إذا كان سائغا أن يقال: إن في كل ثقافة من الثقافات الإنسانية، عبر التاريخ، مساحة ما من السرديات وإنه ما من ثقافة يمكنها أن تعرى من السرديات، بوصفها بنيات من القول متماسكة الحلقات والهيئة، فإن الذي لا يقبل الجدل أن الثقافات تتفاوت في درجات حضور السرديات فيها. وما من شك في أن مأتى ذلك التفاوت من تفاوت آخر بينها في درجات الكثافة الثقافية والاجتماعية والدينية، وفي أنماط تقاليدها في التعبير عن ذاتيات الجماعات التي تنتمي إليها؛ إذ لا تتشابه الثقافات على صعيد التراكم الثقافي، ولا على صعيد حضور آليات السرد والحكي والتخييل فيها؛ كما لا تتناظر على مستوى أدوار الرموز، من أبطال تاريخيين ومن أساطير، فيها؛ وهذه جميعها من عدة اشتغال السرديات في أي ثقافة.

وما أغنانا عن القول: إن الثقافات بتفاوتها هذا، على الصعد المومأ إليها، إنما هي تترجم تفاوتا بين المجتمعات التي تقترن بها (تلك الثـقافات)؛ وهذه تتفاوت في الخبرة التاريخية، وفي كثافة الأحداث (الحروب، الإنشاءات، الهجرات)، وفي مستويات التطور والتـقدم، وفي آمادِ الدول والسلالات الحاكمة، وفي الأديان والمعتقدات العامة، وفي الصنائع وأساليب المعاش... إلخ؛ وهذه جميعها ذات أثر عظيم في بناء الثـقافات، وفي تزويدها بحاجتها من الصور والتمثلات والتخييلات والاعتقادات التي تدخل في تكوين سردياتها بما هي سردياتٌ لتلك المجتمعات في المطاف الأخير.

تؤدينا هذه المقدمة إلى الاستنتاج الأولي بأن المجتمعات التاريخية أو، قل، التي تضمِر كثافة عالية من التاريخ فيها، والتي تكون مسكونة بالتاريخ أكثر من غيرها (وهذه حال المجتمعات العربية الإسلامية قديما وراهنا)، تـفصِح عن ميل أكبر إلى إنتاج سرديات حولها وحول العالم من حولها، وتبدي ثقافتها اقتدارا أعلى في نسج خيوط تلك السرديات مقارنة بغيرها من الثقافات الناشئة في مجتمعات أقل في الكثافة التاريخية. كل شيء في هذه المجتمعات يضع تحت تصرف الثقافة موارد السرديات: بطولاتها، أمجاد قادتها وملوكها، رسالات أنبيائها، أنسابها وأصلابها، دولها المتعاقبة، فتوحاتها، شعورها الجمعي بالتفـوق...إلخ. هكذا تكون قـد تهيأت لفعل السرد مقوماته الموضوعية كافة فلا يبقى، بعدها، غير إتقان صنعة السرد.

موارد ثقافية عدة تدخل في تكوين ملكة السِرد وصقلِها وتنميةِ أسباب جاذبيتها، وما من شك في أن الأدب والفن من أظهر تلك الموارد. وهذان يدخلان في حياكة السرديات أكانت مكتوبة أو شفوية؛ فالسرديات المكتوبة تكون أكثر جزالة وأدعى إلى الإغراء لِما تنطوي عليه من جماليات في اللغة والتعبير والصياغة تسمح بها أساليب النثر الفني أو تقنيات بناء الصورة والجرس الموسيقي في التعبير الشعري. في المقابل، تستفيد السرديات المحكية شفاهة من الموارد الفنية فتستعرض نفسها في أشكال من الحكاية المشوِقة، المتدرِجة حثيثا نحو ذروتها الفنية التي تستثير الدهشة والإعجاب، وتوجد لدى المتلـقي (= المستمع) الشعور بالامتلاء أو الإشباع؛ وربما استعرضت نفسها في ترتيل غنائي يوظف جماليات الصوت. في الأحوال كافة، تحتاج السردية- كي تثـبت مفعوليتها في من يتلقاها- إلى القدرة على شد الانتباه واحتكارِه، سواءٌ كانت مكتوبة أو مسموعة؛ وهذه قدرة مكتسبة بالدربةِ والتجريبِ وبالتحصيلِ الثقافي للآداب والفنون، وتقنياتِ التعبير فيهما، ولغيرهما من موارد الثقافة والفكر.

