بداية من أصوات الطبيعة التي أيقظت السّمع فينا، وكأنه نداء قادم من امتداد الماضي البعيد، لنبدأ في استكشافه شيئا فشيئا، ليكون ذلك الصوت باعثا عن الانطباع، وذلك النغم يخلق الشعور فينا، فنسعى لأن يكون لنا صوتنا الخاص، والخاص جدا، فلا نترك للطبيعة وحدها تفرّدها بأصواتها الخام التي تميّزها فنشعر بها نحن، أو تلك الأصوات التي تختلط علينا بعد أن يتناهى إلى سمعنا، فلا نتمكّن من معرفة موقعها على وجه التحديد، فيمكننا جميعا أن نسمع؛ ليس الجميع قادرا على تتبّع ذلك الصوت، مصدره ومنفاه.
أصوات الطبيعة القادمة من السماء، أو تلك المنبعثة من نَفَس الأرض، لنكون بذلك نقطة التقاء لها، فنصيغها في بنية تركيبيّة وتناغم يشابه بحّة الناي ونغمة الكمان، فيكون لتلك الأصوات البدائية الأوّلية الطبيعية المادة الخام، والمكوّن الأوّل والرئيس لظهور الإيقاعات فيما بعد، بداية من النفخ على قرن العاج إلى نداء المحارة، لمعرفة صداها أو العودة بتقهقر عميق نحو الذات، ليكون لأجسادنا في الداخل أصوات بإيقاعات ومنظومة تشي بالحياة، كإيقاع قلوبنا المتسارعة، فيكون الصوت بذلك من الطبيعة وإليها، فنأخذ منها الطابع الصوتي بموجاته وارتداداته، فذلك النغم هو صورتنا المسموعة، فكما يقول أحد الفلاسفة باعتبار الموسيقى أعمق مما نظن «أن دراسة الموسيقى تمكننا من فهم القوى التي تحكم الطبيعة» ليكون هناك توسّع هائل في المقامات والإيقاعات، عبر آلات صوتية تطوّرت عبر الزمان، ليكون لكل مجتمع هويّته الخاصة، وطرازه من الآلات الخاصة، التي تهب فيه روح الهوّية، المتجذر فينا وبتناغم قادم من نداء الأسلاف، فإن كان للأسلاف نداء حقا، فنداؤهم لنا يكون عبر الهويّة، وكما يقول شبنهاور: «إذا استطعنا التعبير من خلال المفاهيم، عما تعبّر عنه الموسيقى بطريقتها، سنصل لا محالة إلى الفلسفة الحقيقية»، فتلك النغمة هي فكرة أيضا.
نجد أن كل لحن له هويّته التي تتشابه مع هويّة الإنسان، التي لا يمكن تحديدها وتسييجها إلى حدّ معيّن، فهي آخذة في التمركز حول الذات وإلى الاتساع كذلك، لتشمل كل المتفاعلات والمتغيّرات من حولك، وكما عبّرتُ عنها في مقال سابق «الهوية أشبه ما تكون ما بين انفجار وانكماش كوني»، والذي يختصر التساؤلات الوجودية حول ماهية الذات، في كون أن معرفتك بذاتك وهويّتك والأنا الحقيقية تساعدك على أن تكون أكثر اتساعا وتمددا في هويّتك، التي تتفاعل وتتأثّر بكل ما يحيط بها.
وهناك مقطع مسجّل على اليوتيوب؛ يختصر مسألة الهويّة وتساؤلاتها، عبر سلسلة من الأسئلة مفادها من أكون، يختصرها المقدّم فيقول: لو فقدت إحدى يديّ؟ سأظل ذات الشخص، ولو أني فقدت ذاكرتي؟ سأكون كذلك أيضا، وحتى إن ذَهب عقلي؟ فأنا ما زلت الشخص ذاته، فمن أكون أنا سوى منظومة فسيفسائية مترابطة ما بين الذات الداخليّة العميقة جدا، بداية من الروح والنفخة الإلهيّة الأولى، إلى اتساع دائرتها شيئا فشيئا، لتكون هويتك أيضا في تلك الهالة المحيطة به، كما عبّر عنه الدكتور أحمد عمارة في سلسلة محاضراته حول الطاقة.
وكما أن تكون لنا هويّة خاصة، فإن للأشياء التي نمتلكها هويّة كذلك، لأتحدّث بإيقاع ونغَم عبر نوتة موسيقية عن هويّة اللحن العماني، فنحن نمتلك هوية لحن من بدايات ألحان الأغاني القديمة التي كنا نطرب لها، والتي نشعر بأنها تشبهنا وتلامس هويتنا، ونهاية بألحان فلكلورية مطوّرة امتزجت بالحداثة، واتسعت مع التبادل الحضاري والانفتاح على العالم.
