قبيل افتتاح متحف عمان عبر الزمان بأيام وشهور أو حتى سنوات، ساد الترقّب وتزايدت حدّته مع اقتراب الموعد، مشحونة بتساؤلات حول مقتنياته، وكيفما هو شكله يا ترى وبأي تصميم قد يكون، لقراءة ذلك الماضي الذي دفع ثمنه وانقضى، وما أن تم الإعلان عن افتتاحه حتى توافد ثلّة من الفنّانين والكتّاب والأدباء وأصحاب الاختصاصات الأخرى، ليكون تجوالهم عبّر مسارب تخصصيّة وتوجّهات مختلفة في قراءة ذلك المتحف، والنظر إلى مقتنياته عبر منظور آخر قد لا يتشابه مع المرافق الأخرى أو بقيّة زوّار المتحف، بعقل فيلسوف وقلب صوفيّ حائر، حاملين معهم حسّهم الفنّي ليقرأ المكان، بتجوال عبر مسار شعوري وجداني، فكأنّ الزمن عبر الزمان يريد أن يقول كلمته، في متحف عمان عبر الزمان، على آناء الماضي، وأطراف الحاضر.

فكان كل منهم يطوف حول مداره، ومدارج تخصصّه واهتماماته، أو مدارج البحث عن تساؤلاته التي تعرّج به إلى مقامات اليقين، يحملون الأسئلة في داخلهم، يقرعون باب الزوايا، لعلّ الماضي بجبروته يدلّنا على الطريق، ليكون وعبر تجوال حائر لروزنامة التفكير زاويتها المميزة التي تقف عليها، لتقرأ المكان في اختزال الزمان عبر متحف عمان عبر الزمان، ولها أرضيّتها الثابتة التي تقف عليها، مستندة على الانطباع كمادة أولى لبناء قراءة رصينة، عبر خطوات تحيك قصة المكان، ومفتّشة عن سرّه المكنون، فتتوق النفس دائما وعلى نحو فطري لأن تكون «عبر الزمان»، كطائر يحلم بالحريّة التي سجنت عبر أسياج الحاضر، ليصبح ذلك الحاضر بعدها ممتنّا لأن تتسع دائرته، فيكون معه الماضي الممتد الفسيح «وعبر الزمان»، فقد يشعر بالوحدة إن لم يكن متصلا بالماضي والمستقبل عبر الزمان، فهل يتساوى مصطلح عبر الزمان مع ذلك الزمان المطلق، فالحاضر لا يتجه نحو الماضي والحاضر بخطّين أفقيّين فحسب؛ بل يتّسع فيه المدى ليكون عبر الزمان، ويكاد يخلو من المعنى إن لم يكن عبر الزمان.

لا يكمن سر جمالية المتحف كونه «أيقونة معمارية وثقافية، وفيه استحضار الأمس واستشعار الحاضر واستلهام المستقبل»، ولا يكمن السرّ في تصميم المتحف الذي يحاكي سلسلة جبال الحجر، الممتدّة في عمان من رأس مسندم التي تكون على شكل قوس عظيم، يتجه من الشمال الشرْقي إلى الجنوب الغربي لعمان، ولا يكمن سرّ المتحف في الواجهات المستوحاة من حضارة النحاس، وعبر جسور فولاذية ممتدّة، ولا يكمن السرّ كونه مبنى ينحو نحو الاستدامة الدائمة، فيكون بذلك صديقا للبيئة، بمعايير استثمرت طاقات البيئة العمانية لخدمة بعضها البعض، ولا يكمن سر المتحف في كل ذلك وأكثر منه فيما يراه المتجوّل أو الزائر من بناء ومقتنيات، يكمن سرّ المتحف الحقيقي في كونه «عبر الزمان»، حيث انطوى السرّ عبر الزمان، ويكمن ذلك السرّ في رمزيّة الدرس، فلا يصبح الزمان كهلا إن كان عبر الزمان، أن تدخل عبر الزمان فإن ذلك أشبه بالأبدية، لتتساءل عن ماهيتك عبر الزمان، وأطوارك عبر الزمان، فيكمن السرّ في أن يهبك شعورا تتسع فيها ذاتك عبر الزمان.

