من الأرض الفلسطينية المحتلة إلى عُمان، حلَّت المخرجة والصحفية الفلسطينية مروة جبارة طيبة ضيفة على مسقط، المدينة التي دخلتها منتصف الأسبوع الماضي لأول مرة في حياتها، لتضيف خِتما عربيا جديدا إلى جواز سفرها وفي موضع ما من خارطة قلبها الذي لم تنجح محاولات الاحتلال في اعتقاله أو تسييجه منذ أن وُلدتْ ونشأتْ كطفلة عربية داخل ما يُعرف بالخط الأخضر. وقد جاءت زيارتها إلى مسقط تلبية لدعوة الجمعية العمانية للسينما والمسرح للمشاركة في الفعالية السينمائية التي تنظمها الجمعية بالتعاون مع السفارة الفلسطينية في عُمان، تحت عنوان "أيام سينمائية فلسطينية"، الفعالية التي اختتمت أمسياتها الثلاث، مساء الأربعاء الماضي، بحوار مع المخرجة بعد عرض فيلمها "لقمة عيش" - من إنتاج الجزيرة الوثائقية (2021). ومن جهة شخصية فقد أدركتُ بعد لقائي بها أنني كنت محظوظا لتخلُّف مدير الجلسة المفترض عن الحضور لأسباب طارئة، الأمر الذي دفع برئيس الجمعية لمهاتفتي قُبيل ساعات من اللقاء لأكون محاورها البديل، فقبلت، وكان اللقاء والحوار في موعده.
خلال السنوات التي شهدت فيها الأرض المحتلة وهج الانتفاضة الأولى وتواتر أحداثها بعد اندلاعها عام 1987، كانت الصحفية الشابة التي تخرجت لتوها بدبلوم الإذاعة والتلفزيون قد بدأت بالانخراط بشكل جاد وسريع في العمل كصحفية لدى أكثر من صحيفة في الداخل كصحيفة يديعوت أحرونوت (آخر الأخبار) الإسرائيلية، منتبهة -في غمار تحدياتها المهنية- لأهمية لحظتها الشخصية الفارقة في سياق تاريخها الوطني الذي بدا واضحاً أن الانتفاضة ستقوده لمسار جديد، قبل أن تنتقل مروة خلال التسعينيات للعمل كمخرجة تلفزيونية لدى عدد من وسائل الإعلام الأجنبية، كهيئة الإذاعة الكندية (CBC) و CTV و CNN، التي بدأت طواقمها باحتلال البنايات المحيطة بـ"المقاطعة"، آخر حصون الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، في وقت كان فيه العالم أجمع يراقب بصمت مُخزٍ تطور الدراما التاريخية التي تنقلها الكاميرات الغربية والعربية المسلطة على مدار الساعة نحو مقر السلطة الفلسطينية المحاصر بالجرافات الإسرائيلية.
في مسقط، كان حديثي الشخصي الطويل مع مروة جبارة أشبه بالمفاوضات على طاولة مقهى، أو بلعبة شد الحبل على مائدة الكلام، بين مكانين وتاريخين مختلفين، بين عُمان وفلسطين: تسألني عن تاريخ هجرات العمانيين وتجربتهم في الساحل الإفريقي، فأحيل إليها السؤال عن تاريخ عائلتها قبل النكبة وبعدها. تسألني عن حكاية أمجادنا البحرية المدفونة في رمال الشطآن وعن الرياح الموسمية والخريف الظفاري في الجنوب، فأقطع إجابتي فجأة لأسألها عن أسرار محادثات أوسلو ولقائها مع محمود درويش ومروان البرغوثي، وبالتأكيد مع الختيار العائد إلى أرض ميعاده بعد اتفاقية أوسلو، ثم المحاصر في شبر منها.
