للناقد أدوات يجريها وتصوّرات يصدر عنها وخبرة في تلقّي الخطاب الأدبيّ والوقوف على محاسنه أو مساوئه. فما المداخل الرئيسة التي يمكن منها أن ننفذ إلى خطاب الأدب؟ لقد أثرنا في المقالة السابقة مسألة قراءة المتعة، وهي ركْن مكين وجب توفّره في قارئ الأدب، فهل أنّ كلّ النصوص ممتعة، وهل على الناقد ليمارس متعته ألا يطّلع إلا على ممتع النصوص؟ فماذا نفعل في قراءة النفْرة أو القراءة المقرفة؟ ماذا نفعل في النصوص التي يمكن أن تسود عالم الأدب بسوئها وسطحيّتها وسذاجتها وقلّة مائها؟

في العموم، أنا من الراغبين في الاطّلاع على ما يسود عالم الأدب حتّى أتمكّن من تشكيل موقف دقيق ممّا يكتب، ويمكن أن أستخلص من تجربتي في القراءة ما بلغه أحد الظرفاء العرب القدامى في وسْمه للظواهر الشعريّة الغالبة في عصره، يقول: «الشعراء فاعلمنَّ أَرْبعهْ، فشاعر يَجْري ولا يجْرى معه، وشاعر يَخوض وسْط المعمعة، وشاعر لا تشتهي أن تسمعهْ، وشاعر لا تستحي أن تَصْفَعَهْ»، بيانا للتقبّل في درجات وللنفور في درجات، ولذلك فإنّي أعتقد أنّ من دور الناقد الأكيد أن يضبط حدّ السوء والإسفاف فحسب؛ لأنّه غير قادر على تحديد حدّ الجودة والحسْم في المختلف فيه، الذي يبقى حمّال أوجه.

لا يمكن أن أجد دوما نصّ المتعة الذي أحسن رولان بارط وصفه بقوله: «نص اللذّة: إنّه ذاك الذي يرضي، يفعم، يغبط، ذاك الذي يأتي من صلب الثقافة، ولا يقطع صلته بها -هذا نصّ مرتبط بممارسة مريحة للقراءة. أمّا نصّ المتعة: ذاك الذي يضعك في حالة ضياع، ذاك الذي يتعب (وربما إلى حدّ نوع من الملل) فإنّه يجعل القاعدة التاريخية والثقافية والسيكولوجيّة للقارئ تترنّح، ويزعزع كذلك ثبات أذواقه، وقيمه وذكرياته، ويؤزّم علاقته باللغة»، فالإرضاء ليس قاعدة عامّة وأذواق القرّاء مختلفة ومتنوّعة، ولكن هل هنالك ضامن قرائيّ يضبط حدّا أدنى من المقبوليّة؟

يوما ما كنت مسافرا في رحلة طويلة تأخذ منّي يوما كاملا من الانحباس في الطائرات والمطارات، حملت معي رواية حادثة الصدور لكاتبة من المفروض أن تتوفّر في كتابتها الحدود الدنيا للمقروئيّة، وكانت الرواية ذات حجم كبير، فوعدت النفس برواية يمكن أن تحثّني على الكتابة تمتعا معها، ناهيك أنّ الكاتبة عالية التعليم ومن سلالة كاتبة، فبدأت القراءة وحصل النفور المانع من إكمال القراءة، هو نفور يعتريني في حالتين شبيهتين في الفعل مختلفتين في الأثر، الحالة الأولى الإعجاب المفرط بالمكتوب، فأضطرّ للتوقّف تمتّعا بما قرأت ومحاولة لترسيخ الأفعال والشخصيّات في ذهني، والحالة الثانية النفور المطلق من الرواية بسبب أخطاء جسيمة في كتابتها أوّلا وبسبب استغباء القارئ ثانيا ممّا يولّد إحساسا بتعطّل السرد، وهذا يعني تعطّل القراءة، وهي الحالة التي عشتها مع هذه الرواية، غير أنّي واصلت قراءتها واعدا النفس أنّ الرواية ستنقدح بعد المائة صفحة أو بعد المائتين، فلا هي خيّبت ظنّي في القراءة وتجلّت وأبانت فتنتها، ولا أنا تركتها قانعا بسوئها، فهل لي أن أكتب مبينا ضعفها وعجزها؟ وهو الأمر الذي فعلته. وأنا من المنتصرين إلى نقد يصدح بموقفه من المقروء سلبا أو إيجابا، وكنت مطمئنّا لرأيي ولدرجة نفوري الذي هو أكيد لاحق القارئ العادي، واطمئناني راجع إلى ما أتسلّح به من مناهج نقديّة أوّلا ومن ذائقة يمكن ألا تستحسن نمطا في الكتابة ولكنّها تعترف بقيمته ومنزلته.

