سبق لكارل ماركس وهو يحلّل النّظام الرأسمالي، في منتصف القرن التاسع عشر، والنّتائجَ الاقتصاديّة الهائلة التي ولّدتها الثّورة الصّناعيّة، أن لاحظ أن الثّروة -وهي من النّتائج تلك- أصبحت تتجسّد في البضاعة أو السّلعة لا في غيرها ممّا كان يرمزُ، سابقا، إليها (الثّروة) لذلك، بات عنده تراكُم المنتوجات والسّلع وتعاظُمُ وتائر إنتاجها العلامةَ الفارقة الدّالة على أنّ المجتمع الذي يُنتجها ينتج، من خلالها، الثّروة. وهو ما تردّد في أن يرى في بريطانيا القوة الاقتصاديّة الأعظم (حينها) التي اهتدت بصناعتها إلى إنتاج الثّروة؛ لأنّها بدَتْ أَفْلَح الرّأسماليّات الأوروبيّة جميعا في تحقيق أعلى معدّلات الإنتاج الصّناعيّ. ولعلّ التّقدّم الهائل لقوى الإنتاج فيها -في ذلك الإبّان- هو، بالذّات، ما أَوْحى إليه بأنّها ستكون البلد الرأسمالي الأول الذي سيشهد انتقالا نحو الاشتراكية.

اليوم، بعد قرنٍ ونصف القرن من مفهوم ماركس للثروة، ومن حمْله معناها على المنتوجات والسِّلع، يشهد العالم على تبدُّلٍ هائلٍ في الأوزان الاستراتيجيّة للقيم -الماديّة واللاّماديّة- التي تنتجها المنشآت والمؤسّسات. هكذا، ما عادتِ الثّروة مجسَّدةً في وفرة المنتوجات والسلع، ولا ظلّت هذه من معاييرها التي توزَن بها، وإنّما أصبحت الثّروةُ، اليوم، على الأقلّ منذ ثلث قرنٍ مضى، مجسّدةً في وفـرة المعلومات. لذلك ما عادتِ المصانعُ تحتلّ، في السّياق الكونيّ الحالي، ما كانت تحتلّه في حقبة الثّورتين الصّناعيتيْن الأولى والثّانيّة؛ فما إنْ بدأت الثّورة التّكنولوجيّة الثّالثة: ثورة المعلومات والرقمنة والإنترنت، حتّى عوّضَتِ الحواسيب المصانع في إنتاج هذه الثّروات الجديدة التي باتت في قلب عمليّات التّحوّل التي أفضت إلى ثورة تكنولوجيّة رابعة مع بدايات القرن الحالي.

ما من حاجة إلى القول إنّ ثورة المعلومات أتت تُعبّر عن جملةٍ مترابطة من التّحوّلات في ميادين المعرفة والتّكنولوجيا واستخداماتهما، بدأت منذ نهاية الحرب العالميّة الثّانية وانقسام العالم إلى معسكريْن، وما ترافق مع ذلك من تسابقٍ صناعيّ وعلميّ على السّيطرة الكونيّة؛ السّيطرة التي استَدْعَتْ حاجةً جديدة من حاجاتها هي: حسن معرفة أدقّ التّفاصيل عن الخصم وقواهُ وموارده، لكشْف مَواطن قوّته وضعفه. وما كان لضغطِ هذه الحاجة على الدّول الكبرى سوى رفْع درجة التّنافس في هذين الميدانيْن (= المعرفي والتّكنولوجيّ) وتعظيمُ الإنفاق عليهما، ومعهما استدخالُ برامج الأمن والاستخبار في جملة عُـدّةِ القوّة التي تَعْتَازُها تلك الدّول مثل الجيوش والأسلحة والأساطيل.

ليس صدفةً، إذن، أنّ أضخم أجهزة الأمن والاستخبارات في العالم نشأ في هذه الفترة الفاصلة بين النّصف الثّاني من الأربعينيّات والنّصف الأوّل من الخمسينيّات (حيث تأسّست «وكالة المخابرات المركزيّة الأمريكيّة» في عام 1947، و«لجنة أمن الدّولة» السّوفييتية في عام 1954)؛ أي في لحظة الاندفاعة الأولى للاستقطاب الدّوليّ بين العظميَيْن ومعسكريْهما، وفي عزِّ سعْي الدّولتيْن إلى تكوين أدقِّ صورة عن بعضهما وعن خفايا موارد القوّة لديهما، ولدى حلفاء كلٍّ منهما. ومن حينها باتت المعلومات طِلْبَةً لدى كلّ قوّةٍ في العالم المعاصر، وميدانًا لتنافسٍ محمومٍ لا يَقِـلُّ وطيسُه عن المواجهات العسكرية التي كانت تجري، حينها، بالوكالة ومن طريق قـوىً من معسكر الجنوب محسوبةٍ على إحدى قوتيْ التّـقاطُب الدّوليّ المنخرطتين في حربٍ باردة.

