التاريخ بثقله ومختلف مظاهره وأشكاله والواقع بثقله وشتّى مرجعيّاته والذات بكلّ ما يستقرّ فيها من مشاعر وأحاسيس، وما به تتكوّن وتتشكّل عُقَدها وتعقيداتها هي المصادر الرئيسة التي يُتقن الروائيّ التفاعل معها وإخراج حكاياتها، هي وادي عبقر التي منه تُشرَبُ الروايةُ بأحداثها وشخصيّاتها.
يُشكّل التاريخ الشفويّ والمكتوب، الرسميّ وغير الرسميّ، مخزنا رئيسا للروائيّ، منه يستمدُّ صُورا وشخصيّات ووقائع وإمكانَ حكاياتٍ قابلة للرواية، فهل يخرج التاريخ عن كون السرد؟ وهل كان التاريخ ضامنا لنجاعة الرواية ونجاحها، وهل أنّ دخول الرواية في الاستفادة الجزئيّة أو الكليّة من التاريخ مسلكٌ يُمكن أن يُفيد القارئ؟ وهل أنّ الروائيّ عندما يستعيد التاريخ يكون وفيّا للتخييل أو لصدقيّة وهميّة يُوسَم بها التاريخ؟
التاريخ بأحداثه ووقائعه وشخصيّاته أوجُهٌ وصُوَرٌ وقراءاتٌ ولا يُمكن أن يكون صورةً واحدة أو موقفا واحدا، تتنازعه المواقف ومواقع النظر والإيديولوجيات، يتقاطع مع الرواية في محاولته القبض على لحظة من الزمن منفلتة، أصبحت في محلّ المنقضي، فهل نسير مسار بعض الفلاسفة وعلى رأسهم بول ريكور في اعتبار كتابة التاريخ هي كتابةٌ لأحداث من وجهة نظر «غير بريئة»، وبالتالي فإنّها إلى حدّ ما تقديمٌ لرواية مخصوصة للتاريخ الذي يُمكن أن يُنقَل بروايات مختلفة، وإن نظرنا في تاريخنا العربي أمكن لنا أن نُدرك هذه الروايات بشكل واضح، فهل أنّ حُروب العرب في الجاهليّة هي حروبٌ حاصلةٌ أو هي مُجرّد تخييل ساهمت في صناعته القبليّة في العهود اللاّحقة، «أيّام للعرب» تُذكَر بتفاصيلها وبأبطالها وبالمُساهمين فيها، من الأنصار والأضداد، لا يُمكن أن نخرج منها بصُورة يُمكن أن تُشكّل أرضيّة «واقعيّة تاريخيّة»، وقس على ذلك، وقائع عديدة مهمّة في التاريخ العربيّ، منها «المغازي» وافتراق المذاهب، وتاريخ الصراع العربي الفارسيّ، ووجود المستعمر في بلاد العرب، وهذه المسائل الخلافيّة في ضبط نوى كبرى لتاريخ متّفق عليه يُمكن أن تُشكّل أرضيّة لكتابة تخييل روائيّ ثريّ لم يستثمره الروائيّون العرب بالشكل الأمثل.