لقد تطوّرت مناهج النقد الأدبيّ وتعدّدت، وهي مناهج تبهج الناقد إذا افترشها لتعليل ما يستحسن أو ما يسترذل، لكن تبقى القراءة الأولى، قراءة المتعة هي الأساس. عندما كنّا نعمل المناهج البنيوية في التعامل مع الأدب، كانت النصوص الأدبيّة تتماثل، فالنهج البنيوي يعْدم التفاعل مع النصوص وقراءتها في سياقها التاريخي والثقافيّ والشخصيّ، يعدم وجود كاتب له نَظر وفعل وأثر في ما يكتب، ولذلك فإنّ النقد تجاوز هذه الطريقة واستخلص منها درس البنية العميق مع إعادة إدماج السياق والمقام والذات في الخطاب، ونتجت مناهج الأدوات لا الهياكل، هي مناهج تنتقي أدوات في الدراسة يمكن أن تعمّق دراسة الأدب. إنّ التوجّهات النقدية التي ظهرت بعد الاستعمار أو ما يسمّى اصطلاحا بنقد ما بعد الكولونيالية هو نقد يهتمّ بذات الكاتب ومقامه ولكنّه في الآن ذاته يسمح للناقد ألا يكون موضوعيّا، أن يعْمل ذاته في نقده وتلقيه الأدب، فلا يمكن أن يكون النقد تامّ الموضوعيّة شأنه في ذلك شأن الأدب.

وسأحاول في هذه المقالات أن أعرض جملة من التوجّهات النقديّة التي غلبت بعد الاستعمار والتي تلت الهيمنة البنيويّة وأن أعرض بعضا من رموزها وأهمّ مفاهيمها، وأن أتبيّن أثرها في الخطاب النقدي العربيّ من جهة وفي الخطاب الأدبيّ وخاصّة منه الروائيّ الذي ظلّ عرْضة للإهمال أو لسوء التناول إلا في حالات قليلة. نقود عديدة ظهرت، منها ما سرى وجرى، ومنها ما لم يجد صدى، نقد العوالم الممكنة الذي ظلّ حبيس بعض الجامعات والدراسات المتخصّصة دون انفتاح على العوالم الثقافيّة، النقد الثقافي الملبس والذي هيمنت عليه أصوات في الغالب اكتفت بنقل النقد الغربي دون عمق أو أثر، النقد النسويّ الذي أثار جدلا في الساحة الثقافيّة لاتّصاله بظاهرة النسويّة سيّئة الإدراك والفهم في الفضاء العربيّ، المنضوي تحت باب النقد الجندري الأعمق، النقد التفكيكي بحثا في مضمون الذات وفي الثنائيات المتعارضة في السلطة البنيويّة.

تلك كلّها أدوات تشكّل مداخل معاصرة إضافة إلى المداخل القديمة، يمكن أن يتسلّح بها الناقد لولوج عالم الخطاب، ويبقى الأصل هو تذوّق الأدب والإحساس به وإدراك منزلته، وهي المداخل التي نشرع في بيان عناصرها بإيجاز وبساطة في مقبل المقالات.