حين تنتقل السرديات من منتوج عمومي شفهي (يختفي مؤلِفه في جموع الرواةِ الأولين)، ومن ثقافة شعبية بالتالي، إلى منتوج ثقافي مكتوب تعرف أسماء كتابه، أي إلى ثقافة عالِمة... فتشيع (تلك السرديات) وتفشو في البيئات جميعِها- متعلمة كانت أو أمية- وتصبح جزءا من ثقافتها ومن موارد تشكيل الوعي الجمعي للمجتمع...، تبدأ - عمليا - مرحلةٌ جديدة من الاشتغال بها هي ما يمكننا تسميته بمرحلة إعادة إنتاجها؛ وهذه يغلب عليها أن تكون موسعة، وأن تنحو، حثيثا، نحو أن تكون رسمية: أي جزءا مما تشجع عليه السلطة السياسية القائمة، علما أن السلطة الاجتماعية والدينية قد توافق على ذلك أو لا توافِـق.

ما دعوناه إعادة إنتاج للسرديات هو عينه عملية إنتاج، لأنه في كلِ محطة منه يتطور ويتجدد، فتدخل في تكوينه حكايات جديدة وطرائق من التعبير جديدة. هو، إذن، ليس تكرارا لفِعل حياكة مضى قد توحي بمضِيِهِ عبارة «إعادة»، بل نحن واجدون أن السردية تتضخم حجما، وتزداد كثافة في الأحداث والمرويـات عنها كلما تقدمنا في الزمن، أو كلما تنقلتِ السردية في المكان؛ من جغرافيا مكانية وبشرية إلى أخرى. هكذا يبدو كما لو أن كل جِيل يعيد تأليف سردية تلقاها من الماضي، فيضيف إليها من ملامح زمنه وذائقةِ أهل ذلك الزمن ما يطبعها بميسم خاص يدل عليه، كجيل، فيها. وبالمثل كلما انتقلنا- في الزمن عينِه- من مكان إلى مكان آخر ازدانتِ السردية الواحدة بألوان جديدة تضفيها عليها الحساسيات الجمالية للجماعات الاجتماعية المستقرة في هاتيك المواطن، حتى وإن هي كانت من محتِد اجتماعي (قبلي، شعبي، قومي...) واحد. أما التعديلات الكبيرة التي تطرأ على السرديات، عادة، أثناء عملية انتقالها فهي تلك التي تقع عند انتقالها من شعب إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر؛ إذ هنا تكون مساحة التغيير والتحوير والإبدال والاختصار والتنفيل أوسع بكثير تناسبا مع ما تقتضيه حاجة الجماعة المستقبِلة لأثرِ جماعة أخرى إلى تمييز نفسها في السردية. هكذا تنتهي السرديات - الشفاهية والمكتوبة معا - إلى البدوِ وكأنها حكايات جماعية متعدِدة المصادر والأصول، أو- كما نقول اليوم- متعدِدة الجنسيات أو عابرة لحدود الأوطان والثقافات.

على أن أميز الحقائق التي تكشف عنها السرديات، في الثقافات جميعِها، هي أن المضافات التي تزاد على سرديات سابقة لا تقتصر، فقط، على ما من شأنه أن يحفظ للمضيف بصمته وبصمة مجتمعِه وثقافته في ما أضافه، بما في ذلك بعض مواد من تاريخه الخاص، بل هي تشمل مضافات أخرى من طبيعة أسطورية أيضا. وليس شرطا، هنا، أن يكون الأسطوري من نسج الخيال، تماما، بحيث لا صلة له بوقائع ما حدثت، وإنما في الإمكان أن يكون ذلك الأسطوري متخلِلا التاريخي ملتحما به كأنه منه. وهكذا يتماهى، في هذه العملية من الأسطرة، ما هو تاريخي مع ما هو فوق تاريخي ومع ما هو غير تاريخي وكأنها مستوياتٌ لظاهرة واحدة!

من يعتقد أن هذه الأسطرة في السرديات ظاهرة تنتمي إلى العصور القديمة وأن الثقافات تخلصت منها اليوم لا يعلم، على التحقيق، ما هي وظائف الأسطوري في التاريخ ولا كيف تعاد صناعته بمنتهى الإتقان في زمن الحداثـة.

عبدالإله بلقزيز - أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، حاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب.