تقام في كل الأقطار العربية معارض للكتب، وتنشط حركة الطباعة لإخراج أعمال أدبية وفكرية نشطة، لكن اللافت للنظر أن حركة النشر لا يقابلها واقع ثقافي مزدهر، فما تزال القراءة عملية محدودة للغاية، وخصوصًا لدى جيل الشباب رغم أن بعضهم قد تمكن من كتابة أعمال أدبية وفكرية حصلت على جوائز عربية وعالمية ورغم ذلك تظل القراءة محدودة للغاية، فما يُطبع من أعمال مهما كانت بديعة لا يتجاوز 2000 نسخة أو 3000 على الأكثر، وما يزال المحتوى العربي على شبكة المعلومات (الإنترنت) لا يتجاوز ٣٪ من حجم ما يُنشر بمختلف اللغات الأجنبية.
لعل من المناسب الإشارة إلى الجهات المسؤولة عن تواضع حالة القراءة في العالم العربي، تأتي الأسرة والمدرسة والجامعة ومؤسسات وزارات الثقافة في مقدمة المؤسسات المسؤولة، حينما اعتقدت هذه المؤسسات أن الكتب التعليمية المقررة على المدارس والجامعات كافية لخلق مناخ عام يُحرض على القراءة، فضلًا عن الاعتقاد بأن القراءة مسؤولية المجتمع وليست مسؤولية الجهات التعليمية والثقافية، وهو ما حال دون شيوع ثقافة الوعي والمعرفة التي تستهدف تكوين الشباب فكريا وثقافيًا، هناك مسؤولية تقع على المجتمع الأهلي لكن تبقى المؤسسات التعليمية والثقافية هما المسؤول الأهم عن تراجع هذه الظاهرة، اعتقادًا بأن المعارف العلمية والتكنولوجية وحدها كافية، ولم تتنبه هذه المؤسسات إلى أنها المسؤول الأهم عن تكوين الشباب، وفتح آفاق رحبة أمامهم لمعرفة العالم أدبا وفكرا ووعيًا وانتماء، وهي أمور لا يمكن أن تتحقق إلا بالقراءة، باعتبارها الجانب الأكثر أهمية في مجال التعليم.
تكاد تخلو جامعاتنا ومدارسنا من برامج تخصص للقراء، ومسابقات يتبارى عليها الطلاب من خلال عوامل تحفيزية، تجعل من القراءة قضية محورية في كل البرامج التعليمية، والقراءة هنا ليست ترفا في الحياة، وإنما هي ضرورة كالماء والهواء لتكوين وجدان الشباب وفتح عقولهم على عوالم واسعة من الخيال والإبداع، وجميعها أمور لا تتحقق بالبرامج التعليمية ولا يمكن أن تكون سببًا كافيًا لتكوين الشباب، حتى ولو كان بعضهم متفوقًا في برامجه التعليمية، فالطبيب والمهندس والمعلم من الصعب أن يكون ناجحًا في حياته العملية والاجتماعية إلا إذا مسته غواية الوعي بالثقافة، والانفتاح على عوالم فسيحة في مجالات الفكر والفن والأدب، وجميعها أمور لا تتحقق إلا إذا كانت القراءة والفنون من بين البرامج الأساسية في التعليم.
ليست القراءة متعة وترفيها وتسلية فقط، وإنما هي الوسيلة الناجعة للانفتاح على عوالم رحبة في مجالات الفن والفكر والثقافة والوعي بالحياة وتحفيز الشباب نحو عالم الخيال والإبداع والانفتاح على ثقافات بناءة من خلال كتابات ورؤى متنوعة في مختلف مجالات المعرفة، فالدول التي قطعت شوطًا كبيرًا في مجال الحضارة المعاصرة كان مشروعها الأهم العناية بمختلف الفنون والآداب، لذا ظهرت كفاءات فنية وأدبية عملاقة جميعها ناجمة عن العناية بالثقافة لدرجة أن كل النهضات الكبرى في العالم بدأت بالثقافة والفنون وربما قبل التعليم النظامي، لهذا ظهرت أجيال من المبدعين، حدث ذلك منذ بدايات عصر النهضة الأوروبية الحديثة، بدأت من إيطاليا بعدها انطلقت إلى ألمانيا وفرنسا وأسبانيا، بعدها تكونت أجيال من الكُتاب والمبدعين في مجالات الأدب والفكر والفن، جميعها كانت الدرس الأهم لبناء حضارة إنسانية اتسمت بالعمق والوعي، وأشاعت الشغف بالمعرفة وتذوق الجمال في كل مناحي الحياة.
