القسم الأول

لم يتوصّل المحقق إلى أيّ إجابة لمعرفة لماذا تأخّر سكان بناية اللبلاب في إبلاغ الشرطة بالحادثة. لم يستوعب تماما حسن الظنّ الذي دفعهم لإهمال روائح الأدوية التي ظلّت تنبعث من شقّة المرأة لأسابيع. وعندما سألني؛ قلت له إن أحدهم يبدو خائفا من ذلك. وضع تفسيرا قال إنه الأفضل مؤقّتا؛ بالنظر إلى أعشاب اللبلاب وهي تكسو البناية بالكامل.

المبنى نفسه صُمّم كما لو أنه صخرة عظيمة وجدت هناك منذ العهود السحيقة، ثم جاء الإنسان لينحت فيها مساكنه. ومع الأفاريز الشجرية التي اتخذ منها الحمام أعشاشا، وأصوات الأشجار في محيط المكان، وتشكيلات الفطر من جهة معبد اللبلاب؛ إلى الغرب من البناية، والطيور البرية التي تتجوّل بالمكان؛ قريبا من حوض صغير تنشقّ عنه ساقية ماء تخترق الأشجار وتحيطها تشكيلات من الورود الزاهية؛ يمكن الإحساس بالتفاؤل الذي يغمر الحي؛ حي اللبلاب.

لا يوجد في الحي سوى تلك البناية، وإلى جوارها منزل بسيط يسكنه صاحب البناية، وهو مهندس معماري متقاعد؛ يُشاع عنه أنه الوحيد على مستوى العالم من حصل على ألف براءة اختراع؛ جميعها في حقل التنمية الحضرية والعمران واستدامة الموارد الطبيعية، وسجلها كلّها باسم امرأة كانت تعمل لديه، وهي التي تزوّجها لاحقا عندما تقاعد؛ إذ ظل أعزب معظم حياته. أشار في أحد لقاءاته بالمحقق إلى أنه أحبّها لأنها تجيد عملها. فسأله: «ألا يبدو ذلك زائفا؟». أجاب كما لو أنه يستنشق كلماته: «ولكن يمكن أن يستمر».

رآني مرّات عدّة خلال التحقيقات. آثرتُ فضوله في إحداها فجاء ليتأكّد مني، غير أنه تركني سريعا عندما عرف من أنا! سألته في إحدى المصادفات عن العدد الحقيقي لاختراعاته، غير أنه علّق بجفاء: «ولكنها ليست اختراعاتي!». عرفت أن زوجته لا تسمح له بإدخال قطع أثاث إلى منزلهما إلا ما كان له تاريخ. فسألته مازحا: «لا تعيشان بمفردكما إذن؟». لم يرد على سؤالي ذاك، ولكنه علّق من أبعد مكان في دماغه عندما سألته عن سبب وجود لافتة وضعت بعدة أماكن في الحي، كتب عليها: قاطنو هذا الحيّ لا يحبّون التصوير؛ حيث قال: «لا تسأل سؤالا جوابه فيه!».

لم أفهم ما قصد، وعندما أخبرت المحقق؛ قال: «لا يريد أن يتحدث إليك!». قلت له؛ كنتُ أريد أن أسأل عن الأسماء التي يختارها للشقق في بنايته: «الغصن العلوي»، «الغيمة»، «العشّ الأمامي»؛ أليس الأسهل أن يرقّمها؟ ولكن لم أتمكن لأنه يتجاهلني في كل مرّة! لم يعلّق المحقق على ذلك، وهذا يعني أنه ليس مهما.

في اليوم الذي اكتُشفت فيه الحادثة؛ كانت الجارة الوحيدة للمرأة أعلى البناية قد فقدت صبرها على تلك الروائح التي طردت بلابل نافذتها، فكانت تطرق منذ الصباح الباكر باب صاحب البناية بتوتّر باد على عينيها اللتين لم تغمضا جيدا البارحة. انتظرت أكثر من المعتاد إلى أن فتحت زوجته الباب وهي تحيّيها باستغراب من وجودها في ذلك الوقت المبكّر. دعتها للانتظار في الحديقة الصغيرة بالباحة الخلفية للمنزل، وبعد قليل من الوقت أدخلتها على زوجها الذي اعتاد أن يجلس صباحا في غرفة مكتبه القريبة من الباحة؛ يشرب منقوع أعشابه، ويبدأ في إعداد جدوله اليومي. كان مشغولا بمتابعة الحملات الانتخابية لبرلمان المدينة؛ عندما لاحظ اضطرابها من نافذته، فطلبها مباشرة. دخلت عليه وهي تصيح: «إما أن تتصل بالشرطة أو أفعل ذلك بنفسي».

التقيت بها مساء يوم الحادثة. أخبرني عنها المحقق عندما تولّى القضية، فاتصلت بها بطلب منه. رفضت مقابلتي معتذرة بأنها لا تريد أن تتحدث عن المرأة. قلت لها: «ولكن يمكن أن تتحدثي عن نفسك». وافقت فقط عندما أخبرتها أني أعمل لدى المحقق.

قابلتها على أحد المقاعد الخشبية بالحيّ؛ قريبا من مرآب الدراجات الهوائية. شعرت بتوتّرها واستغرابها عندما شاهدتني، ولكنها هدأت قليلا عندما لاحظت أن الزي الأمني الأبيض الذي أرتديه ليس بعيدا عن ثوبها الأبيض ذي الحراشف البرتقالية التي تنسدل عن الكتف الأيسر كأنها شال؛ يمتد من جهة اليمين إلى الخصر، ثم يلتفّ على شكل أفعى حتى نهاية الذراع. اللون البرتقالي هو أيضا نفسه للحزام والشارة الرسمية التي أضعها والخاصة برتبتي الاجتماعية.

كان توتّرها لأني بقيت واقفا في البداية وأنا أكلّمها، ولكن عندما جلست قريبا منها وبدأت أتكلّم؛ تجاهلت قلقها حتى اختفى. لم أستسغ الحزن الذي ارتسم على وجهها، فجعله ذائبا كبيت طين قديم. ظلّت تكلمني في البداية كأنما تهذي في حلم، غير أنها عندما لاحظت أني أستطيع الحديث مثلها؛ راحت تقول: «أليس مفجعا أن تبدأ حكاية المرء بعد موته. تبدأ من النهاية». قلت لها: «ولكنّك لم تشاهديها قطّ!». تخيّلتها تنتزع شعرا من لسانها وهي تعلّق: «هذا أكثر قسوة وألما!».

استطعت أن أحدّد بعض مركّبات العطر الذي تضعه. عطر مقطّر من اليانسون وزهور باذنجانية وشيء من فصيلة ريشة الزهرة، ويقطين مخمّر. جميعه مما يزرعه صاحب البناية في حي اللبلاب. الرائحة نفسها تتكرر لدى سكان الحي، وعندما أخبرت المحقق بأن المركبات الكيميائية للعطور التي يستعملونها تتكرر لديهم؛ أخبرني أن المرأة زوجته تحضّر تلك العطور في منزلها، ثم تهديها لهم.

لم أثق كثيرا بمشاعر تلك الجارة. ربما بسبب الأفعى على فستانها. أو بسبب التمائم الكثيرة التي تعلّقها في رقبتها وكفّيها. عرفت لاحقا أنها تبيع تمائم وتعاويذ تصنعها في الغالب من أشياء نباتية وأخرى من صخور وحجارة كريمة. لم أمنحها أكثر من ستين بالمائة في مؤشر الثقة، وهي نسبة أعطيها لكل من أراه أقرب إلى الصدق، ولكن لن يكون لكلامه أهمية في معرفة ما جرى. بقيت أستمع إليها وهي تحكي عن المرأة التي تسميها سيّدة الغصن العلوي؛ إذ لم تكن تعرف اسمها، لهذا تناديها باسم شقّتها.

ليست الجارة وحدها من لا يعرف اسمها، فالجميع هناك لا يعرفونه. صاحب البناية أخبر الجميع أن اسمها مجرّد حروف مقطّعة لم يستطع حفظها. أخبرهم عن تلك الحروف كما يقول، ولكن لأن التعريف باسم شقّتها أسهل فلم يعد أحد يريد معرفة اسمها، بمن فيهم صاحب البناية نفسه. ظلّ يعرّفها أيضا باسم شقّتها خلال التحقيقات، ولم يتّفق مع الجارة أن سيّدة الغصن العلوي مريضة، مصرّا أنها لا تعرف شيئا عن المرأة.

لقد كان كلامه صحيحا، فلم يكن لدى الجارة الكثير لتقوله، تماما كما أكّد صاحب البناية. لم أستطع حتى أن أستوعب سبب بكائها الذي بدا كما لو أنها تعرف كل شيء! ولكن أليست هكذا أغلب أحزان البشر؟! قلت ذلك للمحقق عندما عدت لأعطيه تقريرا عن زيارتي، إلا أنه علّق: «هذا غير مهم. لتبكي كما تشاء».

«جثة باردة في شقّة معزولة بين أناس غرباء؛ لم يلفتهم إلى تلك النهاية سوى روائح الأدوية! فجأة هكذا أصبح لهذه المرأة المريضة التي نسي الجميع أنها حيّة؛ حكاية يجب أن تكتب. كما لو أن أقصى حقوقها أصبح أن يعرف الناس كيف ماتت!». قالت المرأة ذلك وهي تدافع عنها.

أكّدت أيضا: «ليست الروائح وحدها ما جعلني أسارع منذ الصباح الباكر لأخبر صاحب البناية، بل ذكريات طويلة بيننا لا كلام فيها. إنها أصعب. صمت أحاول بلا فائدة أن أكسره. صار يدفعني دفعا لإبداء العاطفة ما قبل الأخيرة تجاه جارتي التي تمنّيت طويلا أن أتحدث إليها». سألتها: «وما هي العاطفة الأخيرة إذن؟». لم تجب عن سؤالي ذاك، ولكن عندما سألت المحقق قال إنه لا توجد عاطفة أخيرة. دائما لا يوجد سوى ما قبل الأخير!

أخبرتني أنهم كانوا سيستطيعون إنقاذها لو أنهم سارعوا إلى إبلاغ الشرطة منذ الأيام الأولى للرائحة، ولكن لسبب ما ظلّوا يتّفقون مع رأي صاحب البناية الذي استمرّ يرفض تدخّل الأمن ويقلل من أهميّة الأمر. كانت له أهدافه المتّصلة بالانتخابات البرلمانية الوشيكة بحسب كلامها، ولكن أن تضرب رائحة الفورمالين حتى التجاويف الأبعد للحلق، وأن تكون الأجزاء الأعلى من البناية أشبه بمختبر الحيوانات المحنّطة، فذلك أمر لا يمكن السكوت عنه، وخصوصا أن سيّدة الغصن العلوي لم تغادر عتبة بابها مطلقا منذ وصلت قبل سنتين!

لم يسمح رجال الشرطة لأحدٍ بالدخول إلى الشقّة، وعندما أخرجوا المرأة كانت مغطاة تماما. معظمهم بقي ينتظر بالخارج؛ ليحظى بالفرصة الوحيدة لرؤية الساكنة الغريبة، إلا أنّ الفرصة لم تكتمل، فلم يتسنّ لأي من السكّان أن يتحقق فيم إذا كانت المرأة ميّتة فعلا أم لا؟. انعكس ذلك التردد على جلسات التحقيق، فلم يستفد المحقق كثيرا من شهاداتهم. لا أحد يعرف المرأة، والجميع مصدوم مما جرى، ولا توجد أدنى مخيلة عمّا جرى في تلك الشقّة، وما خلا صاحب البناية الذي يقول إنه رأى المرأة مرة واحدة فقط عندما وصلت؛ لم يرها أحد منهم مطلقا.

***

عندما دخلت الجارة على المحقق في اليوم التالي؛ أحضرت معها صورا التقطها ابنها خلسة؛ في المرّات القليلة التي يصادف المرأة تخرج أو تدخل شيئا من باب شقّتها. معظم الصور كانت سيّئة ولا يمكن تبيّن شيئا مهما فيها. لم تكن الصور للمرأة فقط، فإحداها كانت لروبوت، والغريب أن الصبي كان أكثر دقّة في تصوير الروبوت مقارنة بصوره للمرأة. أحد سكان البناية، وهو صاحب شقّة «المغارة الشرقية»، ويعمل صحفيا؛ أحضر معه خلال شهادته هو الآخر بعض الأوراق والوثائق التي استطاع التوصّل إليها على فترات عندما كان يحاول بلا فائدة أن يؤلّف حكاية عن المرأة. حاول المحقق أن يصنع من كل ذلك سيناريو معيّنا، ولكن المعلومات القليلة أحرجت خبرته الممتدة إلى ثلاثة عقود ونيف.

دخلت الجارة على المحقق كما لو أنها المسؤولة عمّا حصل لجارتها. كانت تلبس الثوب الأبيض نفسه الذي وجدته عليها بالأمس. سألت إن كانت المرأة متوفية فعلا أم لا. وحين عرفت أن جسدها كان سيتحلل لولا محاليل حفظ الجثث؛ راحت تلوم نفسها إذ لم تكن صارمة عندما ظلّت تدعو صاحب البناية لأيام كي يتدخّل. مسحت دمعة ترقرقت وهي تجيب عن أسئلة المحقق الذي افتتح المحضر بقراءة حقوقها كشاهدة في القضية، مومئا إليّ بأصابعه صانعا الإشارة الخاصة بفئة توثيق المعلومات:

«لم أشاهدها سوى مرة واحدة عزيزي المحقق. أو لا.. مرّتين. عفوا.. مرة واحدة فقط. ففي الثانية كان جسدها مغطّى. هل كان الأفضل ألا أراها؟ أريد أن أراها يا سيدي. ولو لمرة واحدة. هل هذا ممكن؟

نعم... الروائح الغريبة هي التي دفعتني. كنت أقول ذلك من فترة للمالك ولبقية الجيران. منذ انقطعت عن فتح الباب لإدخال مشترياتها. قبل شهرين يا سيدي. الخصوصية والحرية هما كل ما يتحدثون عنهما. ولكن هذه أشياء بلا معنى؛ إلا إذا كنت مع الناس وفي وسطهم. العزلة تجعل النفس فقيرة يا سيدي. والآن هذه النتيجة. ليتني ما تركتها. لربما ما كان ليحدث الذي حدث.

ابني الصغير نبّهني إلى أن المرأة ما عادت تفتح الباب لعمّال التوصيل، والأغراض تبقى لساعات وأحيانا لأيام أمام الباب. لا يا سيدي ابني يشاهدها بالصدف فقط، فهي لا تفتح الباب لأحد. أنا جارتها الأقرب طوال السنتين، ولكن لم أشاهدها إلا بعد أشهر من وصولها وهي تفتح بابها لإخراج القمامة. حييتها فلم ترد. هربت مني قبل أن أنطق بشيء. من هناك بدأت أقول إنها مريضة.

لم أشم أي رائحة كريهة، ولم أسمع أيّ أصوات غريبة من شقتها. ليست لديّ مشاعر محددة تجاهها سيدي الضابط، ولكن في النهاية هي امرأة مثلي، وأنا جارتها الوحيدة في الأعلى، ولم يصدر عنها أي أذى أو إزعاج، فلا بدّ أن أتعاطف معها، وخصوصا أنها لم تكن طبيعية. ليتها عرفت حجم الحب الذي زرعته عند بابها.

بالصدف أيضا، وفقط في الشهرين الأخيرين. الروبوت صار هو من يفتح الباب. شخصيا لم أصادفه مطلقا. لا أبدا... الغالبية يظنون أنها لا تحب الناس، واتّخذت من تلك الآلة خليلا لها. ولكن في الحقيقة هي مريضة. نعم يا سيدي مريضة. كانت تطلب مني تمائم وتعاويذ. لا.. تكتب طلباتها في قصاصات تضعها تحت بابي.

نعم هذا صحيح. أنا من أشاع ذلك، ولكن لم يكن من رأسي. فعمّال التوصيل ذكروا أنها صارت تطلب في الفترة الأخيرة الكثير من خيوط الفطر المستزرعة وأدوية مختلفة من الصيدليات. وبسبب مرضها النفسي فإنها ربما تكون انتحرت بتناول موادّ سامة. وخصوصا أنها صارت تشتري محاليل للتغذية الوريدية ومسكنات وتركيبات عجيبة. ناهيك عن الفورمالين. الفورمالين مطهّر للجروح يا سيدي، ودرجة سمّيّته عالية جدا، ويستخدم في التحنيط وحفظ الأعضاء. ما عسى أن تفعل بتلك الكميّات الكبيرة؟ لماذا تحتاج لكل ذلك إن لم تكن تفكر في الانتحار فعلا؟!

لا لم أسمع لها صراخا. بل لم أسمع لها صوتا مطلقا. أقسم لك. المرأة غريبة حقا. من يفكّر في الموت؛ سيبحث عن أقصر الطرق، وهي كانت تبحث عن أطول الطرق! منذ شهرين يا سيدي. منذ بدأت الروائح. كيف تموت هكذا ولم تطلب مساعدة من أحد؟! يا إلهي! لا يا سيدي لست واثقة. هذا ما يتحدّث عنه الجميع. هل هي حيّة فعلا؟

حاولت في الأسابيع الأولى أن أهديها بعض ما أطبخ، ولكن لا أحد يرد عندما أطرق الباب! أترك لها أشياءً عند بابها على سبيل الهدية، غير أن النمل والحشرات من يستلمها. لم تقبل مني سوى شيئا واحدا، وهي دمية من القش صنعتها لأجل مدرسة ابني. ولم تقبلها إلا مع مبلغ من المال أجده تحت بابي. كرّرتْ ذلك مرتين أو ثلاث عندما طلبت مني دمى أخرى من القش. كانت تترك المبلغ داخل أظرف تكتب فيها ما تريد. لا يا سيدي.. لا أحتفظ بتلك الأوراق. لا أعلم. ربما تستلم مبالغ لوحاتها بالبريد.

مطلقا.. لم أطلب قرشا واحدا على التمائم. لا أفعل ذلك. في الغالب عندما يستفيد الناس من تعويذاتي فإنهم يرسلون لي ما يشاؤون. نعم طلبت مني ريشة الزهرة مرّات عديدة، وكذلك قطعا من حبل المساجين. تلك تميمة تنفع في أشياء كثيرة سيدي الضابط. لا ليست لدي وظيفة محدّدة. أبدا يا سيدي.. بعد أن تعمل في عشرات الوظائف سوف تمتلك حيلا كثيرة للحصول على المال بدون أن تحتاج إلى وظيفة.

سيطول الشرح حولها. ‏يا سيدي أنت تقول خرافة. لتكن خرافة. أبي كان يقول ذلك أيضا، وكان يتشاجر طويلا مع أمي بسببها. ولكن الناس كانوا يأتون إلينا. أمي كانت تصرف معظم ما تجمعه من بيع التمائم في فعل الخير. أنا أفعل مثلها. هكذا تفعل التمائم في الإنسان يا سيدي. تجعله يثق في قوّة أعظم؛ فينسى قلّة حيلته وضعفه. نحن نتشافى بالنسيان.

مطلقا لا أقول ذلك يا سيدي. أولا يجب أن يذهبوا إلى المستشفى، ومن ثم إذا شاؤوا يأتون إليّ. التمائم لم تصنع لمعالجة الأجساد، بل لمعالجة الأرواح.

ربما... كانت لديّ في البداية أمنية عميقة لأن نكون صديقتين. ولكن عندما تأخر الوقت ولم ألتق بها مطلقا، تحوّلت الأمنية إلى شعور جارف بأني يجب أن أسحق ذلك الباب أو أخمش بأظافري الجدار الذي يفصلني عنها، لأنتزعها من عزلتها، وأصفعها صفعتين لكي تصحو من أيّ أوهام تجعلها تخاف الناس، وخاصة من امرأة مثلي؛ لديها طعام وتمائم. ماذا نحن بدون الناس؟!».