وكما نسمع عادة أن يرتبط اللحن بثقافة بلاد معينة، فنستعذبه من قبل أن نسمعه حتّى ندرك أن له هويّة خاصة وطابعا مميزا، فإن ذلك اللحن يكون بذلك قد حافظ على هويته، وأصله العميق البعيد رغم كل التنامي والتطوير الذي طاله، فأصبح فلوكلورا مميّزا عبر الزمان.
وفي جلسة حوارية نظمها معرض الكتاب بمسقط، عن المسيرة الفنّية للراحل سالم علي سعيد، الذي حصل على وِسام الإشادة السلطانية من الدرجة الثانية، بعد مسيرة فنّية تميّزت بالإبداع، وقدّمت اللحن بطريقة تحاكي الهويّة العمانية، فرغم أنه تدرّب وتتلمذ الفن ونهل من علمه على يد مختصين بريطانيين، إلا أنه وعبر أصالة اللحن العماني تمكّن من الظهور على المستوى العربي، لتكون له مشاركات عالمية أيضا.
وكما عبّر عن ذلك السيّد خالد بن حمد «غِناؤه سلِس، وحضوره لافت، وسجّل اسمه في تاريخ الفنّ العماني، بحبرٍ من ذهب، فكان يحبّ عمله ويقتات عليه، ويعيش من أجله، مسخّرا كل وقته»، وليتحدّث بعد ذلك الشاعر سعيد العتبي، عن أن الفنّان الراحل استحسن أولى قصائده لتحظى بلحن غنائه، ويتحدّث علي غوّاص عن السمة الإبداعية لدى الفنان الراحل فيقول: «كان يتّسم بالبساطة، وقريبا من عامة الناس»، وبشيء من الجماليّات الإبداعية إنه كان يبدأ باللحن، ثم يأتي بالنص بعد ذلك، لتكون مسيرته حصدت حوالي ٦٣ ألبوما، وأكثر من ١٠٠ فيديو كليب، و٤٢ أغنية، «فقد كان خير سفير للأغنية العمانية».
لنعود بذلك إلى أن اللحن والصوت هما من الهويّة التي نتأثر بها، فاللحن كاللغة، وكما يطال تلك اللغة التهذيب والتطوّر، لتكون بذلك لغات عامة ولغات برمجة، كذلك اللحن، فلا بدّ من الإمساك بجوهره والتنامي بدون انفلات، ليشابهنا الأمر، وليكون أقرب إلى هويّتنا، لتكون الهويّة في اللحن ذاته وجوهره وليس كطابع دخيل، ويعبر الأزمنة جميعها ولا يكون للماضي فقط، ليكون لنا هويّتنا وطابعنا، الذي ينفث من روح النغم بلا هدف وغايات، فتلك الهويّة أعمق من أن تكون العمل الظاهري الجليّ، بل هو شيء يصعب شرحه، ليشعر الآخرون بهذا الطابع قبلنا، بينما نحن نتساءل ما هي الموسيقى التي تشابهنا.
فوزية الفهدية كاتبة وقاصة عمانية
أصوات الطبيعة القادمة من السماء، أو تلك المنبعثة من نَفَس الأرض، لنكون بذلك نقطة التقاء لها، فنصيغها في بنية تركيبيّة وتناغم يشابه بحّة الناي ونغمة الكمان، فيكون لتلك الأصوات البدائية الأوّلية الطبيعية المادة الخام، والمكوّن الأوّل والرئيس لظهور الإيقاعات فيما بعد، بداية من النفخ على قرن العاج إلى نداء المحارة، لمعرفة صداها أو العودة بتقهقر عميق نحو الذات، ليكون لأجسادنا في الداخل أصوات بإيقاعات ومنظومة تشي بالحياة، كإيقاع قلوبنا المتسارعة، فيكون الصوت بذلك من الطبيعة وإليها، فنأخذ منها الطابع الصوتي بموجاته وارتداداته، فذلك النغم هو صورتنا المسموعة، فكما يقول أحد الفلاسفة باعتبار الموسيقى أعمق مما نظن «أن دراسة الموسيقى تمكننا من فهم القوى التي تحكم الطبيعة» ليكون هناك توسّع هائل في المقامات والإيقاعات، عبر آلات صوتية تطوّرت عبر الزمان، ليكون لكل مجتمع هويّته الخاصة، وطرازه من الآلات الخاصة، التي تهب فيه روح الهوّية، المتجذر فينا وبتناغم قادم من نداء الأسلاف، فإن كان للأسلاف نداء حقا، فنداؤهم لنا يكون عبر الهويّة، وكما يقول شبنهاور: «إذا استطعنا التعبير من خلال المفاهيم، عما تعبّر عنه الموسيقى بطريقتها، سنصل لا محالة إلى الفلسفة الحقيقية»، فتلك النغمة هي فكرة أيضا.
