أستطيع في هذا المقال بكل أسف أن أتوقع- بتواضع شديد- أن آمال معظم النخب والمواطنين العرب في أن تستطيع الأمة الانعتاق من التبعية والاستفادة من بزوغ الصين وقوى دولية كبرى وتنافسها مع الولايات المتحدة في توسيع هامش المناورة واستقلال قرار السياسة الخارجية العربية على وشك أن يتبدد ويذوي.

التوقع سببه الرئيسي هو انجراف قسم كبير ووازن من الدول العربية علنا وسرا إلى المشروع الأمريكي الاستراتيجي لإعادة صياغة «تموضع» واشنطن في الشرق الأوسط بما يضمن من ناحية تقليل مواردها العسكرية المباشرة في المنطقة ونقلها لهذه الموارد جغرافيا لما تعتبره منطقة الصراع الرئيس مع الصين في المحيطين الهادئ والهندي ويضمن من ناحية أخرى بقاء هيمنتها المطلقة على دول الشرق الأوسط المستمرة منذ اتفاقية فض الاشتباك الثاني عام ١٩٧٥ بين مصر وإسرائيل.

كيف حدث هذا الانجراف الصامت تحت السطح ولكن العميق جدا؟

مع توجه مؤسسة الأمن القومي الاستراتيجي المشار إليه إلى إعادة توصيف صراعها الرئيسي العالمي ليصبح الصراع مع الصين منذ نهاية عصر أوباما بدأت الولايات المتحدة في إعادة رسم استراتيجيتها الشرق الأوسطية على النحو التالي:

- خفض قواتها العسكرية الموجودة في قواعد بالمنطقة وخفض معداتها وحاملات طائراتها وتقليل الموارد البشرية بشكل عام المتاحة للقيادة المركزية الأمريكية وهو التنظيم العسكري الاستراتيجي المكلف بتنفيذ الأهداف العليا للمصالح الأمريكية في المنطقة (ففي منطقة المسؤولية الخاصة بـ«القيادة المركزية الأمريكية»، تضاءل عدد الجنود من حوالي 75000 في يناير 2020 إلى ما يقارب 40000 إلى 60000 جندي منتشرين على نحو 18قاعدة. وعلى الرغم من أن هذا الانخفاض يُعزى بشكل أساسي إلى انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، إلا أنه يشمل أيضاً إعادة نشر مجموعات حاملات الطائرات الهجومية (التي كانت تُنشر بشكل روتيني في المنطقة)، وأصول الدفاع الصاروخي، والطائرات المقاتلة لتأدية مهام ذات أولوية أعلى في أجزاء أخرى من العالم)

-استبدال ذلك النقص في الوجود المباشر باستبدال العناصر المرتبطة بالبشر بعناصر الذكاء الاصطناعي والاستطلاع والمراقبة الجوية والبحرية بالغة التفوق التقني وعمل تدريبات مشتركة مع وحدات عسكرية من الحلفاء على هذه التقنيات بما في ذلك إنشاء تشكيلات جديدة مع هؤلاء الحلفاء مثل القوة ٥٣.

-إعادة تطبيق الأسلوب الناجح - الذي هو بتعبير ديفيد شينكر وهو دبلوماسي أمريكي بارز سابق هو أفضل ما تجيده الولايات المتحدة وهو جمع الحلفاء في تحالف أو صيغة تنسيق عسكري وأمني تقوده هي ولكن يعتمد بشكل رئيسي على تعاون هؤلاء الحلفاء معا. ويمثل حلف الناتو القديم أو حلف المحيط الهادئ الذي يضم أستراليا واليابان أساسا والهادئ والهندي بإضافة الهند مؤخرا نماذج فاعلة.

-بعبارة أخرى قررت الولايات المتحدة أن تتحدى تجربة الفشل التاريخي لها و لبريطانيا في إقامة أحلاف في الشرق الأوسط مثل حلف بغداد والحلف الإسلامي وأن تجرب حظها من جديد في إقامة هذا التحالف.

-العقبة الرئيسية التي كانت تواجه التخطيط الاستراتيجي الأمريكي هو رغبة أمريكا في أن يكون الوكيل الذي يقود العمل اليومي day to day leadership لهذا التحالف تحت قيادتها العليا هو وكيل موثوق في ولائه التام لواشنطن أي أنه بتركيبته كدولة هو جزء مصنوع على عين أمريكا ولا يستطيع أن ينحرف ملليمترا واحدا عنها وهنا نحن نتحدث بوضوح عن إسرائيل. وهنا كان التحدي كيف يتم تهميش الصراع العربي- الإسرائيلي وتصفية القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني وتحويلها لقضية معيشية واقتصادية لسلطة فلسطينية في الضفة الغربية أنشأتها اتفاقيات أوسلو وتعتمد في مواردها على تحويلات تمنحها أو تمنعها إسرائيل أو قطاع منفصل عن السلطة في غزة يعتمد على معونات علنية من قطر أساسا أو غير علنية من إيران.

