تحدثت في مقالتي السابقة حول «معرض مسقط الدولي للكتاب عرس ثقافي سنوي» عن رؤيتي حول المعرض في دورته السابعة والعشرين، التي ختمت نهاية الأسبوع الماضي، ولا أريد تكرار الحديث حوله، بيد لدي مجموعة من الحوادث والمذكرات ممكن أن تكون إكمالا لها وفق رؤية شخصية، وإجابة أيضا عن بعض التساؤلات، وبحثا عن تساؤلات أخرى تفتح آفاقا أكبر.

قصّتي مع معرض مسقط للكتاب تعود إلى بداية الألفية، حينها كان الكتاب أرخص بكثير من اليوم، فمائة ريال عماني تستطيع بها شراء ما قد يعادل اليوم ثلاثمائة ريال عماني، فثلاثة أجزاء من كتاب مجلّد حينها لا تتجاوز خمسة أو ستة ريالات بالكثير، بينما تقترب الآن من خمسة عشر ريالا عمانيا، لهذا رغم المكافأة البسيطة الّتي كنّا نحصل عليها من الدراسة آنذاك؛ استطعت توفير أكثر من ألف كتاب خلال فترة الدراسة، وما بعدها بقليل، بيد أنني اليوم أشعر بكلفة في توفير الكتاب لارتفاع سعره مع القيمة السوقية للعملة.

الإشكالية في معرض الكتاب أنّك تجد نفسك ضعيفا أمام الكتاب مهما حاول المرء جعل يده مغلولة، فلا يبسطها بقوّة، إلّا أنّ الكتاب يغري الإنسان، فيضعف أمامه، خصوصا اليوم حيث المعرفة تتضاعف بشكل كبير، وكلّ عام يجد ما هو جديد تأليفا وترجمة وتحقيقا، وكم من كتاب سابق يشتريه المرء إذا لم يفرّغ نفسه له، أو يلتفت إليه؛ سيكرر الحال مع الجديد أيضا، إلّا أنّ توفير الكتاب للبيت أو الأسرة حالة صحيّة، ولكن كيف يستطيع الواحد منا استثمار شراء الكتاب إيجابا؛ ولا يعني من شراء الكتاب قراءته كاملا، وليست العبرة بقراءة عشرات الكتب سنويّا، ولكن السؤال دائما كيف يتعامل المرء مع الكتاب؟ ويستثمر المعرفة الموجودة فيه، فاليوم مثلا توجد عشرات المكتبات الرسمية والأهلية، حيث تختصر الطريق في توفير الكتاب وتكلفته، خصوصا الأمهات منها، فهذه تعين الإنسان على أن يلتفت مع الكتاب الذي يساعده في رقيّ معرفته كالمداخل المعرفية، أو لبحث أو مشروع يشتغل فيه، أو لكشف أهم ما توصلت إليه المعرفة اليوم.

ثمّ إنّ إقبال الجيل الجديد على الكتاب، وشرائه وكشف ما فيه يبطل نظرية أنّ الجيل الجديد لا يقرأ، بل هو يقرأ بعمق أكثر منّا، ويدرك لغات وفلسفات ومعارف أكثر سعة ممّا كان في زماننا، وهذا واضح من خلال أمرين: الأمر الأول في بدايات المعرض الأولى أي في السنوات الماضية - كانت الكتب الدينية والتراثية والتأريخية أكثر إقبالا وتداولا، أمّا اليوم فهناك حضور كبير في الكتب الفلسفية والفكـرية والنقدية، وفي كتب الترجمة والرواية، ولم يعد يقتصر القارئ من الجيل الحالي عند الرموز والكتاب العرب، كما لم يقتصر عند الكتّاب الغربيين، فأصبح اليوم أكثر سعة مع القلم الروسي والإيراني والتركي وما ترجم من أمريكا اللاتينية وشرق آسيا، رغم قلّة ترجمتها، إلّا أنّ الجيل الجديد أكثر إدراكا لها.

