كان يبدو للجميع أن ملك بلاد الذهب محظوظا ببناته التوائم الثلاث. فكل واحدة منهن تتمتع بقدر كبير من الجمال والأناقة والذكاء والموهبة. بالإضافة إلى تمتعهن بثراء فاحش؛ فكل ثروات الملك الأب من جواهر وذهب وماس كانت من نصيبهن.
« كم أنا ملك محظوظ»
ظل منذ ولادتهن يردد هذه العبارة. لكنه توقف عن ترديدها حين أشار عليه وزيره الحكيم أن يقوم بترشيح واحدة من التوائم الثلاث لتكون خليفة عرشه.
كان خيارًا صعبا على روح الملك المرهف فهو يحبهن بالقدر نفسه ويقدر مدى صلاحهن لإدارة شؤون البلاد من بعده. لكن عليه أن يختار واحدة منهن فحسب لإدارة شؤون البلاد والعباد، فالمركب الذي يقوده أكثر من ربان قد يغرق.
لكن من الأصلح بينهن لذلك؟! ظل لليالٍ طويلة يعاني من الأرق ويقلب أفكاره. وفي يوم من الأيام اكتشف الحفارون منجما من الماس طار الملك فرحًا لذلك غير أنه تذكر بناته فخطر له أن يتخذ من هذا المنجم اختبارًا لهن؛ حتى يرى أكثرهن حكمة وأكثرهن كفاءة للحكم من بعده، من غير أن يشعرن بتفضيله إحداهن على الأخريين.
أمر الملك بإقامة مأدبة كبيرة يدعو إليها ملوك ووزراء الدول المجاورة. أراد أن يشهدوا تلك اللحظة المهيبة، لحظة انتخاب ولية العهد. أراد أن يتفاخر بتنافس بناته التوائم الثلاث؛ فسيستعرض في ذلك الحفل قوتهن وذكاءهن، ليعرف أيهن أجدر لقيادة البلاد. كان الملك يثق ببناته ومدى حبهن له ولبلادهن.
شهدت البلاد حفلا كبيرا؛ لم يكتف الملك بدعوة الملوك والوزراء بل إنه سمح لشعبه بالحضور؛ فضجت الساحة العامة بكثير من الناس؛ ليشهدوا اختيار الملك من يخلف على العرش. كانوا يدركون أنه خيار صعب؛ فكل واحدة من بناته كانت تحظى بالقدر نفسه من المقام الشاهق والتقدير العظيم.
وقفت التوائم الثلاث في حضرة أبيهن. كن متماثلات في ملامحهن لولا تمايز لون أعينهن، فإحداهن زرقاء العينين، والثانية عيناها خضراوان، أما الثالثة فتمتعت بعينين عسليتين، لكن ما ميزهن حقا هو تشابههن رغم اختلاف اهتماماتهن؛ زرقاء العينين ماهرة في تصميم المجوهرات؛ وقد أظهرت براعتها بصياغة عقد ألماس وضعته حول جيدها يسحر الناظرين ببريقه. أما صاحبة العينين الخضراوين فقد تميزت بإعداد أشهى أصناف المأكولات بتوابل تقوم بإعدادها شخصيًّا وتحتفظ بسر وصفاتها لنفسها، وقد أعدّت كعكة مزينة برقائق الذهب وقدمتها لأبيها في عيد ميلاده الماضي. غير أن ذات العينين العسليتين بدت خجولة؛ لا يبدو أنها تتمتع بمواهب كالأختين الأخريين، غير أن الخادمات المناوبات على القصر وعلى رعايتهن طالما تحدثن أن الشيء الوحيد الذي تفعله طوال يومها أنها تمسك كتابا وتبقى متشبثة به حتى أثناء تناول وجبات الطعام.
سرعان ما أعلن بواق الملك بدء المنافسة. سأل الملك ابنته ذات العينين الزرقاوين وهي واقفة تستعرض بريق مجوهراتها الفخمة: ماذا ستمنحينني يا ابنتي الغالية مقابل منحك منجمًا من الماس؟
قالت الفتاة بثقة: سأصنع لك تاجًا مرصعًا بمجوهرات نادرة، لم يسبق أن رآها بشر على وجه هذه الأرض.
هتف الناس إعجابًا، حتى أن الملوك والأمراء غبطوا الملك على ابنة بمثل موهبتها الفذة.
