامعة وخصوصًا بعد أن تولى إسماعيل صدقي رئاسة الحكومة (يونيو 1930م)، وقد راح يتدخل في سياسات الجامعة، وفي برامجها التعليمية، وهو ما لم يقبله طه حسين الذي صدر قرار بنقله إلى وظيفة متواضعة في وزارة المعارف (مارس 1932م)، وهو ما أغضب رئيس الجامعة (أحمد لطفي السيد) فتقدم باستقالته؛ تأكيدًا على استقلال الجامعة، وصونًا لكرامة أساتذتها.
احتوت أوراق طه حسين على وثائق وافية عن هذه القضية وغيرها من القضايا التي كانت تتعلق بمشروعات التطوير والتحديث والبرامج الدراسية التي كانت تتطلع إدارة الجامعة إلى العمل بها، فضلاً عن دراسات فكرية وثقافية تتعلق بحرية البحث العلمي، كما تناولت تفاصيل كثيرة عن ظروف عزله من وظيفته، وانقطاع راتبه والمعاناة التي واجهها مع أسرته في ظل حصار الحكومة له، وانصراف أصدقائه عنه خوفًا على مصالحهم، مما اضطره إلى الاقتراض لكي يُنفق على أسرته.
لاحظت أن ما تلقاه من رسائل خلال فترة عزله من وظيفته ( 1932 – 1934م) لم تتجاوز عشر رسائل مقارنة بالسنوات التي سبقت الأزمة، وهو ما أشعره بالمرارة والجحود، لذا فضل الوحدة التي عبر عنها بمرارة وحزن شديدين حينما كتب إلى أحد أصدقائه: «نجيب الهلالي» قائلاً: «إن صديقك قد هجره أقرب الناس إليه وألصقهم به، وفر منه من لم يكن يطيق له فرارًا، وأصبح يستقبل الحزن مع ضوء الشمس، ويباشره طوال النهار، ثم يستقبل الهم مع ظلمة الليل... ورغم ذلك لم أزل حيًا، أرأيت لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي من الكتابة إليك، ولا ينبغي لك أن تمضي في نسياني، فإن كتابًا منك ولو قصيرًا إن وصل إليَ خليق أن يحمل إليَ بعض الراحة، وما أظنك تبخل على صديق آثرته دائمًا باصفى الود وأنقاه».
كل مراسلات طه حسين مع أصدقائه وتلاميذه سواء قبل محنته أو بعدها ذات طابع فكري وفلسفي وتعليمي، ولعل ما كتبه الدكتور محمد مندور أحد تلاميذه يُشكل نموذجًا من هذه المراسلات، وكان أستاذه قد ابتعثه للدراسة في جامعة السربون لكي يدرس النقد الأدبي، وقد لاحظ الأستاذ أن تلميذه قد أخذ وقتًا طويلاً قي بعثته (1930 – 1939م)، وقد عاتبه الأستاذ عتابًا شديدًا، بينما راح التلميذ يبرر ضياع الوقت بحجة دراسة المناهج الحديثة، ودراسته للغتين اليونانية واللاتينية، إلا أن الأستاذ ظل غاضبًا على تلميذه.
تُعد هذه الأوراق في مجملها بمثابة مشروع كبير للنهوض بالتعليم والثقافة وكان الكثير منها موجهًا إلى وزارة المعارف ورؤساء الجامعة واحدًا بعد الأخر، وكان في كل ما كتب حريصًا على بناء العقول، ورغبته في أن يكون حق الناس في التعليم كحقهم في الماء والهواء.
أعترف رغم علاقتي بالجمعية المصرية للدراسات التاريخية التي أُنشئت في منتصف أربعينيات القرن الماضي بأنني لم أكن أعرف أن صاحب الفضل في إنشائها هو طه حسين إلا بعد أن قرأت هذه الوثائق، وقد تبين لي أنه كتب إلى وزارة المعارف (20 أبريل 1940م) مقترحًا إنشاء الجمعية التاريخية أسوة بمثيلاتها في كل البلاد المتحضرة؛ لكي تختص بشؤون البحث التاريخي دراسة، وتحقيقًا، وترجمة خدمة للتاريخ المصري والعربي.
لم تكن هذه الأوراق مجرد خطابات شخصية، وإنما هي وثائق أدبية وفكرية وثقافية أقرب إلى الحوارات بين شيوخ المثقفين والمفكرين تُشكل ملامح عصر من التنوير، ومما يُلفت النظر أن الأوراق قد تضمنت مراسلات مع الكثير من أعلام الفكر والثقافة من قبيل: مصطفى عبد الرازق، وتوفيق الحكيم، ومحمد مندور، وسهير القلماوي، وعبد الرزاق السنهوري، وخليل مطران، ولطفي السيد، وعباس العقاد، ومصطفى النحاس... وغيرهم كثيرون، ومن الواضح أن كل هذه الأوراق قد حرص الأستاذ على أن يحتفظ بها في مكتبته؛ لكي تكون بمثابة ذاكرة عملية لكل المعنيين بالفكر والثقافة والتعليم.
على الرغم من كل الكتب والبحوث التي كتبها طه حسين، والتي وجدت طريقها إلى النشر، وقد راح المثقفون العرب يتلقفونها بالدراسة والتحليل إلا أن مصدرين مهمين من مصادر التعريف بفكر طه حسين لم يجدا طريقهما إلى النور إلا في العقدين الأخيرين من القرن الماضي وبداية القرن الحالي، أولهما: مقالات طه حسين التي كتبها في مختلف الصحف المصرية منذ بداية القرن العشرين وحتى قبيل وفاته بوقت قصير، وقد جمعها بعض الباحثين في مركز تاريخ مصر الحديث والمعاصر وأشرف عليها المرحوم د. رؤوف عباس، وقد نُشرت تباعًا في أربعة مجلدات، ثانيهما: أوراق طه حسين الخاصة، وقد شرفت والزميل الدكتور أحمد زكريا الشلق بالإشراف على نشرها ودراستها في مجلدين كبيرين نُشرا تباعًا في عامي 2005 م، و 2007م، وأعتقد أن الكتابة عن طه حسين مفكرًا وناقدًا وسياسيًا ستظل قاصرة ما لم يرجع المعنيون بتراثه إلى هذين المصدرين باعتبارهما أكثر اقترابًا من شخصية الرجل الذي انشغل الناس به حيًا وميتًا.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.