من أهم شعاب النقد الثقافي شعبة صار لها بالغ الأثر وعميق الصدى وهي شعبة النقد النسوي التي صارت دُرجة هذا العصر، وهي في الآن ذاته متفرع من متفرعات ظاهرة النسوية الكونية التي توزع ماؤها بين تخصصات جمة، لعل أهمها علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة وعلم الأناسة والأدب والنقد. فكيف يكون النقد نسويا، وهل هنالك نقد نسوي ونقد رجالي؟ أو بالأحرى هل من المنطق أن ننعت أدبا ما بأنه أدب نسوي؟

بقدر ما أتوافق معرفيا واختباريا مع وسْم أدب ما بأنه أدب نسوي أو نسائي أو حتى أنثوي بقدر ما أعارض الإفراط في العناية بأدب سمته النسوية، لأسباب أهمها؛ أن الأدب ظاهرة إنسانية ولا فارق فيه على مستوى الإنتاج بين امرأة ورجل، وأن المرأة إن كانت مبدعة ومنتجة فهي داخلة في إنتاج الإنسان عامة ولا ميزة تبدو في أدب نسوي في ذاته، غير أن الميزة في ظني حاصلة في أن المرأة لها خواص تميزها في الكتابة مثلما يتميز الهندي في الكتابة أو الياباني أو يتميز عرق في التقيد بمبادئ عرقه في كتابة الأدب.

النقد النسوي انحصر في الدفاع عن حقوق المرأة في الكون في مرحلته الأولى، وتعدى ذلك في مرحلته الثانية ما بعد الكولونيالية إلى التركيز على البنى العالمية للأختية sisterhood والأبوية، وتحولت النسوية إلى ظاهرة ما بعد الاستعمار لتحليل التاريخ والمجتمع والأدب، وسادت نظرية النسوية في تفكيك الخطاب الأدبي راسمة حدود تفرد لآثار الخطاب النسوي المقاوم للمستعمر والباعث لآفاق تحقق وجود المرأة المكلومة بأثر السلطة الذكورية الطاغية في الخطاب وفي المجتمع وفي التاريخ، وتناثرت بسبب من ذلك أصوات صار لها عميق الأثر في النقد النسوي منها من حاول ضبط تاريخ جندري للأدب مثل جاياتري سبيفاك Gayatri Spivak وشاندرا موهانتي Chandra Mohanty، ومنها من أثار مسألة «الهجنة الثقافية» وهي بحوث ترسخت في أعمال البريطانية هايدي صافيا ميرزا Heidi safia Mirza، وقد لاقى موضوع الهجنة الثقافية صدى كبيرا خاصة لدى الكاتبات اللواتي أصولهن غير أوروبية أو غير أمريكية، ومنها من حصر أدب المرأة في الحديث عن قضايا السلطة والتسلط الأبويين الذكوريين، والعمل على «تفكيك منزلة السيد»، وقد اهتمت الكاتبة والناقدة الأمريكية أودري لورد Audre Lorde بهذا الموضوع وأفاضت القول فيه، ومنها من لم ير في ما تكتبه المرأة إلا كسرا لأصنام المجتمع ودفاعا عن الوجود البيولوجي للمرأة الذي لا يبدل من أمر الوجود العقلي والعملي والنفسي، ومنها من رأى في أدب المرأة كشفا عن علاقات القهر والظلم التاريخي الذي رزحت تحت عبئه المرأة، ويمكن أن نذكر في ذلك على سبيل التمثيل باحثة فحسب، وهي أوما نارايان Uma Narayan. وظهرت بسبب من ذلك أسماء في عالم النقد النسوي عدت مصادر في تفكيك خطاب المرأة وتفكيك السلطة الأبوية، صدورا عن أرضية فوكوية في تحليل الخطاب.