نجد أن كل لحن له هويّته التي تتشابه مع هويّة الإنسان، التي لا يمكن تحديدها وتسييجها إلى حدّ معيّن، فهي آخذة في التمركز حول الذات وإلى الاتساع كذلك، لتشمل كل المتفاعلات والمتغيّرات من حولك، وكما عبّرتُ عنها في مقال سابق «الهوية أشبه ما تكون ما بين انفجار وانكماش كوني»، والذي يختصر التساؤلات الوجودية حول ماهية الذات، في كون أن معرفتك بذاتك وهويّتك والأنا الحقيقية تساعدك على أن تكون أكثر اتساعا وتمددا في هويّتك، التي تتفاعل وتتأثّر بكل ما يحيط بها.
وهناك مقطع مسجّل على اليوتيوب؛ يختصر مسألة الهويّة وتساؤلاتها، عبر سلسلة من الأسئلة مفادها من أكون، يختصرها المقدّم فيقول: لو فقدت إحدى يديّ؟ سأظل ذات الشخص، ولو أني فقدت ذاكرتي؟ سأكون كذلك أيضا، وحتى إن ذَهب عقلي؟ فأنا ما زلت الشخص ذاته، فمن أكون أنا سوى منظومة فسيفسائية مترابطة ما بين الذات الداخليّة العميقة جدا، بداية من الروح والنفخة الإلهيّة الأولى، إلى اتساع دائرتها شيئا فشيئا، لتكون هويتك أيضا في تلك الهالة المحيطة به، كما عبّر عنه الدكتور أحمد عمارة في سلسلة محاضراته حول الطاقة.
وكما أن تكون لنا هويّة خاصة، فإن للأشياء التي نمتلكها هويّة كذلك، لأتحدّث بإيقاع ونغَم عبر نوتة موسيقية عن هويّة اللحن العماني، فنحن نمتلك هوية لحن من بدايات ألحان الأغاني القديمة التي كنا نطرب لها، والتي نشعر بأنها تشبهنا وتلامس هويتنا، ونهاية بألحان فلكلورية مطوّرة امتزجت بالحداثة، واتسعت مع التبادل الحضاري والانفتاح على العالم.
وكما نسمع عادة أن يرتبط اللحن بثقافة بلاد معينة، فنستعذبه من قبل أن نسمعه حتّى ندرك أن له هويّة خاصة وطابعا مميزا، فإن ذلك اللحن يكون بذلك قد حافظ على هويته، وأصله العميق البعيد رغم كل التنامي والتطوير الذي طاله، فأصبح فلوكلورا مميّزا عبر الزمان.
وفي جلسة حوارية نظمها معرض الكتاب بمسقط، عن المسيرة الفنّية للراحل سالم علي سعيد، الذي حصل على وِسام الإشادة السلطانية من الدرجة الثانية، بعد مسيرة فنّية تميّزت بالإبداع، وقدّمت اللحن بطريقة تحاكي الهويّة العمانية، فرغم أنه تدرّب وتتلمذ الفن ونهل من علمه على يد مختصين بريطانيين، إلا أنه وعبر أصالة اللحن العماني تمكّن من الظهور على المستوى العربي، لتكون له مشاركات عالمية أيضا.
وكما عبّر عن ذلك السيّد خالد بن حمد «غِناؤه سلِس، وحضوره لافت، وسجّل اسمه في تاريخ الفنّ العماني، بحبرٍ من ذهب، فكان يحبّ عمله ويقتات عليه، ويعيش من أجله، مسخّرا كل وقته»، وليتحدّث بعد ذلك الشاعر سعيد العتبي، عن أن الفنّان الراحل استحسن أولى قصائده لتحظى بلحن غنائه، ويتحدّث علي غوّاص عن السمة الإبداعية لدى الفنان الراحل فيقول: «كان يتّسم بالبساطة، وقريبا من عامة الناس»، وبشيء من الجماليّات الإبداعية إنه كان يبدأ باللحن، ثم يأتي بالنص بعد ذلك، لتكون مسيرته حصدت حوالي ٦٣ ألبوما، وأكثر من ١٠٠ فيديو كليب، و٤٢ أغنية، «فقد كان خير سفير للأغنية العمانية».
لنعود بذلك إلى أن اللحن والصوت هما من الهويّة التي نتأثر بها، فاللحن كاللغة، وكما يطال تلك اللغة التهذيب والتطوّر، لتكون بذلك لغات عامة ولغات برمجة، كذلك اللحن، فلا بدّ من الإمساك بجوهره والتنامي بدون انفلات، ليشابهنا الأمر، وليكون أقرب إلى هويّتنا، لتكون الهويّة في اللحن ذاته وجوهره وليس كطابع دخيل، ويعبر الأزمنة جميعها ولا يكون للماضي فقط، ليكون لنا هويّتنا وطابعنا، الذي ينفث من روح النغم بلا هدف وغايات، فتلك الهويّة أعمق من أن تكون العمل الظاهري الجليّ، بل هو شيء يصعب شرحه، ليشعر الآخرون بهذا الطابع قبلنا، بينما نحن نتساءل ما هي الموسيقى التي تشابهنا.
فوزية الفهدية كاتبة وقاصة عمانية