(1)

عشبة صغيرة، وخائفة، وطأتها الخلائق وهي تهرع مرعوبة إلى النصر، أو الهزيمة، أو الخلاص.

("أنا غضب الله على الأرض، وحيث يمر حصاني لا ينبت العشب"، جنكيز خان).

(2)

ترتطم الفلسفة الوجوديَّة (سارتر ماديَّا، وكيركاغارد ميتافيزيقيَّا، إلخ) بكل تاريخ الفلسفة الذي سبقها عبر مئات من السنين والعشرات من المدارس والنَّظريات. والفلسفة الوجوديَّة إنما تفعل ذلك بقدر كبير من الحذر في ما يخص المنهجيَّات الكلاسيكيَّة.

أما نحن فإننا نرتطم بالوجود في كل يوم، ولا تقدم لنا الفلسفة الوجودية سوى الكثير من العدم (وفيه).

والاهتمام بالفلسفة الوجوديَّة (أو عكس ذلك) لا يعفي من حقيقة معيشتها.

(3)

لا يكتب الكاتب الحقيقي لنفسه، ولا يكتب الكاتب الحقيقي للآخرين. ولو كتب الكاتب لأحدهما لتحققت "كارثة معقولة" فحسب ــ إلى حد ما على طريقة علاج الصداع الحاد بأقراص البندول.

بيد أن الكارثة العظمى تحدث حين لا يكتب الكاتب لنفسه، ولا يكتب للآخرين أيضا، هذا في الوقت الذي يحلم فيه النقاد بإمكانية الذهاب إلى السوق بما لديهم من عملة.

"فضربنا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عددا" ("الكهف").

(4)

الإنسان ليس روحا ولا جسدا. الإنسان اسم. الإنسان سُمُّ الاسم. الإنسان أفعى لا تراها كثيرا (تبصرها بعد فوات الأوان، فقط).

(5)

نشوة الانتصار أو التحقُّق باهتة، ومرارة الهزيمة أو الإخفاق علقميَّة إلى أبعد الحدود.

هكذا خيارك (الذي اختارك).

(6)

لا تشتمه. لا تقرأه. لا تدعه يُذَكِّرك أو يُسَمِّيك عند المُشَعوِذين، والأنبياء، والشُّهداء، والقدِّيسين، والصَّالحين. لا ترفسه حين يبرك على صدرك في الماء. لا تُقَبِّل يده بعد صلاة الجمعة. لا تسمح له أن يحضر عرسك أو جنازتك. لا تنظر إلى الطاؤوس الميِّت تحت إبطه. لا تخاله من ملفوظات البحر على ساحل مجز الصغرى. لا تكرهه. لا تتمعَّن في شرايينه. لا تفسِّر نومه الطويل في الصيف. لا تضع ذكرى محفوظة أو لطيفة على وجهه المجدور. لا تكن معه على صينيَّة الغداء أو في تعداد ثياب الأم. لا تشفق عليه. لا تسفهه أو تشعر بالحَرَج حين يتمخَّطُ أمام القوم من خاصرته. لا تضع تَمْرَةً على حنجرته. لا تخبره عن عدد الغربان التي قتَلتها ببندقية "الكسر". لا تلتمس له العذر والأقلام. لا تُنَغِّص عليه الشاي. لا تدفع له. لا تصادق أولاده البغيضين. لا تسامحه. لا تنساه. لا تَذَرْهُ.

(7)

إذا كان في مقدورك أن "تحكي" عن فيلمٍ ما؛ أن "تلخِّص" قصَّته؛ أن "توجز" حبكته؛ أن "تشرح" هواجسه، فتأكد أن ذلك فيلم لا يُعوَّل عليه.

وإذا أخفق الفيلم في أن يجعلك عاجزا عن النطق والحركة لوقت لا بأس به بعد مشاهدته الأولى فذلك فيلم لا يُعَوَّل عليه أيضا.