الرأي عندي أن خواص الكتابة النسوية ليست ماثلة في مقاومة المستعمر، ولا في إثبات الجندر، ولا في إثارة مواضيع تخصهن مثل الحيض والولادة والرضاعة، ولا في أنهن يخضعن لهيمنة سلطة رجولية أو مجتمعية فحسب، ولكن للمرأة خواص في السرد تميزها أسلوبا ومضمونا، أما المضمون فهو يختلف من حضارة إلى أخرى، امرأة عمان لها موانع ومشاغل تختلف عن المرأة المصرية وعن المرأة التونسية، ولكن يبقى الهم واحدا، مشتركا، هو هم المرأة العربية، وهم المرأة الكونية، وهم الإنسانية عامة. فهنالك جوانب تكون فيها المرأة الكاتبة معبّرة عن همومها الذاتية والمحلية، وهنالك جوانب تكون فيها المرأة باعثة لقضايا كونية. لا شك أن المرأة قد عانت ألوانا من القهر عبر التاريخ الإنساني، ولكن لا يعني ذلك -في ظني- أن نخصص شعبة من النقد نسميها بالنقد النسوي، ذلك أن الناقد إن أعمل مبادئ النقد النسوي ظلم النص الأدبي حقه، بسبب من انحصار هذا النقد في ثيمات تتفرع في مجملها إلى إظهار القمع الذي تعيشه المرأة، وبيان السلطة الذكورية، والاجتهاد في قتْل السيد، أو التخلص من ثقافة الأب.

هو نقد يحمل إرهاصات الفشل بسبب من ذلك، والأجدر هو الحديث عن الموضوعات التي تخص القضايا النسوية إن توفرت، من حيث هي موضوع من مواضيع شتى يمكن أن تتناول. فإن أخذت مثالا رواية هدى حمد حديثة الصدور «لا يذكرون في مجاز» وكاتبتها امرأة وعوالمها لا تنشد بشكل مباشر إلى قضايا المرأة على مستوى الوجود والتحقق، وإن كانت الشخصية الرئيسة الأولى امرأة، والشخصية الداعية، الجدة الأولى امرأة، والشخصية الرئيسة في القصة المضمنة امرأة، لها سطو وفعل وأثر، هي بثنة الثائبة صاحبة الكتاب، والجدة الحاضرة الغائبة، فهل يمكن أن أخضعها إلى ما اصطلح على تسميته بالنقد النسوي. رأيي أنه لا يمكن إطلاقا فعل ذلك، لأن الناقد إن فعل واستعمل النقد النسوي بشكل كلي ومباشر، الذي يكاد ينحصر في القضايا، أفقد الرواية قيمتها ومنزلتها وجدتها، ذلك أنها رواية تقوم شكلا بنائيا على السرد باستخدام العلبة الصينية، فهنالك قصة إطار هي قصة الحفيدة مع زوجها ورؤاها، وهنالك قصة مضمنة أولى ترويها الجدة الثائبة صاحبة الصفات القوية والأسطورية، وهي شخصية عجنتها الكاتبة من صور شخصيات خارقة وجدت ظلالها في المحكي الشعبي، وهذا يفتح بابا من الدراسة التناصية للرواية، غرابة الشخصية وانفتاحها على الأسطورة المحلية مدخل مهم للكتابة في الرواية، «أخرج في الصباح الباكر واضعة لثامي على نصف وجهي، ولا أفسح المجال إلا لعيني الشهلاوين لتبصرا الطريق. أمضي رابطة خيولي السبعة جوار بعضها بعضا، قابضة سرج أوسطها، فتسير سبعتها بإيقاع منتظم، فيحدق بي أهل مجاز كأسطورة خرجت من قصص غير مألوفة، لم أكن أجلس فوق حصاني بل كنت واقفة بطولي الفارع وشالي الأبيض يتطاير في الهواء. أتماهى مع خيولي، فأغدو برهة زمنية وكأني خيل يبهر الناظرين». عالم من السحر والأساطير يتأسس في المكان الذي ترشحه الكاتبة عنوانا لروايتها، وتفقده كل بعد إحالي على مستوى الظاهر، قصة إطارية أخرى مضمنة هي قصة الضحاك الذي يتعهد بحكاية قصص المنسيين الذين لا تُذكر أسماؤهم. شكل يحيلنا إلى بناء «ألف ليلة وليلة»، ويؤسس لست قصص تتناول في ست ليال. لا أجد بابا أتحدث فيه عن المرأة المقهورة التي أخضعها السيد، وإن أخضع صاحب الحصن الحصين بثنة إلى جغرافيته ومنعها من الحركة ومن المغادرة وأفقدها سحرها، لا يمكن أن أشد عالم الرواية إلى قضايا المرأة؛ لأن الرواية انشدت إلى عالم الحكاية وإلى بعث مضامين ذهنية وتخييلية مهمة.

على ذلك فإن النقد النسوي مجاله ضيق ومحدود، وإن أعمل في غير الروايات التي تنشد بشكل صارخ وواضح إلى ثيمة المرأة في صراعها التاريخي أو الآني، يفقد الرواية قيمتها ويتعسف عليها بلي رقبتها.