ولقد كانت الجيوش وأجهزة الاستخبارات والأمن القوميّ هي من شَرَع، ومنذ وقتٍ مبكّر، في إنجاز دراسات علميّة في ميدان المعلومات قبل أن تلتحق بها الجامعات والمؤسّسات المدنيّة، الاقتصاديّة والعلميّة والتّجاريّة والاجتماعيّة... إلخ، كما في تصميم -ثمّ تصنيع- أجهزة خاصّة باستخدامها. آيُ ذلك أنّ أولى أجهزة الكومپيوتر عُرِفت في البيئات الاستخباريّة والأمنية منذ خمسينيّات القرن الماضي، أي عقودًا قبل بدء استخداماتها المدنيّة في نهاية ثمانينيّات القرن عينه. ومعنى ذلك أنّ شروط الثّورة التّكنولوجيّة الثّالثة كانت قد بدأت تختمر ثمّ تنضج في تلك البيئات قبل القطاعات المدنيّة، وهذا عيْنُ ما حَصَل في السّابق؛ حيث بدأتْ عمليّاتُ تصنيع المَرْكبات العسكرية واستخدامها، مثلًا، قبل التّوسّع في صناعة السّيارات والمَرْكبات المدنيّة، مثلما بدأ الطّيران الحربيّ قبل الطّيران المدنيّ، والصّواريخ البالستيـة الحربيّة قبل الصّواريخ الحاملة لـِ «كبسولات» روّاد الفضاء أو للأقمار الصّناعيّـة، هذا فضلًا عن تطوير أنظمةٍ صحيّة (أدوية، عمليّات جراحيّة...) في الميدان العسكريّ، وتطبيقها فيه قبل نقلها إلى مجالات الاستخدامات المدنيّة.

لم تكن قواعد الحرب الباردة تسمح بمواجهةٍ عسكريّة بين المعسكريْن، لأنّها ستكون نوويّة إفنائيّة، ولأنّ ساحتَها الرّئيس ستكون أوروبا. كان لا بدّ من تنفيس الاحتقان في ساحات أخرى مستعارة (بلدان الجنوب) لكلٍّ من المعسكريْن حلفاءُ له فيها. لا بأس من حروبٍ صغرى هناك تُعَـوِّض عن الحرب الكبرى الممتنعة. ولكن، في الوقت عينِه، وبعيدًا من المعارك المسلّحة، كانت تجري حربٌ من نوع آخر، هي حرب المعلومات. ليست المعارك التي نشبت، لعقودٍ، بين الجواسيس من هذا الجانب أو ذاك (حروب التّجسُّس)، سوى شكل من أشكال حرب المعلومات تلك. وهي ما كانت لِتَقِلّ فتكًا وأثرًا عن أيّ حربٍ عسكريّة؛ لأنّها تُحْدِث الاختراقات والثّغرات في صفوف الخصم وتُضَلِّله بزائف المعلومات، وتُوقِعُه في الارتباك... ربّما كما لا تَـقْوَى حربٌ عسكريّةٌ على أن تفعل. وهي إذْ أثبتَتْ نجاعتَها في إلحاق الضّرر بمصالح مَن تقع عليه، تعاظَمَتِ الحاجة إليها، كسلاحٍ، ليس في الأنشطة ذات الطّابع الدّفاعيّ -الاستخباريّ والأمنيّ- فقط، بل حتّى في مجال التّنافس العلميّ والاقتصاديّ والتجاري والتكنولوجي المحاط، عادةً، بالسّريّة بحيث يحتاج إلى اختراق؛ وهذا عينُ ما سيُشْرَع في استخدامه من قِـبَل المختبرات العلمية، والشّركات الصّناعيّة الكبرى منذ منتصف القرن الماضي.

تخطو حرب المعلومات، اليوم، خطوات غير مسبوقة في هذه الحقبة الجديدة من ثورة المعلومات نفسها. القدرة على الوصول إلى المعلومات، واختراق أنظمة أمنها، والتّلاعب بها، وتعطيلها، وتضليل نظامها... هي، اليوم، عشراتُ أضعافِ ما كانت عليه قبل ثلاثين عامًا لسببٍ هو هذه الثّورة، بالذّات، الجاريةُ في الميدان الرّقمي. المعلومات اليوم هي السّلعةُ الاستراتيجيّة الأغلى في العالم التي تتفرّغ لها أجهزةٌ كبرى (الأمن القوميّ، الدّفاع، الاستخبارات...)، بمساندة شركات خاصّة ومنصّات للتّواصُل الاجتماعيّ مشدودة، بألف خيطٍ، إلى مراكز القرار الأمنيّ في الدّول الكبرى. وها هي جيوش إلكترونيّة -رسميّة وخاصّة- تُجَرَّد لأداء مهمّات من طبيعة أمنيّة صرف: الغارات اليوميّة المتبادلة على أنظمة المعلومات، والمحاولات الدّائبة لتعطيلها، خاصّةً في القطاعات الحسّاسة مثل الطّاقة، والدّفاع، والمفاعلات النّوويّة. وكم من حروبٍ، اليوم، تنخرط فيها قوىً مثل الولايات المتّحدة، والصّين، وروسيا، وإيران، وإسرائيل... تدور على ساحة المعلومات، وتُنجز من المهمّات، أحيانًا، ما يُعـفي الجيوش من القيام بها لارتفاع كُلفة ذلك عليها.