وإذا اعتقدت أن الكاميرا وجدت هناك (بالمصادفة) لتسجل حدثا وقع (بالصدفة) فأنت مُشاهد لا يعوَّل عليه. أما إذا ما افترضت أن الكاميرا لم توجد هناك (بالصدفة) ولا الحدث قد حدث (بالمصادفة كذلك)، فأنت مُشاهد لا يُعَوَّل عليه أيضا.

(8)

اشتقت إليكِ كأنني آخر الثياب، وأخاف من الشِّعر، وهذا الباب آخر الأبواب. أما التَّبَطُّل فهو مهارة الأشياء وإنجاز الأخشاب.

(9)

شلوًا شلوًا امنحهم ما تبقى من آخر سمائك، وامضِ وحيدا كعهدك في القليل الذي تبقى من الحلكة الغامرة، واثقا من أن تلك الليلة كانت لها آثار كارثيَّة على الجميع. وقُل لأبيك وأمك إن شجاعتك الوحيدة التي ليس عليهما الفخر بها هي أنك أصعب الضحايا.

(10)

يا هذا: النهار يهبُّ، والليل يشرق، والشِّعر ومضة، والغايات هي الوسائل (وليس العكس)، والنتائج تُحسبُ أو لا تُحسَب بالمقدِّمات.

(11)

لمن يبحثون عن تاريخ ثورة بلادهم، وتفاصيلها، وأسماء شهدائها، إلخ: نحن لسنا عاهرات كي تبحثوا عن أفضل العروض وأدنى الأسعار.

(12)

عندما كان صغيرا كان ينتظر الليل كي يحدِّق في القمر ويعدَّ النجوم حتى يأخذه النوم، فيعيد الكرَّة في الليلة التالية.

وحين يفيق في الصباح فإنه يبحث، بتحريضٍ من حلمٍ متكرر (بعض أطيافه الشاحبة تتكرر لغاية الآن)، عن أشعة ضوء أزرق وسواقي حليب تحت وسادته (ضمن هدايا أخرى لا يزال يبحث عنها تحت الوسادة).

عندما كان صغيرا كان الكون أكبر، والاحتمالات أكثر. أما الآن فوا أسفاه: لقد كبر وصغر الكون، ولم يعد يدري أي شيء عن حجم القمر.

(13)

سأتظاهر بالطيبة للمرة الأخيرة:

تعال

تعال أيها المسدَّس.

(14)

لا يحيا، ولا يموت، ولا يُبعث (هكذا هي مراسيم حيلته، واحتيالات الشمس، والقمر، والنجم الذي لا يزال ينتحب).

(15)

كلمة واحدة فقط في كل يومين أو ثلاثة.

لم، ولن، أسعى لأكثر من ذلك.

(16)

الترميم أصعب بكثير من البناء أو الهدم (ترى، أهذه بداهة يدركها المرء حين يلوح الموت)؟

(17)

أبوه: ماذا يفقد الإنسان بعد أن يموت مباشرة؟

هو: يكون قد فقد حياته طبعا.

أبوه: لا، حاول مرة أخرى.

هو: الذين يحبونه يفقدونه.

أبوه: لا، حاول مرة أخرى.

هو: هو أيضا سيفتقد من يحبونه.

أبوه: لا، حاول مرة أخرى.

هو: لا أعرف.

أبوه: إنه يفقد اسمه.

(أخيرا فهم الولد ذلك حين تبرأ من اسمه قبل أن يموت).

(18)

يريد أن ينتحر كما انتحرت "موشيت" (بطلة فيلم روبير بريسون الذي يحمل نفس العنوان). كلما يرى ذلك المشهد الرهيب من الفيلم اقتنع أكثر وأكثر بأن "موشيت" لم تنتحر، وإنما فرضت على نفسها تدريبا قاسيا، وعنيفا، وصادقا، ومريرا قبل أن تدحرج نفسها بإصرار شديد نحو الماء الأخير.

يا إلهي: كما ساعدت "موشيت"، أسعفه في مسعاه الرامي للوصول إلى الماء الأخير. يريد أن ينتحر كما انتحرت "موشيت" لأن الماء لم يشهد رجَّة في كل تاريخه كما حدث له في هذا الفيلم.