ليكون الانطباع السائد بين الجميع، وإن تفرّد كل منهم بانطباع خاص إلا أنه ثمة مشاعر واحدة سائدة حينها تراها في الوجوه، التي تقرأ حضارة عمان منذ أكثر من ٨٠٠ مليون عام، بداية من التشكّل الجيولوجي عبر حقب ما قبل التاريخ والحضارة، نهاية إلى عمان في نهضتها وعزّتها وشموخها، ذلك الانطباع الذي يشعل فيك الفتيل، ليبزغ التساؤل حول ماهيّة تلك الشرارة، التي ستوقد الفتيل المبروم داخلك عبّر الزمان؟ من أفكار ومشاعر وأيديولوجيّات قامت بتشكيلك ليعرف وجهته برؤية واضحة، وليس كمشاعر الحماسة المتّقدة هي من ستشعل ذلك الفتيل، ليكون انطباعك ليس كيفيّة المشاعر المهملة التي تُنسى بعد حين، هي الحماسة القُصوى من يتّقد عبرها فتيل رحلتك الإبداعية، أو أيا ما تسمّيها أو ماهيّتها، أو بمعنى آخر أنه كلما كانت طريقك الإبداعية قد وضعت خطّتها، فما الذي سيجعلها تنطلق جاهزة للعالم سوى أن يشتعل فتيل جذوة الحماس عبر الإبداع استلهاما، ويزيد توهجا من تجوال حائر عبر الزمان.

يكمن السرّ في تلك القراءة، التي تأتي نتيجة التجوال عبر قاعة التاريخ وقاعة عصر النهضة، بداية من الحقب الجيولوجية وتشكّل الأرض، إلى استعراض السكّان الأوائل في الأزمان الحجريّة القديمة، التي كانت على نحو افتراضي كانعكاس لتلك الأثريّات والمقتنيات الأحفورية، وصولا إلى العصر الحديدي في جناح مملكة عمان، لتتوالى الحقب والحضارات فيكون لعمان بعدها حقبتان كان لهما الأثر البارز في دولتي اليعاربة والبوسعيديين، عبر فترات تأسيس الدولة والإمبراطورية العمانية، وفترة انقسام الحكم بين مسقط وزنجبار وصولا إلى النهضة العمانية التي ابتدأت منذ أن تحقق الوعد: «سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل»، تلك القراءة المختصرة التي تختزل الأزمان، تعطيك سرّها كونها «عبر الزمان»، فما لا يبوح به الحديث بتفصيله ينقله الزمان برمزيته.

افتراضات عديدة تنامت عبر الأزمان كشاشات العرض الفسيفسائية، تلك التي تعرض انعكاسات الحضارة وما قبلها، تقرأ منها كيف تنامت المعرفة والعلم عبر الفصول، وعبر افتراضات كان فيها البقاء للافتراض والفكرة الأقوى، يحصل عليها الإنسان من حاجاته والمشكلات التي تصادفه، وتنامت كذلك نتيجة للتفاعل المباشر مع معطيات الأرض والطبيعة من حوله، «فالطبيعة جزء منك» كما عبّرت عنها جائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري.

وإن كانت قديما الحاجة هي أم الاختراع، فإن الحماسة المتوقّدة حينها، من خلال التجوال في متحف عُمان عبر الزمان يجعلني أقول «الحماسة أم الاختراع»، إضافة إلى ذلك الشعور الفطري العميق لدى الإنسان لأن يحيا حياة كريمة يرقى بها عن مستوى بقيّة الكائنات، منذ أن امتلك بعضا من روح الله، في نفخة إلهيّة تعبّر عن كونه مخلوقا من جسد وعقل وروح، وعبر اندماج تلك المنظومات الثلاث توالت على الإنسان صنوف الإبداعات عبر الزمان، ولتكون الفترة الفاصلة بين خطوة وأخرى ليس بمقدار خطوة، إنما انطلاقة تعادل قفزة، أو رحلة تحليق وطيران حرّ، لتتّسع المسافة فتتّسع معها الفجوة ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، لتكون هناك فترات انتقالية «عبر الزمان»، لكن ليس كتلك الأزمان الممتدّة بل أزمان المتحف المختزلة، فترات انتقالية بسبب اشتعال فتيل الطاقة عبر مشاعر اتّقدت من نفحات الحماس، لتتجاوز فيه حقَب الماضي، وأزمان بأكملها لتتعلّم أن تتفادى المتاعب والمطبّات، فلا يكون اعتزازك سوى بالإنجاز.

لتطوف عبر الزمان ليس في مسار طريق مستقيم ولا بالمنحني، بل في مسار دائري تدور معه عجلة الحياة، كركن اليعاربة، وتصميم قلعة نزوى، وللزمان مساراته الدائريّة التي تأخذك إلى عوالمه الحلزونيّة واللولبية، امتداد عبر الزمان ليس فقط بخطيّ الماضي والمستقبل ويتوسطهما الحاضر، بل باتساع المعنى ورمزيّة الدرس لدى الزمان، ليكون عبر الزمان؛ ليس امتدادا عبر خطين أفقييّن فقط، بل هي أكثر من ذلك إلى اتساع يشمل أفق المعنى.

فوزية الفهدية كاتبة وقاصة عمانية