حين ذهب قناص الوعول إلى الجبل ليصطاد، شاهد من مكمنه فريسته، ولم يكن صيد الوعول ممنوعا، فالحكاية التي سمعتها من الإعلامي سالم السعدي، جرت خلال عقد الستينيّات، وقبل أن يسدّد اطلاقته التي تمكّنه من الوعل وتجلب له المال الوفير الذي سيغطي تكاليف سفره، تناهى إلى مسامعه صوت امرأة تغني من فنون الشرح المنتشرة في الجبال، تتحدث تلك الأغنية التي كتب كلماتها شاب في العزل بعد إصابته بالجدري، وقد بعثها لأمّه يخبرها بحاله:

الا يالله ياعالم بحالي

وياعالم باسراري خفية

الا ياطير ياقاصد بلادي

وسلم لي على ذيك المهية

سلام الحب من ضامر فؤادي

تراني اليوم صابتني بليه

نزل هالرب حمى في برادي

وصبح الحب باثر في يديه

فخلب الصوت لبّه، واتجهت مشاعره ناحية الصوت ولم يصوّب عليه، لأن الصوت أثار شجونه، فخرج من مكمنه وترك الوعل والقنص.

تلك واحدة من الحكايات، وفي جعبة الفنون الشعبية الكثير، كون الفنون الشعبية ارتبطت بحياة الإنسان، والمجتمعات البشرية ومنها نبعت، وإذا كانت فنون الجبال لا تصاحبها أيّ آلة موسيقية، فهناك فنون شعبية تختلط فيها الإيقاعات والكلمات والحركات الجسدية الجماعية، كما رأينا في (مهرجان الموسيقى الشعبية) الذي أقامته دار الأوبرا السلطانية مسقط كالشلة أو العرضة، وفن الرزيف الذي تشتهر به محافظة مسندم، وفي هذا الفن يحضر الشعر ومهارات الجسد في الرقص بالسيوف وعصي الخيزران والبنادق، ومن أجمل الفنون التي سمعتها خلال زيارة قمت بها لمحافظة مسندم فن الندبة الذي تلازمه عصا (الجرز) ذات المقبض المعدني المعقوف، على هيئة تشبه رأس الفأس، وهي مرتبطة بتراث المنطقة، فبعد أن انتهينا من تناول وجبة العشاء في بيت أحد الأصدقاء مع عدد من أبناء المنطقة، عبّر من رافقنا من الضيوف للمضيفين عن شكرهم لكرم الضيافة بإطلاق أحدهم أصوات عالية شاركه بها البقية وعلمنا أن ذلك الصوت جاء من باب التحية والشكر من الضيف للمضيف، وبهذا تدخل الفنون في الحياة الاجتماعية لتكون جزءا من عادات المجتمع وطقوسه، لذا فهي حاضرة في الأعياد والأعراس والمناسبات، كما تعدّ من الفنون التي تلازم الحروب كونها تبث روح الحماس في النفوس، وكنت أظن أن الأصوات التي تطلق في (الندبة) هي مجرد حروف لا تنطوي على معان، لكنني علمت حين تصفّحت دليل المهرجان، أن تكرار (هو هو) هو اختصار لـ(اللهُ اللهُ) وحصل مدّ في الضمّة لتصبح (واوا) فصارت (اللهو اللهو) ثم اختصرت إلى (هو هو) لسهولة النطق والاتساق مع خفة الحركة المصاحبة، حيث ينطق الجسد بأبهى تعبيراته، وتلتقي الثقافات، وتنصهر ببعضها، وقد جسّدت اللوحة الختامية للمهرجان الذي أقيم في ميدان دار الفنون الموسيقية، حين وقفت الفرق التي قدّمت العرض جنبا إلى جنب: فرقة كمزار للفنون الشعبية العمانية والفرقة الوطنية للفنون الشعبية الرومانية وفرقة بيانيهان الوطنية الفلبينية وفرقة فلور ريبيرينيا البرازيلية، وكلّ فرقة عكست ثقافتها المحلية المتجسّدة في أزيائها، وإيقاعاتها، وآلاتها الموسيقيّة، وطوال الفقرة لم يتقاطع العزف، ولم يختل الإيقاع، بل جاء مكمّلا للآخر، لتلتقي ثقافات العالم في مسقط، في معزوفة حب، وجمال، قاسمها المشترك الأعظم موسيقى الشعوب، وكل فرقة تقوم بنشر ثقافة بلدها، والتعريف بها، ورأينا في تنوعها ثراء، فعرض فرقة كمزار التي قدمت من مسندم قدمت فقرات حملت طابعا وطنيا، وعكست القيم وروح التآزر العمانية، أما الموسيقى الشعبية الرومانية، فقد ارتبطت بالاحتفالات الدينية والحكايات الخرافية، والرموز السحرية، التي تعيد المتلقي إلى ماضي البشرية، وبدايات تشكل الوعي الإنساني، بينما ترتبط الرقصات التي قدمتها فرقة بيانيهان الفلبينية بالعمل، والمجتمع، والريف على وجه الخصوص، جاءت سريعة ورشيقة الحركة، تضج بالفرح، والبهجة، أما فنون فرقة فلور ريبيرينا البرازيلية، فقد أعادت إنتاج الطقوس القديمة لتنسجم مع الحياة الهانئة، المتّسقة مع جمال الطبيعة، لذا جاء الإيقاع خاطفا وسريعا، عامرا بالبهجة، وهذه من الميزات المشتركة في فنون هي مرايا عاكسة لثقافات العالم.