تذهب مع صديق إلى مقهى ما، تُحاول أن تدفع بالبطاقة لكن المحاسب يقول لك إن جهاز الدفع الإلكتروني معطل اليوم. تلتفتُ لصديقك فتسأله هل معك ما يكفي من الكاش؟ يقول الصديق أظن ذلك ثم يفتح محفظته. يقول أوه كنتُ أظن أن معي أكثر. مُصدقا حدسه، يهم بالبحث في جيوبه حتى يجد أخيرا الورقة النقدية التي تُتمم الفاتورة. صديقك -مثلك تماما حين علمتْ أنك لا تملك ما يكفي- لم يمضِ في يومه حاسبا كل قطعة أو ورقة نقدية يصرفها، لكنه مع ذلك يمتلك نوعا من الحساسية تُخبره بشكل تقريبي كم تبقى معه. وأنتما تفعلان هذا على نحو حدسي. فأنت تعرف أيضا إن كان ثمة علب مناديل متبقية في المنزل حين يسألك شريكك، أو إن كان ثمة مشروبات بعد في الثلاجة، ليس على نحو دقيق، ولكن بشكل تقريبي حتما.

الفلاسفة الذين حدسوا مثلك أوراقهم النقدية ومشروباتهم المتوفرة، يُجادلون -ولطالما فعلوا حتى قبل زمن الثلاجات، وآلات الدفع الإلكتروني- أن ثمة حاسة رقمية أو تعدادية «number sense» فطرية لدى الإنسان، تُساعده على نحو غير واعٍ في حل مسائل الرياضيات البسيطة وهو يمضي بسلاسة في يومه. وأن هذه الملكة تنمو مع الوقت لتجعله قادرا لاحقا على حل أصعب المعادلات.

في مقال اليوم نُطالع أحدث التجارب العلمية التي أثرَت هذا الموضوع عبر تقديمها بينات جديدة من خلال ما تم ملاحظاته على سلوك الأطفال الرضع. لكن قبلها دعونا نجيب عن سؤال يكاد يكون أهم من حسم الجدال نفسه، ألا وهو بماذا يُهمنا هذا؟ لماذا نهتم إن كنا ولدنا بملكات لغوية ورياضية، أو إن كنا نولد ألواحا فارغة تُحصّل المعرفة عبر التجربة. بالإضافة للمساهمة في فهمنا للعملية التعليمية المبكرة للطفل، أحسب أن ما يُلقى من حجج في هذا الخطاب يُمكن بشيء من التصرف تضمينه في جدالات الطبع (الأصلانية) والتطبع (التجريبية). بمعنى أنها تمنحنا أدوات للجدال حول طبيعة الخير والشر، وإن كان أيا منهما فطري.

في سياق الفلسفة الغربية، كان أفلاطون من أوائل المعتقدين بالقدرات الرياضية الفطرية. ظلت هذه النظرية سائدة حتى التجريبيين وعلى رأسهم جون لوك وجون ستيورات ميل الذين جادلوا أن قدرتنا الإحصائية متأتية من تعرضنا لنماذج عديدة تُخبرنا أنه -مثلا- بوضع عنصر وعنصر معا يُصبح لدينا عنصرين. بقي الفكر التجريبي سائدا إلى أن جاء عالم لغويات (نعوم تشومسكي) يقترح أن الأطفال يولدون بقدرات فطرية تعينهم على التقاط لغتهم الأولى بأقل قدر من التعليمات. وُسع منظور تشومسكي بعدها ليشمل القدرات الرياضية أيضا. هذه القدرات غير خاصة بالبشر فحسب، بل وجدوا أن حيوانات أخرى تشترك مع الإنسان في القدرة على العد. الذئاب مثلا تختار فريستها بناء على عدد أفراد القطيع. إنها تهاجم ظبيا إن كان تعدادها اثنان إلى ستة، بينما تجرب الإطاحة بثور بايسون حين يتجاوز عددها التسعة.

نشر الباحثان (جاكوب بيك وسام كلارك) في عدد هذا الشهر من مجلة (Scientific American) مقالا بعنوان: وُلد ليُحصي «Born to Count» راجعا فيه مجموعة من الأدلة التجريبية وما تعنيه لهذه المسألة.

على سبيل المثال، قام الباحثون (فاي شو وإليزابيث سبيلك) بعرض شاشة تحوي 8 أو 16 نقطة، تبعوا ذلك بشاشة أخرى تعرض إما العدد نفسه من النقاط أو عددا مخالفا (تعرض شريحة الثمان نقاط بعد شريحة الـ16 نقطة والعكس). وتوصلوا إلى أن الرضع في عمر ستة أشهر يُطيلون النظر إلى الشاشة إذا ما عرضت عددا مخالفا من النقاط. فسر الباحثون إطالة النظر بأنها قدرة على التمييز بأن الشاشة الآن تعرض عددا أقل أو أكثر من السابق.

في تجربة أُخرى، قامت الباحثة (فيرونيك إيزارد) وزملاؤها بتعريض الرضع لتسجيل صوتي وجعله مألوفا لهم لمدة دقيقتين، ثم عرض صورة تحوي إما عددا من النقاط مطابقا لعدد المقاطع الصوتية في التسجيل أو مخالفا له. ولاحظوا أن الرضع يُطيلون النظر عندما يكون عدد النقاط موافقا لعدد المقاطع الصوتية، كأن يسمع «تو تو تو تو» وتكون على الشاشة أربع نقاط.

بناء على هذه المراجعة يستنتج كاتبا المقال أنه «مثلما يمكن للأطفال إدراك المسافات ومميزاتها قبل أن يتمكنوا من التفكير فيها بدقة بوقت طويل، فإن لهم القدرة على تمثيل الأرقام ذهنيا قبل أن يتعلموا العد عبر اللغة والتفكير في الأرقام على نحو دقيق.

هذه القدرات الحسابية الفطرية -أي الإدراك والجمع والطرح والتعامل مع الأرقام- محدودة في حد ذاتها. لكن لفهم كيف يتطور رضيع ما ليصبح أينشتاين لاحقا، يجب ألا نقلل من قدرة الأطفال على الفهم الأولي للعالم. نحتاج -حتى نتعلم- إلى شيء جوهري للبناء عليه. توفر حاسة الأرقام للأطفال جزءًا من الأساس الذي يمكن أن تنشأ منه قدرات رقمية جديدة».

لم تخلو هذه التجارب من النقد. إذ وجدها بعض العلماء مُعممة (إذ بَنتْ إيزارد -مثلا- استنتاجها على 15 من أصل 16 رضيع)، كما انتُقدت التجارب باعتبارها تهمل جانبا مهما ألا وهو ضعف نظر الأطفال في هذه المرحلة العمرية.

معرفة ما يحويه رأس الرضيع أو حيوان آخر ستبقى تحديا أمام التثبت التجريبي حول ما إن كنا نولد بقدرات رياضية أو لا، لكن يبقى أن هذه المقاربات تضيء لنا شيئا حول الطبيعة الذهنية الفطرية والتطورية لدى البشر.