والأمر الثاني ما سمعته ورأيته من المبادرة الطلابية لهذا العام وفي السنوات الماضية، ورغم أنّ الطّلاب غالبهم في بداية العشرين أو أقل، إلّا أنّ الحضور الكثيف يوميا للحصول على الكتاب؛ يدل على الرغبة القرائيّة الكامنة فيهم، ثمّ رغم توفر الكتب المتنوّعة بسبب التبرع، إلّا أنّ الكتب الفلسفيّة والفكرية والنقدية تظل في مقدمة رغبة الجيل الحالي، لهذا تضطر المبادرة إلى توفيرها عن طريق التبرع.

الأمر الآخر هو مجيء العديد من الشباب فتيانا وفتيات للتباحث والنقاش في جدليّات فكريّة وفلسفيّة، فيوميّا طيلة أيام المعرض يأتي منهم للجدل حول قضايا تدرك بها أنّهم لا يتوقفون عند القراءة أو السماع، وهنا خلال حديثهم تدرك سعة أفقهم ومصادرهم الّتي لا تتوقف عند الكتاب، لتتسع إلى الأفلام الخيالية والعلمية والوثائقية والتصويرية والسينمائية وغيرها بلغات مختلفة، ولمشاهدتهم لمحاضرات يوتيوبيّة وغيرها، بجانب القراءة من الثّقافات الأخرى، حيث يدرك المرء ذاته كثيرا أمام الجيل الحالي أنّه ما زال يعيش بعقل في فترة زمنيّة معرفيّة متأخرة عن واقعه؛ لتقدّم المعارف بشكل كبير جدّا، وتضخمها يوما بعد يوم.

أيضا لمّا تتأمل ملاحق المعرض ومبادراته؛ أجد التنوع في الفعاليات من موسيقى وفنّ ومسرح ورسم ونحت ومبادرات، وغالب هؤلاء من الجيل الجديد، والنّاس موزعة هنا وهناك؛ هنا تدرك الصورة المصغرة للواقع الخارجي، فهناك عوالم لا عالم واحد، ولا يمكن بحال اليوم صهر النّاس في واقع ورؤية وهويّة واحدة، لهذا التعددية هي الحالة الصحية، وليترك الجيل أن يبدع في مساحة واسعة، وفضاء أوسع، دون التّوسع في الوصايات، والحساسية المفرطة.

لقد اطّلعت على بعض ما قيل من انتقادات للمعرض في «تويتر» وهذه حالة صحية، وهي قليلة جدّا مقابل الرضا الذي شاهدته وسمعته وقرأته أثناء وبعد انتهاء المعرض، ولعل من أهم الانتقادات قلّة عدد الزوار، حيث بلغ عددهم ٣٥٨٠٨٨ زائرا، مقارنة بالسنوات الماضية خصوصا ما بعد كورونا، حيث تجاوز عدد الزوار في بعض السنوات مليون زائر، بيد أنّه لابد أن ندرك في الحقيقة دقّة بيانات الإحصاء، فكانت سابقا أقرب إلى التقدير، خصوصا في موقع المعرض السابق قبل افتتاح مركز عمان للمؤتمرات والمعارض عام 2018م، لهذا عادة في الأجواء المعرفية أن يصل عدد الزوار ٣٥٨٠٨٨ زائرا مع قلّة عدد سكان عمان؛ هي حالة واقعية عقلا، ومرضية عمليّا، فمعرض القاهرة للكتاب، الّذي يعدُّ قبلة الناشرين والقرّاء والباحثين، ويعدُّ الثاني عالميا بعد معرض فرانكفورت الدّوليّ للكتاب، لا يزيد عادة عدد زوّاره عن مليوني زائر، في بلد يزيد عدد سكانه عن مائة مليون!!!

