هل سبق وأن فكّرنا في الملابس! تلك التي تُرافقنا منذ لحظة الميلاد وحتى الموت. الملابس التي تُحول الناس من لحم ودم إلى سادة أو خدم في قرون مضت. الملابس التي كانت تُشكل انتماءنا لطبقة ما، وبالتالي الأفكار التي يمكن أن تُسقط علينا. الملابس باعتبارها حاملة العادات والتقاليد والقيم والأديان!

استعدتُ تلك العبارة المدونة في كتب الأولين: "حكايتي عبرة، حُق لها أن تُكتب بالإبر على مآقِ البصر"، بينما أقرأ الرواية الإيطالية: "حلم ماكينة الخياطة" للكاتبة: بيانكا بيتسورنو، دار المتوسط، ترجمة وفاء عبدالرؤوف البيه، وكان اللافت فيها أن يتقاطع فعل الخياطة مع فعل الكتابة في تآلف آسر.

نمضي في مغامرة برفقة خيّاطة تعود إلى القرن التاسع عشر، ورغم فقرها الشديد، إلا أنّ فعل الخياطة منحها القدرة على دخول منازل من طبقات اجتماعية مختلفة. من الفقراء جدا إلى المتواضعين إلى الطبقات الأرستقراطية.

فعل الخياطة الصامت كشف أسرار البيوت المغلقة، التي لا يُعرف عنها إلا الثراء. حيث تدخل الخيّاطة المنازل من الباب المخصص للخادمات، وقد تتعرض للازدراء أو محاولة الاعتداء الجسدي أو تلفيق تهمة ما، إلا أنها تحاول جاهدة إخفاء أي انفعال يودي بسمعتها وزبائنها.

في هذه الرواية تمضي الخياطة والكتابة في خطين متوازيين، فالذي جعل "خيّاطتنا" المتواضعة مختلفة عن أبناء جلدتها هو دأبها على تعلم الكتابة والصبر على القراءة، وهما تحديدا ما جعلاها تُفكر بالحياة وذاتها والعالم من حولها خارج المألوف. والمفارقة أنّ فعل الخياطة وفر لها في تلك الأوقات العصيبة، الحماية من الجوع والبرد ومن التورط في علاقات عابرة.

المعلمة التي ارتدت ملابس ملائمة لركوب الدراجة كانت محل انتقاد شديد، وعندما حاولت خيّاطتنا المسكينة أن تلبس ملابس زبونتها الثرية بعد أن تهالكت، لم يقبل المجتمع ارتداءها ما لا يليق بطبقتها. وثمّة أقمشة شكلت وصمة عار في الذهنية الذكورية لم تكن النساء الغافلات يعرفن عنها شيئا!

تُرافق حياكة الأقمشة الدقة والتمعن لتحويلها لشيء جديد في كل مرة، الأمر الذي يجعلها تشبه رحلة الكلمات وهي تتحول في كل مرة لشيء جديد! ومن جهة أخرى فإنّ الثوب ما إن يتهالك، حتى يُفكك ويُعاد استخدامه في هيئات جديدة، تماما كما قد نفعل بالكلمات التي عبرت بيننا لآلاف القرون.

بإبر وخيوط وحشوات وأشرطة، وموديلات تستوحى من مجلات باريسية متخصصة. تمضي خيّاطتنا رحلتها بين أحياء يولدون وآخرون يرحلون، فقد حاكت للماركيزة "استر" ما إن علمت بنبأ حملها، وبدأت تحضيرات جهاز الكائن المنتظر لمدة سبعة أشهر، كما شاركت في تحضير الشريط الحريري على بساط الطاغية "دون أربانوا" لحظة إعلان موته.

تُضفي هذه الرواية وهجا جديدا على فعل الخياطة وبُعدا حميميا، فيستيقظ حنين غامض إلى خياطات قديمات عبرن حياتنا، قضين سحابة نهارهن، مُنكبات على خيوط وإبر. كان لأمّي يوما ما ماكينة خياطة، وكان لدى كل أمّ مثلها في حارتنا والحارات المجاورة. حيث تُضيق الثياب وتُقصر وفق الحاجة. شاهدتُ جداتنا يحكن السراويل بغرز صعبة، كما قد يفعلن مع نجوم "الكميم". لبسنا مما تحيكه الأمهات والجدّات قبل أن نذهب جميعا لمحلات الخياطة أو نشتري ثيابا جاهزة. ثيابا ميتة ومُعدة للجميع دون أن تخص أحدنا. ولستُ على يقين إن كانت الثياب المتشابهة الآن والتقليد الذي طال كل شيء، قد أطفأ شيئا فينا أو إن كان قد ساهم في انزياح الشبح الطبقي!

ولكني سأحتفظ طويلا بشجاعة هذه الخيّاطة وهي تقول: "ليحدث ما يحدث. نحن أوراق جافّة في مهب الريح".