المدارس والجامعات ليست مؤسسات تعليمية في مجال العلوم والتكنولوجيا فقط، بل الأهم من ذلك أن تكون مؤسسات اجتماعية وثقافية يُعنى فيها بمختلف المعارف التي تستهدف رقي الإنسان ونقاء روحه وتحفيزه نحو كل ما يفيد العقل ويبني الوجدان، ويجعل الإنسان أكثر سعادة وانتماء لثقافة أمته، وهي أمور لا تتحقق إلا بالعناية بالثقافة التي لا تقتصر على مجرد ما يتاح من كتب مطبوعة، وإنما تدعو إلى الانفتاح على عوالم فسيحة ورحبة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا في مناخ تشيع فيه المعارف بمختلف صنوفها.
قد يتصور البعض أن الثقافات الوافدة خطر على هويتنا الوطنية والقومية، بل العكس فالثقافات الوطنية جزء رئيس من الثقافة الإنسانية بما في ذلك ثقافة التراث، الذي يستحق المزيد من العناية دراسة وتحقيقًا ونشرًا، إلا أن ما نلاحظه في الكثير من مؤسساتنا العربية المعنية بنشر كتب التراث، وهو جهد عظيم لا يمكن نكرانه، لكن الأهم أن نتخير من التراث ما يستحق النشر، فلدينا تراث ضخم الكثير منه مفيد، والقليل منه يندرج تحت ما أسميه بالتراث العبء، الذي يتعارض مع صحيح الدين والعقل، وقد بالغت بعض دور النشر في إتاحة الكثير من هذا التراث الذي أوقع شبابنا في متاهات فكرية خلقت حاجزًا بين الماضي والحاضر، وأوجدت روحا عدوانية تجاه ثقافة الآخر، وهو ما أدخل مجتمعاتنا العربية في متاهات فكرية أساءت للإسلام عقيدة وشريعة.
أعتقد أن القضية تحتاج إلى العناية من مؤسساتنا الأكاديمية المتخصصة لاختيار التراث البناء الداعم للحضارة المعاصرة، ولاحتياجات المجتمع، ولم يكن فقهاؤنا القدامى بعيدين عن هذه القضية، حينما تحدثوا عن المقاصد العامة للشريعة (يكمن شرع الله حيث تكمن مصالح المسلمين). ولعل ما حدث في عالمنا العربي والإسلامي من تشدد بعض شبابنا كان سببه الأهم تلك الكتب التي مولتها دول ومؤسسات عربية أبعدت الإسلام عن مقاصده الحقيقية وهي مسؤولية تقع على عاتق المؤسسات التعليمية والبحثية، فضلًا عن دور النشر لاختيار ما يفيد الإنسان بعيدًا عن المذهبية التي أدخلت مجتمعاتنا في متاهات دفع المسلمون ثمنها باهظا.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
لعل من المناسب الإشارة إلى الجهات المسؤولة عن تواضع حالة القراءة في العالم العربي، تأتي الأسرة والمدرسة والجامعة ومؤسسات وزارات الثقافة في مقدمة المؤسسات المسؤولة، حينما اعتقدت هذه المؤسسات أن الكتب التعليمية المقررة على المدارس والجامعات كافية لخلق مناخ عام يُحرض على القراءة، فضلًا عن الاعتقاد بأن القراءة مسؤولية المجتمع وليست مسؤولية الجهات التعليمية والثقافية، وهو ما حال دون شيوع ثقافة الوعي والمعرفة التي تستهدف تكوين الشباب فكريا وثقافيًا، هناك مسؤولية تقع على المجتمع الأهلي لكن تبقى المؤسسات التعليمية والثقافية هما المسؤول الأهم عن تراجع هذه الظاهرة، اعتقادًا بأن المعارف العلمية والتكنولوجية وحدها كافية، ولم تتنبه هذه المؤسسات إلى أنها المسؤول الأهم عن تكوين الشباب، وفتح آفاق رحبة أمامهم لمعرفة العالم أدبا وفكرا ووعيًا وانتماء، وهي أمور لا يمكن أن تتحقق إلا بالقراءة، باعتبارها الجانب الأكثر أهمية في مجال التعليم.
تكاد تخلو جامعاتنا ومدارسنا من برامج تخصص للقراء، ومسابقات يتبارى عليها الطلاب من خلال عوامل تحفيزية، تجعل من القراءة قضية محورية في كل البرامج التعليمية، والقراءة هنا ليست ترفا في الحياة، وإنما هي ضرورة كالماء والهواء لتكوين وجدان الشباب وفتح عقولهم على عوالم واسعة من الخيال والإبداع، وجميعها أمور لا تتحقق بالبرامج التعليمية ولا يمكن أن تكون سببًا كافيًا لتكوين الشباب، حتى ولو كان بعضهم متفوقًا في برامجه التعليمية، فالطبيب والمهندس والمعلم من الصعب أن يكون ناجحًا في حياته العملية والاجتماعية إلا إذا مسته غواية الوعي بالثقافة، والانفتاح على عوالم فسيحة في مجالات الفكر والفن والأدب، وجميعها أمور لا تتحقق إلا إذا كانت القراءة والفنون من بين البرامج الأساسية في التعليم.