-وهنا بدأت الاستراتيجية الأمريكية وبغض النظر عن تغير الإدارات جمهورية أو ديمقراطية ومنذ فترة طويلة -وليس كما يعتقد البعض أن البداية في عهد ترامب- في التخطيط لما أنتجت بعد ذلك اتفاقيات ابراهام ٢٠٢٠ والتي شملت بشكل معلن وتام المغرب والإمارات والبحرين وبشكل معلن غير تام السودان وبشكل تام ولكن غير معلن إقليم كردستان العراق. ولما كان أي تحالف من هذا النوع يحتاج إلى تحديد تهديد رئيسي يواجه كل الأعضاء ويوجب عليهم التحالف لمواجهته ردعا أو حربا فقد جرى وبشكل صامت ولكن دؤوب إقناع دول عربية وازنة بأن العدو الرئيسي لها ولإسرائيل هو عدو واحد هو العدو الإيراني سواء بمشروعه النووي أو بشبكات حلفاء إيران من العراق والشام إلى اليمن والخليج. يعترف دنيس روس مرة ثانية أنه بعد قيامه بتنظيم عشرات الاجتماعات بين إسرائيليين وعرب في التسعينات بعد أوسلو كانت الثمار أنه في عام ٢٠٠٩ تمت دعوته لاجتماع غير رسمي في واشنطن بين سفير دولة عربية والسفير الإسرائيلي في واشنطن كانت رسالته الصريحة هي اتفاق الـ السفيرين؛على أن إيران هي العدو وأن القضية الفلسطينية لم تعد من أولويات عدد غير قليل من الدول العربية.

-تقدم الأمريكيون متشجعين بالنجاح الذي حققوه في تجاوز العداء العربي - الإسرائيلي لدى بعض الحكومات العربية في اتجاهين رئيسيين الأول هو تسويق «خرافي وأسطوري» ولكنه انطلى على كثيرين هو أن التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية المربوطة «بحبل سري» بالتكنولوجيا العسكرية الأمريكية في الاستطلاع والمراقبة ووسائل الدفاع الجوي والنظم المضادة للطائرات المسيرة ، كلاهما معا يوفران الحلول الحاسمة لجيوش عربية لمواجهة التهديد الإيراني المزعوم أو المبالغ فيه سواء للطائرات المسيرة أو الصواريخ الباليستية الإيرانية أو الحرس الثوري وأذرعه بالأسلحة التقليدية في قوس جغرافي عربي تمت الإشارة إليه.

والاتجاه الثاني هو الادعاء بأن حل مشكلات الأمن الغذائي واضطراب سلاسل الإمداد بعد جائحة كوفيد-١٩ وبعد حرب أوكرانيا التي عانت منها الدول العربية وكذلك مشكلات التغير المناخي أي باختصار كل التحديات التي تواجه عمليات التنمية الاقتصادية العربية إنما تجد حلولها في التكنولوجيا الإسرائيلية المتقدمة (فعلى صعيد الأمن المائي والغذائي، تتصدر إسرائيل العالم!!! في مجال الري بالتقطير، واستعمال مياه الصرف الصحي وإعادة تدويرها وتجميع مياه الأمطار، وآلات توليد المياه التي تسحب الرطوبة من الغلاف الجوي، التي توفر كل واحدة منها 1500 ليتر من المياه الصالحة للشرب، وتطوير محاصيل مقاومة للجفاف، وما إلى ذلك. وبالمثل، فيما يتعلق بالأمن والدفاع السيبراني، تُعتبر إسرائيل رائدة على مستوى العالم) وبالتالي فإن تجاوز شرط حل القضية الفلسطينية كشرط للتعاون الثنائي والإقليمي بين العرب وإسرائيل هو في مصلحة دول عربية لا يجب أن تهدره بسبب الفلسطينيين وحقوقهم الوطنية.

نجحت أمريكا بهدوء ودون صخب كبير نجاحا خطيرا في إنجاز الاتجاهين لدينا الآن من العرب من يصرح في عز العدوان الإسرائيلي على غزة وباحة المسجد الأقصى في رمضان ومايو ٢٠٢١ بأن ذلك لا علاقة له ولن يؤثر علي التطبيع والتعاون الاستخباراتي لبلاده مع إسرائيل ولدينا من العرب من يصف الردود الفلسطينية على الاستيطان وقتل المدنيين في جنين ونابلس بأنها «عنف لمجرد العنف: وهو وصف يتحرج فقط من استخدام نفس الصياغة الأمريكية الإسرائيلية المضللة التي تصف المقاومة الفلسطينية المشروعة بالإرهاب الفلسطيني»!!

ماهو عنوان هذا النجاح الأمريكي في تحقيق استراتيجيتها في إبقاء هيمنتها الكاملة على الشرق الأوسط بموارد عسكرية اقل وحضور مباشر أقل وعبر مقاول فرعي ووكيل إقليمي يقود منظومة يوجد تحتها معه بقية الحلفاء الإقليميين في العالم العربي؟.

هذا العنوان الكبير للتحالف العربي الإسرائيلي بقيادة عليا أمريكية تمثل في ما عرف بمنتدى النقب الذي أثبتت مسيرته المنتظمة خلال الـ ١١ عشر شهرا الماضية من إقامة أول قمة له في مستوطنة ديفيد بن جوريون المؤسس «الحقيقي» لإسرائيل! إنه تحول ليس فقط لناد إقليمي بل إلى منظمة إقليمية تتوافر لها إرادة سياسية أمريكية عليا وقاهرة ووثيقة سياسية تنهي عمليا الصراع العربي الإسرائيلي وتضع مبادرة السلام العربية في أدراج النسيان وتجعل إيران وليس إسرائيل عدوا إقليميا وتنشئ نظام دفاع جوي عسكري إقليمي يضم أمريكا وإسرائيل وعددا وافرا من الدول العربية في مواجهة طهران.

أما كيف حدث هذا التطور المخيف الذي سيعيد دون أدنى مبالغة تشكيل الشرق الأوسط الذي نعرفه منذ نكبة ١٩٤٨ومنذ قيام 4 وزراء خارجية عرب مع وزيري خارجية إسرائيل والولايات المتحدة بالتقاط صور أول قمة أمام ضريح بن غوريون في مارس ٢٠٢٢ مرورا باجتماعات المنتدى في مايو ٢٠٢٢ واجتماعاته في يناير ٢٠٢٣ فهذا ما يستحق مقالا آخر.

حسين عبدالغني إعلامي وكاتب مصري