أيضا لفت انتباهي من خلال الفعاليات الّتي حضرتها التّنوع والجرأة في الطّرح، مع انشراحة وأكثر سعة وحريّة، وأرجو ذلك في المعرض كلّه ولفترة دائمة، خصوصا في الحساسية المفرطة من بعض الكتب، فالعالم اليوم مفتوح على بعضه، والتّدافع بالحضور المعرفيّ والإسهام والحفر فيه، لا بالمنع المبالغ فيه، وإن كنّا هذا لم نصل إليه بصورة حرفيّة، لكن الحفاظ على مساحة الحريّة وتوسعتها هذا ما أرجوه في الأعوام المقبلة، لتكون عُمان قبلة الإبداع والإنتاج والثّراء المعرفي، ولا يتحقّق ذلك إلّا في مناخ واسع من الحريّات.

شاهدت سعة الطّرح ودقته مثلا من محاضرة الصحفية بارعة علم الدّين ورؤيتها حول «السلطة الرابعة إلى أين؟»، حيث قدّمت رؤية ناقدة للصّحافة اليوم ولواقعها عمّا كانت عليه، لتتراجع إلى السّلطة الثّامنة أو التّاسعة حسب رؤيتها، كما انتقدت الواقع اللّبنانيّ اليوم المؤلم، ولسياساته الّتي مزقت هذا البلد الجميل نتيجة الولاءات الخارجيّة والطّائفيّة، وهي لبنانيّة الجنسيّة، وشاهدت ذلك أيضا من المستشرق الأسباني إغناطيوس غوتيريت الّذي قدّم رؤيته بكل حرية حول المشترك الثقافي بين العرب وإسبانيا، كذلك المفكر اللّيبيّ إبراهيم الكونيّ الّذي قدّم رؤيته الغنوصيّة حول الصحراء، وأنّها أصل الإنسان والحضارة، أيضا الباحث القطريّ نايف بن نهار الّذي قدّم رؤيته حول الهويّة والاندماج الثّقافي من خلال تجربة قطر في تنظيم كأس العالم، وهي محاولة للجمع بين الرؤية المحافظة الأقرب إلى القرآنيّة بلباس الحداثة، ولقت تفاوتا جدليّا في بعض الجوانب بين مؤيد ومعارض، أيضا المفكر اللّبنانيّ المقيم في فرنسا عيسى مخلوف، الّذي ركز على تحوّلات الثّقافة في الزمن الرّاهن، مشيرا إلى الواقع القادم من خلال حضور التّقنيات والتّكنولوجيا كمنافس للإنسان في صناعة النص الثقافي ذاته، حتّى على مستوى الأدب والشّعر، والّذي قد يشكل تحدّيّا قادما، وأخيرا ممكن الإشارة لا للحصر إلى الباحثة الأردنيّة المقيمة في بريطانيا إنعام الور، والّتي تحدّثت عن جدلية اللهجات واللغات، وعن أصل اللغات، وعلاقة اللهجات بالفصحى، وعلى مستوى الدولة القُطرية خصوصا.

ما ذكرته آنفا نماذج قليلة جدّا ممّا شاركت في بعضها، إلّا أنّه يجدر هنا أيضا الإشادة إلى الالتفاتة إلى الفنّ، وكان حاضرا بقوّة؛ لأنّه جزء لا ينفصل عن الثّقافة، وهنا أشيد بالالتفاتة إلى سفير الأغنية العراقيّة جابر سعدون، في فعاليّة من أروع الفعاليات، حيث استمرت ساعتين مرت بسرعة، وليتها طالت لثلاث أو أربع، فسعدون قامة ثقافية وغنائية، كما أنّه سجل مهم للّذاكرة الفنيّة العربيّة، فجميل هذه الالتفاتة بعد ثلاثين عاما من الانقطاع حسبما ذكر نفسه.

كذلك جميل تلك الالتفاتة إلى سفير الأغنية العمانية سالم بن علي سعيد - ت 2017م- من خلال الجلسة الحوارية حول المسيرة الفنية للفنان الراحل، ومن خلال المعرض المصاحب، ليعانق الفن الأدب والشعر والفكر والفلسفة والعلوم الطبيعية والإنسانية عموما، وهذا ما أدركته واقعا في معرض مسقط الدولي للكتاب.