ثم التفت الملك إلى ابنته خضراء العينين، وسألها: ماذا ستقدمين لي يا ابنتي العزيزة مقابل منحي لك منجمًا من الماس؟
قالت الفتاة بصوت محبب: سأعدّ لك أيها الملك طعامًا لم يذق مثله أحد على وجه هذه الأرض.
تلمظ الناس من اللذة، كم اشتهوا تذوق أطباقها ولو لمرة واحدة في حياتهم! وجدوا الملك محظوظًا بابنة ماهرة مثلها.
ثم تقدمت الفتاة ذات العينين العسليتين من والدها، فسألها الملك مثلما سأل الأختين: ماذا ستمنحينني يا بنيتي المحبة مقابل منحك منجمًا من الماس؟
قالت الفتاة بصوت مشوب بالنقاء: سأحكي لك الكثير من الحكايات التي ستملأ وقتك حكمة ومتعة.
ماذا؟.. حكايات؟ ماذا قالت تمنح الملك: حكايات؟ ما فائدة هذه الحكايات؟ ماذا يفعل بها الملك؟ هل ستضاعف من ثروته؟ أم تحميه من أعدائه؟ يا لها من فتاة أنانية، جشعة، تريد الاحتفاظ بالثروات لنفسها دون أن تتجشم عناء تقديم شيء لوالدها الملك؟!
أثار ما قالته الفتاة للملك لغطًا واسعًا بين الحضور. وبدا الاستياء على وجوه ملوك وأمراء الدول المجاورة. شعر الملك بإهانة فحسم غضبه بأن أمر حراسه أن يضعوها في زنزانة؛ وقال في هياج: «تهديني حكايات؟ مجرد كلام! يبدو أن الكتب التي كانت تقرأها سلبت عقلها. لتبقى هناك حتى تعقل».
وانفضت المأدبة...
بعد أسبوع داهمت الملك حمى شديدة، شلت أعضاءه، بقي طريح الفراش. أثناء مرضه تكدرت شهيته؛ بقيت كل أطايب الطعام الذي كانت ابنته الطباخة الماهرة تعدّها له على حالها، لم يذق سوى رشفات من الحساء. وظلت مفاصله تؤلمه رغم أن ابنته الأخرى صممت له سريرا من أعمدة الذهب بل حتى وسائده وأغطية السرير كانت مطرزة بخيوط الذهب غير أنها لم تكن تسكن حالته بل كان يشعر كما لو أنه ممدد على فراش من الصخر.
ساءت حالة الملك، لم يكن يهنأ بالنوم؛ تعكر مزاجه؛ صار يغضب سريعا كما لو أنه طفل. وحين قدمت له إحدى الخادمات الغداء تناول سكين الطعام المرصعة بالذهب وكاد أن يطعن نفسه؛ لولا أنها سقطت من يده المرتعشة.
صار الملك محاطًا بحراسة مشددة يحمونه من نفسه ومن حالات الاكتئاب التي داهمته كعاصفة ثلجية عجز حتى أمهر الأطباء عن معالجتها. وحين سمعت ابنته صاحبة الحكايات ما حلّ بوالدها. طالبت الحراس بأخذها لرؤيته. سمحت الأختان بذلك؛ فقد كانتا منهكتين من الاعتناء بوالدهن الذي ظلت أحواله الجسدية والنفسية تتدهور يومًا بعد يوم.
حين وقعت عيناها على والدها سالت الدموع على خديها، لقد بدا في حالة يرثى لها.
عزمت أن تعتني بوالدها. وظلت لا تفارقه ليلا ولا نهارًا. تعتني بمأكله ومشربه. وفي الليل تحكي له حكايات سبق وقرأتها من كتب متعددة؛ يسمعها حتى يغفو على صوتها المشبع بالخيال والمغامرات والحكم؛ فيستيقظ في اليوم التالي بنشاط متحمسًا لإكمال الحكاية.
تحسنت أحوال الملك النفسية حتى أنه ما عاد بحاجة للأدوية؛ وانفتحت شهيته للطعام والحياة. بعد شهر تحسنت أحوال الملك الجسدية وصار بإمكانه التجول في حديقة القصر وكانت بناته الثلاث برفقته.
أدرك الملك الخطأ الذي اقترفه؛ وعلم أن الكلام قد يكون أغلى من الماس وأشهى من الطعام؛ واعتذارًا لابنته أمر بإنشاء مكتبة ضخمة؛ فما كان لها أن تعرف كل تلك الحكايات وتسرد له الخيالات العجيبة والمغامرات الشيقة والحكم الثمينة لولا مطالعتها لكتب الحكماء.
لم ينتخب الملك ابنته الحكاءة لتكون وريثة عرشه؛ إنما تنازلت لها الأختان عن طيب خاطر؛ لما أظهرته من حكمة وتواضع.
« كم أنا ملك محظوظ»
ظل منذ ولادتهن يردد هذه العبارة. لكنه توقف عن ترديدها حين أشار عليه وزيره الحكيم أن يقوم بترشيح واحدة من التوائم الثلاث لتكون خليفة عرشه.
كان خيارًا صعبا على روح الملك المرهف فهو يحبهن بالقدر نفسه ويقدر مدى صلاحهن لإدارة شؤون البلاد من بعده. لكن عليه أن يختار واحدة منهن فحسب لإدارة شؤون البلاد والعباد، فالمركب الذي يقوده أكثر من ربان قد يغرق.
لكن من الأصلح بينهن لذلك؟! ظل لليالٍ طويلة يعاني من الأرق ويقلب أفكاره. وفي يوم من الأيام اكتشف الحفارون منجما من الماس طار الملك فرحًا لذلك غير أنه تذكر بناته فخطر له أن يتخذ من هذا المنجم اختبارًا لهن؛ حتى يرى أكثرهن حكمة وأكثرهن كفاءة للحكم من بعده، من غير أن يشعرن بتفضيله إحداهن على الأخريين.
أمر الملك بإقامة مأدبة كبيرة يدعو إليها ملوك ووزراء الدول المجاورة. أراد أن يشهدوا تلك اللحظة المهيبة، لحظة انتخاب ولية العهد. أراد أن يتفاخر بتنافس بناته التوائم الثلاث؛ فسيستعرض في ذلك الحفل قوتهن وذكاءهن، ليعرف أيهن أجدر لقيادة البلاد. كان الملك يثق ببناته ومدى حبهن له ولبلادهن.
شهدت البلاد حفلا كبيرا؛ لم يكتف الملك بدعوة الملوك والوزراء بل إنه سمح لشعبه بالحضور؛ فضجت الساحة العامة بكثير من الناس؛ ليشهدوا اختيار الملك من يخلف على العرش. كانوا يدركون أنه خيار صعب؛ فكل واحدة من بناته كانت تحظى بالقدر نفسه من المقام الشاهق والتقدير العظيم.
وقفت التوائم الثلاث في حضرة أبيهن. كن متماثلات في ملامحهن لولا تمايز لون أعينهن، فإحداهن زرقاء العينين، والثانية عيناها خضراوان، أما الثالثة فتمتعت بعينين عسليتين، لكن ما ميزهن حقا هو تشابههن رغم اختلاف اهتماماتهن؛ زرقاء العينين ماهرة في تصميم المجوهرات؛ وقد أظهرت براعتها بصياغة عقد ألماس وضعته حول جيدها يسحر الناظرين ببريقه. أما صاحبة العينين الخضراوين فقد تميزت بإعداد أشهى أصناف المأكولات بتوابل تقوم بإعدادها شخصيًّا وتحتفظ بسر وصفاتها لنفسها، وقد أعدّت كعكة مزينة برقائق الذهب وقدمتها لأبيها في عيد ميلاده الماضي. غير أن ذات العينين العسليتين بدت خجولة؛ لا يبدو أنها تتمتع بمواهب كالأختين الأخريين، غير أن الخادمات المناوبات على القصر وعلى رعايتهن طالما تحدثن أن الشيء الوحيد الذي تفعله طوال يومها أنها تمسك كتابا وتبقى متشبثة به حتى أثناء تناول وجبات الطعام.
سرعان ما أعلن بواق الملك بدء المنافسة. سأل الملك ابنته ذات العينين الزرقاوين وهي واقفة تستعرض بريق مجوهراتها الفخمة: ماذا ستمنحينني يا ابنتي الغالية مقابل منحك منجمًا من الماس؟
قالت الفتاة بثقة: سأصنع لك تاجًا مرصعًا بمجوهرات نادرة، لم يسبق أن رآها بشر على وجه هذه الأرض.
هتف الناس إعجابًا، حتى أن الملوك والأمراء غبطوا الملك على ابنة بمثل موهبتها الفذة.
ثم التفت الملك إلى ابنته خضراء العينين، وسألها: ماذا ستقدمين لي يا ابنتي العزيزة مقابل منحي لك منجمًا من الماس؟
قالت الفتاة بصوت محبب: سأعدّ لك أيها الملك طعامًا لم يذق مثله أحد على وجه هذه الأرض.
تلمظ الناس من اللذة، كم اشتهوا تذوق أطباقها ولو لمرة واحدة في حياتهم! وجدوا الملك محظوظًا بابنة ماهرة مثلها.
ثم تقدمت الفتاة ذات العينين العسليتين من والدها، فسألها الملك مثلما سأل الأختين: ماذا ستمنحينني يا بنيتي المحبة مقابل منحك منجمًا من الماس؟
قالت الفتاة بصوت مشوب بالنقاء: سأحكي لك الكثير من الحكايات التي ستملأ وقتك حكمة ومتعة.
ماذا؟.. حكايات؟ ماذا قالت تمنح الملك: حكايات؟ ما فائدة هذه الحكايات؟ ماذا يفعل بها الملك؟ هل ستضاعف من ثروته؟ أم تحميه من أعدائه؟ يا لها من فتاة أنانية، جشعة، تريد الاحتفاظ بالثروات لنفسها دون أن تتجشم عناء تقديم شيء لوالدها الملك؟!
أثار ما قالته الفتاة للملك لغطًا واسعًا بين الحضور. وبدا الاستياء على وجوه ملوك وأمراء الدول المجاورة. شعر الملك بإهانة فحسم غضبه بأن أمر حراسه أن يضعوها في زنزانة؛ وقال في هياج: «تهديني حكايات؟ مجرد كلام! يبدو أن الكتب التي كانت تقرأها سلبت عقلها. لتبقى هناك حتى تعقل».
وانفضت المأدبة...
بعد أسبوع داهمت الملك حمى شديدة، شلت أعضاءه، بقي طريح الفراش. أثناء مرضه تكدرت شهيته؛ بقيت كل أطايب الطعام الذي كانت ابنته الطباخة الماهرة تعدّها له على حالها، لم يذق سوى رشفات من الحساء. وظلت مفاصله تؤلمه رغم أن ابنته الأخرى صممت له سريرا من أعمدة الذهب بل حتى وسائده وأغطية السرير كانت مطرزة بخيوط الذهب غير أنها لم تكن تسكن حالته بل كان يشعر كما لو أنه ممدد على فراش من الصخر.
ساءت حالة الملك، لم يكن يهنأ بالنوم؛ تعكر مزاجه؛ صار يغضب سريعا كما لو أنه طفل. وحين قدمت له إحدى الخادمات الغداء تناول سكين الطعام المرصعة بالذهب وكاد أن يطعن نفسه؛ لولا أنها سقطت من يده المرتعشة.
صار الملك محاطًا بحراسة مشددة يحمونه من نفسه ومن حالات الاكتئاب التي داهمته كعاصفة ثلجية عجز حتى أمهر الأطباء عن معالجتها. وحين سمعت ابنته صاحبة الحكايات ما حلّ بوالدها. طالبت الحراس بأخذها لرؤيته. سمحت الأختان بذلك؛ فقد كانتا منهكتين من الاعتناء بوالدهن الذي ظلت أحواله الجسدية والنفسية تتدهور يومًا بعد يوم.
حين وقعت عيناها على والدها سالت الدموع على خديها، لقد بدا في حالة يرثى لها.
عزمت أن تعتني بوالدها. وظلت لا تفارقه ليلا ولا نهارًا. تعتني بمأكله ومشربه. وفي الليل تحكي له حكايات سبق وقرأتها من كتب متعددة؛ يسمعها حتى يغفو على صوتها المشبع بالخيال والمغامرات والحكم؛ فيستيقظ في اليوم التالي بنشاط متحمسًا لإكمال الحكاية.
تحسنت أحوال الملك النفسية حتى أنه ما عاد بحاجة للأدوية؛ وانفتحت شهيته للطعام والحياة. بعد شهر تحسنت أحوال الملك الجسدية وصار بإمكانه التجول في حديقة القصر وكانت بناته الثلاث برفقته.
أدرك الملك الخطأ الذي اقترفه؛ وعلم أن الكلام قد يكون أغلى من الماس وأشهى من الطعام؛ واعتذارًا لابنته أمر بإنشاء مكتبة ضخمة؛ فما كان لها أن تعرف كل تلك الحكايات وتسرد له الخيالات العجيبة والمغامرات الشيقة والحكم الثمينة لولا مطالعتها لكتب الحكماء.
لم ينتخب الملك ابنته الحكاءة لتكون وريثة عرشه؛ إنما تنازلت لها الأختان عن طيب خاطر؛ لما أظهرته من حكمة وتواضع.