يتفاعل المؤرّخ مع الأحداث المرويّة، ويعمل على إعادة تشكيل «واقع» قد مضى، إعادة حياكته وحكايته، ساعيا إلى القبض على لحظة من الزمن هاربة، يُجمّع عناصرها ويعمل على تشكيلها من جديد موهما أنّ ما يحكيه هو ما صار، والحال أنّ ما يحكيه هو قراءة لما صار. وعلى هيئة مشابهة وليست متماثلة يعمل الروائي المستعين بالتاريخ أو الرامي إلى تخييل التاريخ إلى بناء هذا الواقع المنقضي وفق تَحْبِيكٍ خاصّ، ورؤية تحمل حكايةً أكبر، يقول بول ريكور مشيرا إلى اشتراك الروائيّ والمؤرّخ في المرجع، ومُثبتا دور إعادة تشكيل لحظات من الزمن بواسطة السرد: «ما دام المؤرخون متورطون في فهم الأحداث الماضية وتفسيرها، فلن يمكن المصادقة على حادثة مطلقة عن طريق الخطاب التاريخي، فالفهم -حتى فهم شخص آخر في الحياة اليومية- ليس حدسا مباشرا، هو دائما أكثر من مجرد تعاطف بسيط، بل هو دائما إعادة بناء.» وعلى ذلك فإنّ الروائيّ هو مؤرّخ حقيقيّ وليس مؤرّخَ ظواهر أو مظاهر، هو الذي يُجمّع نبْض التاريخ، ويقرأ ما لا يُقرَأ، يقرأ المشاعر والأحاسيس وتجارب البشر، ويُعيد تشكيل الوقائع وصُوَر شخصيّاتِ التاريخ وِفْقا لمسار رؤيته التخييليّة، «فالزمن لا يُمكن أن يكون إلا محكيّا»، والمحكيّ يحتاج إلى شخص يحكي، يمتلك ناصية الحكاية ويتحلّى بالذكاء السرديّ الذي يُمكّن من إنشاء عوالم ممكنة في رحاب التخييل. التاريخ منبعٌ لا ينضب للروائيّ بحكم تشكّله وتكوّنه من الإمكان السردي، ففي حين يوهم المؤرّخ بحرص على أنّه موضوعيّ ويعمل على إقصاء ذاته في ضبط وقائع التاريخ، يؤكّد الروائيّ أنّه لا يُطابق التاريخ في حرفيّته وأنّ عوالمه التي يدخل فيها والتي يستند فيها إلى مرجعيّة تاريخيّة هي عوالم تخييليّة، لا تقوم على المحاكاة بل هي تستند إلى الإنشاء والابتكار.
السرد يُعيد تشكيل تجربة الإنسان الزمنيّة، و»التخييل التاريخي» (بدلا عن الرواية التاريخية، والمصطلح من اقتراح عبداللّه إبراهيم)، أو «السرد القابض على التاريخ»، هو السبيل لتحقيق تمثيلٍ لزمنٍ انقضى، والسرد قادر على «تشخيص التجربة الزمنيّة الخرساء»، والتي يزيد المؤرّخ إسكاتها وتجميدها، ويزيد الروائيّ من بهائها وإمكان دلالاتها.
تجارب متعدّدة حاولت إعادة تشكيل التاريخ في الرواية العربيّة بشكل جزئيّ أو بشكل تامّ، منها من أخذ من التاريخ غطاء وشكلا احتمى به لرواية أحداث يُمكن إجراؤها على واقع الحال، فكانت الرواية التاريخيّة القناع الذي يحتاج من القارئ كشفا وجهدا لبلوغ الممكن التأويليّ، وأفضل مثال على ذلك تجربة جمال الغيطاني التي غاص فيها في استدعاء شكل كتابة الخطط في خطط الغيطاني، أو شكل المراسيم السلطانية في الرواية التي لاقت نجاحا كبيرا، وهي «الزيني بركات» التي استدعى فيها الكاتب شخصيّة من التاريخ المملوكي، صنع عالمها التخييلي استنادا إلى نصّ تاريخي مُلهم لابن إياس هو «بدائع الزهور في وقائع الدهور». أمّا في التوظيف الجزئيّ للتاريخ فإنّ أعمالا كثيرة قد درجت هذا المنحى ونجحت في إحداث التفاعل المُرغِّب بين الواقع التاريخي والتخييل الروائي.
ولا يُمكن أن نثير مسألة على صلة الرواية بالتاريخ دون أن نشير إلى إشكال حقيقيّ في تاريخ الأدب العربي الحديث، وهو منزلة جورجي زيدان (1861-1914) من تأصيل الرواية العربيّة، إذ يُقْصَى من الاعتبار والحُسبان ويحلّ محلّه صاحب الرواية الاجتماعيّة التي قُدّت على النمط الغربي محمد حسين هيكل في رواية زينب (1913) التي تُصنَّف على أنّها أوّل رواية عربيّة، ومختَصَر الإشكال هل أنّ الرواية التاريخيّة التي كتبها جورجي زيدان لا تدخل حرم الرواية؟ أو أنّ «إساءته» إلى التاريخ بتخييله أخرجه من دائرة الرواية وأدخله دائرة المؤرّخين المغالطين!؟
لا تترُك الرواية منبعا يُمكن أن تستقي منه أبوابا تُفَتِّحُ لها عوالم التخييل إلاّ أخذت عنه وأعادت تركيب خيوطه وحياكة أنسجته، وأخرجته شكلا جديدا لا يُوافق ما صدرت عنه وإن بقيت آثاره بيّنة. مخزن التاريخ مخزنٌ سراطٌ وصعبُ المراس، لأنّه يُمكن أن يسيطر بيسر على الكاتب فيسقط في الالتزام به، والحال أنّه يجب أن يُخيّله، أن يُدمجه في حكاية أكبر لا تقول الواقعَ تاريخا أو ذاتا أو مرجعا وإنّما تُمثّله وتجعل القارئ يتمثّله.