ليست القراءة متعة وترفيها وتسلية فقط، وإنما هي الوسيلة الناجعة للانفتاح على عوالم رحبة في مجالات الفن والفكر والثقافة والوعي بالحياة وتحفيز الشباب نحو عالم الخيال والإبداع والانفتاح على ثقافات بناءة من خلال كتابات ورؤى متنوعة في مختلف مجالات المعرفة، فالدول التي قطعت شوطًا كبيرًا في مجال الحضارة المعاصرة كان مشروعها الأهم العناية بمختلف الفنون والآداب، لذا ظهرت كفاءات فنية وأدبية عملاقة جميعها ناجمة عن العناية بالثقافة لدرجة أن كل النهضات الكبرى في العالم بدأت بالثقافة والفنون وربما قبل التعليم النظامي، لهذا ظهرت أجيال من المبدعين، حدث ذلك منذ بدايات عصر النهضة الأوروبية الحديثة، بدأت من إيطاليا بعدها انطلقت إلى ألمانيا وفرنسا وأسبانيا، بعدها تكونت أجيال من الكُتاب والمبدعين في مجالات الأدب والفكر والفن، جميعها كانت الدرس الأهم لبناء حضارة إنسانية اتسمت بالعمق والوعي، وأشاعت الشغف بالمعرفة وتذوق الجمال في كل مناحي الحياة.
المدارس والجامعات ليست مؤسسات تعليمية في مجال العلوم والتكنولوجيا فقط، بل الأهم من ذلك أن تكون مؤسسات اجتماعية وثقافية يُعنى فيها بمختلف المعارف التي تستهدف رقي الإنسان ونقاء روحه وتحفيزه نحو كل ما يفيد العقل ويبني الوجدان، ويجعل الإنسان أكثر سعادة وانتماء لثقافة أمته، وهي أمور لا تتحقق إلا بالعناية بالثقافة التي لا تقتصر على مجرد ما يتاح من كتب مطبوعة، وإنما تدعو إلى الانفتاح على عوالم فسيحة ورحبة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا في مناخ تشيع فيه المعارف بمختلف صنوفها.
قد يتصور البعض أن الثقافات الوافدة خطر على هويتنا الوطنية والقومية، بل العكس فالثقافات الوطنية جزء رئيس من الثقافة الإنسانية بما في ذلك ثقافة التراث، الذي يستحق المزيد من العناية دراسة وتحقيقًا ونشرًا، إلا أن ما نلاحظه في الكثير من مؤسساتنا العربية المعنية بنشر كتب التراث، وهو جهد عظيم لا يمكن نكرانه، لكن الأهم أن نتخير من التراث ما يستحق النشر، فلدينا تراث ضخم الكثير منه مفيد، والقليل منه يندرج تحت ما أسميه بالتراث العبء، الذي يتعارض مع صحيح الدين والعقل، وقد بالغت بعض دور النشر في إتاحة الكثير من هذا التراث الذي أوقع شبابنا في متاهات فكرية خلقت حاجزًا بين الماضي والحاضر، وأوجدت روحا عدوانية تجاه ثقافة الآخر، وهو ما أدخل مجتمعاتنا العربية في متاهات فكرية أساءت للإسلام عقيدة وشريعة.
أعتقد أن القضية تحتاج إلى العناية من مؤسساتنا الأكاديمية المتخصصة لاختيار التراث البناء الداعم للحضارة المعاصرة، ولاحتياجات المجتمع، ولم يكن فقهاؤنا القدامى بعيدين عن هذه القضية، حينما تحدثوا عن المقاصد العامة للشريعة (يكمن شرع الله حيث تكمن مصالح المسلمين). ولعل ما حدث في عالمنا العربي والإسلامي من تشدد بعض شبابنا كان سببه الأهم تلك الكتب التي مولتها دول ومؤسسات عربية أبعدت الإسلام عن مقاصده الحقيقية وهي مسؤولية تقع على عاتق المؤسسات التعليمية والبحثية، فضلًا عن دور النشر لاختيار ما يفيد الإنسان بعيدًا عن المذهبية التي أدخلت مجتمعاتنا في متاهات دفع المسلمون ثمنها باهظا.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.