يُشكّل التاريخ الشفويّ والمكتوب، الرسميّ وغير الرسميّ، مخزنا رئيسا للروائيّ، منه يستمدُّ صُورا وشخصيّات ووقائع وإمكانَ حكاياتٍ قابلة للرواية، فهل يخرج التاريخ عن كون السرد؟ وهل كان التاريخ ضامنا لنجاعة الرواية ونجاحها، وهل أنّ دخول الرواية في الاستفادة الجزئيّة أو الكليّة من التاريخ مسلكٌ يُمكن أن يُفيد القارئ؟ وهل أنّ الروائيّ عندما يستعيد التاريخ يكون وفيّا للتخييل أو لصدقيّة وهميّة يُوسَم بها التاريخ؟
التاريخ بأحداثه ووقائعه وشخصيّاته أوجُهٌ وصُوَرٌ وقراءاتٌ ولا يُمكن أن يكون صورةً واحدة أو موقفا واحدا، تتنازعه المواقف ومواقع النظر والإيديولوجيات، يتقاطع مع الرواية في محاولته القبض على لحظة من الزمن منفلتة، أصبحت في محلّ المنقضي، فهل نسير مسار بعض الفلاسفة وعلى رأسهم بول ريكور في اعتبار كتابة التاريخ هي كتابةٌ لأحداث من وجهة نظر «غير بريئة»، وبالتالي فإنّها إلى حدّ ما تقديمٌ لرواية مخصوصة للتاريخ الذي يُمكن أن يُنقَل بروايات مختلفة، وإن نظرنا في تاريخنا العربي أمكن لنا أن نُدرك هذه الروايات بشكل واضح، فهل أنّ حُروب العرب في الجاهليّة هي حروبٌ حاصلةٌ أو هي مُجرّد تخييل ساهمت في صناعته القبليّة في العهود اللاّحقة، «أيّام للعرب» تُذكَر بتفاصيلها وبأبطالها وبالمُساهمين فيها، من الأنصار والأضداد، لا يُمكن أن نخرج منها بصُورة يُمكن أن تُشكّل أرضيّة «واقعيّة تاريخيّة»، وقس على ذلك، وقائع عديدة مهمّة في التاريخ العربيّ، منها «المغازي» وافتراق المذاهب، وتاريخ الصراع العربي الفارسيّ، ووجود المستعمر في بلاد العرب، وهذه المسائل الخلافيّة في ضبط نوى كبرى لتاريخ متّفق عليه يُمكن أن تُشكّل أرضيّة لكتابة تخييل روائيّ ثريّ لم يستثمره الروائيّون العرب بالشكل الأمثل.
يتفاعل المؤرّخ مع الأحداث المرويّة، ويعمل على إعادة تشكيل «واقع» قد مضى، إعادة حياكته وحكايته، ساعيا إلى القبض على لحظة من الزمن هاربة، يُجمّع عناصرها ويعمل على تشكيلها من جديد موهما أنّ ما يحكيه هو ما صار، والحال أنّ ما يحكيه هو قراءة لما صار. وعلى هيئة مشابهة وليست متماثلة يعمل الروائي المستعين بالتاريخ أو الرامي إلى تخييل التاريخ إلى بناء هذا الواقع المنقضي وفق تَحْبِيكٍ خاصّ، ورؤية تحمل حكايةً أكبر، يقول بول ريكور مشيرا إلى اشتراك الروائيّ والمؤرّخ في المرجع، ومُثبتا دور إعادة تشكيل لحظات من الزمن بواسطة السرد: «ما دام المؤرخون متورطون في فهم الأحداث الماضية وتفسيرها، فلن يمكن المصادقة على حادثة مطلقة عن طريق الخطاب التاريخي، فالفهم -حتى فهم شخص آخر في الحياة اليومية- ليس حدسا مباشرا، هو دائما أكثر من مجرد تعاطف بسيط، بل هو دائما إعادة بناء.» وعلى ذلك فإنّ الروائيّ هو مؤرّخ حقيقيّ وليس مؤرّخَ ظواهر أو مظاهر، هو الذي يُجمّع نبْض التاريخ، ويقرأ ما لا يُقرَأ، يقرأ المشاعر والأحاسيس وتجارب البشر، ويُعيد تشكيل الوقائع وصُوَر شخصيّاتِ التاريخ وِفْقا لمسار رؤيته التخييليّة، «فالزمن لا يُمكن أن يكون إلا محكيّا»، والمحكيّ يحتاج إلى شخص يحكي، يمتلك ناصية الحكاية ويتحلّى بالذكاء السرديّ الذي يُمكّن من إنشاء عوالم ممكنة في رحاب التخييل. التاريخ منبعٌ لا ينضب للروائيّ بحكم تشكّله وتكوّنه من الإمكان السردي، ففي حين يوهم المؤرّخ بحرص على أنّه موضوعيّ ويعمل على إقصاء ذاته في ضبط وقائع التاريخ، يؤكّد الروائيّ أنّه لا يُطابق التاريخ في حرفيّته وأنّ عوالمه التي يدخل فيها والتي يستند فيها إلى مرجعيّة تاريخيّة هي عوالم تخييليّة، لا تقوم على المحاكاة بل هي تستند إلى الإنشاء والابتكار.
السرد يُعيد تشكيل تجربة الإنسان الزمنيّة، و»التخييل التاريخي» (بدلا عن الرواية التاريخية، والمصطلح من اقتراح عبداللّه إبراهيم)، أو «السرد القابض على التاريخ»، هو السبيل لتحقيق تمثيلٍ لزمنٍ انقضى، والسرد قادر على «تشخيص التجربة الزمنيّة الخرساء»، والتي يزيد المؤرّخ إسكاتها وتجميدها، ويزيد الروائيّ من بهائها وإمكان دلالاتها.
تجارب متعدّدة حاولت إعادة تشكيل التاريخ في الرواية العربيّة بشكل جزئيّ أو بشكل تامّ، منها من أخذ من التاريخ غطاء وشكلا احتمى به لرواية أحداث يُمكن إجراؤها على واقع الحال، فكانت الرواية التاريخيّة القناع الذي يحتاج من القارئ كشفا وجهدا لبلوغ الممكن التأويليّ، وأفضل مثال على ذلك تجربة جمال الغيطاني التي غاص فيها في استدعاء شكل كتابة الخطط في خطط الغيطاني، أو شكل المراسيم السلطانية في الرواية التي لاقت نجاحا كبيرا، وهي «الزيني بركات» التي استدعى فيها الكاتب شخصيّة من التاريخ المملوكي، صنع عالمها التخييلي استنادا إلى نصّ تاريخي مُلهم لابن إياس هو «بدائع الزهور في وقائع الدهور». أمّا في التوظيف الجزئيّ للتاريخ فإنّ أعمالا كثيرة قد درجت هذا المنحى ونجحت في إحداث التفاعل المُرغِّب بين الواقع التاريخي والتخييل الروائي.
ولا يُمكن أن نثير مسألة على صلة الرواية بالتاريخ دون أن نشير إلى إشكال حقيقيّ في تاريخ الأدب العربي الحديث، وهو منزلة جورجي زيدان (1861-1914) من تأصيل الرواية العربيّة، إذ يُقْصَى من الاعتبار والحُسبان ويحلّ محلّه صاحب الرواية الاجتماعيّة التي قُدّت على النمط الغربي محمد حسين هيكل في رواية زينب (1913) التي تُصنَّف على أنّها أوّل رواية عربيّة، ومختَصَر الإشكال هل أنّ الرواية التاريخيّة التي كتبها جورجي زيدان لا تدخل حرم الرواية؟ أو أنّ «إساءته» إلى التاريخ بتخييله أخرجه من دائرة الرواية وأدخله دائرة المؤرّخين المغالطين!؟
لا تترُك الرواية منبعا يُمكن أن تستقي منه أبوابا تُفَتِّحُ لها عوالم التخييل إلاّ أخذت عنه وأعادت تركيب خيوطه وحياكة أنسجته، وأخرجته شكلا جديدا لا يُوافق ما صدرت عنه وإن بقيت آثاره بيّنة. مخزن التاريخ مخزنٌ سراطٌ وصعبُ المراس، لأنّه يُمكن أن يسيطر بيسر على الكاتب فيسقط في الالتزام به، والحال أنّه يجب أن يُخيّله، أن يُدمجه في حكاية أكبر لا تقول الواقعَ تاريخا أو ذاتا أو مرجعا وإنّما تُمثّله وتجعل القارئ يتمثّله.