تجربة مروة جبارة في إخراج الأفلام الوثائقية، والتي سرعان ما ازدهرت كماً ونوعاً في الجزيرة، تضيء زوايا جديدة لم تصلها الكاميرا بعد في الحكاية الفلسطينية. فيلمها الوثائقي لا يقف عند حدود التوثيق كوثيقة تاريخية فقط، بل يمكن وصفه بالمرافعة القضائية في محكمة الضمير العالمي ضد انتهاكات الاحتلال وجرائمه التي تهتك المحرمات الدولية في جسد الإنسان الفلسطيني ومختلف نواحي حياته العامة وحقوقه المدنية، كالحق في العمل وفي السفر والرعاية الصحية، بل تتجاوز الإنسان الفلسطيني إلى الضلوع في جرائم إبادة جماعية في أنحاء مختلفة من العالم. هذا ما يكشف عنه -على سبيل المثال- عملها الخطير الذي أخرجته لصالح الجزيرة قبل خمس سنوات تحت عنوان "جُرِّب في ساحة المعركة" والذي يسلط الضوء على سوق السلاح كما تروج له شركات إسرائيلية بوصفه مجرباً في ميدان المعركة، في غزة وجنوب لبنان. كما يفضح هذا الفيلم البصمات الإسرائيلية على السلاح الذي ذهب ضحيته 800 ألف إنسانٍ من شعب التونسي خلال مائة يوم فقط من الحرب الأهلية في رواندا، ويميط اللثام عن وثائق تكشف تورط المؤسسة العسكرية في إسرائيل من خلال دعمها العسكري للصرب خلال حملتهم التطهيرية ضد مسلمي البوسنة في تسعينيات القرن الماضي.
وتنحو آخر أعمال مروة جبارة الوثائقية نحو التعامل مع المعاناة الفلسطينية كقصص شخصية تحدث كل يوم لأفراد مجتمعين ومفترقين من مختلف مواقع وأدوار الحياة الفلسطينية، أمهات، عمالاً، أسرى... بعيداً عن العناوين والشعارات العامة التي آن لنا كمتلقين أن نحرر الشخصية الفلسطينية من إطارها. هذا ما نلمسه بوضوح في قصة فستان زفاف فلسطيني يسردها فيلم "فستان العروس" الذي أنتجته الجزيرة عام 2019، والذي يمثل نقلة نوعية في تجربة المخرجة.
أعمال مروة جبارة المتاحة على صفحة الجزيرة والجزيرة الوثائقية في يوتيوب، إلى جانب كم كبير من أعمال غيرها من المخرجين عن الحالة الفلسطينية، يجب أن تنبهنا كذلك إلى الدور السلبي الذي يلعبه كسل المتلقي في تثبيط هذه الحالة من العمل الجاد والدؤوب في صناعة المحتوى الإعلامي، خاصة مع تكرار الادعاء المستمر بغياب الأعمال الوثائقية التي تتحدث عن فلسطين دون أدنى اجتهاد أو بحث. ويبقى أن الحديث مع مروة عن الإنتاج السينمائي الوثائقي يتبعه سؤال محرج عن هامشية هذا الفن الضروري في الصناعة الثقافية في عُمان، الأمر الذي بات يستدعي حلقات عمل جادة وتحالفات فنية مع تجارب عربية رائدة في هذا المجال.
خلال السنوات التي شهدت فيها الأرض المحتلة وهج الانتفاضة الأولى وتواتر أحداثها بعد اندلاعها عام 1987، كانت الصحفية الشابة التي تخرجت لتوها بدبلوم الإذاعة والتلفزيون قد بدأت بالانخراط بشكل جاد وسريع في العمل كصحفية لدى أكثر من صحيفة في الداخل كصحيفة يديعوت أحرونوت (آخر الأخبار) الإسرائيلية، منتبهة -في غمار تحدياتها المهنية- لأهمية لحظتها الشخصية الفارقة في سياق تاريخها الوطني الذي بدا واضحاً أن الانتفاضة ستقوده لمسار جديد، قبل أن تنتقل مروة خلال التسعينيات للعمل كمخرجة تلفزيونية لدى عدد من وسائل الإعلام الأجنبية، كهيئة الإذاعة الكندية (CBC) و CTV و CNN، التي بدأت طواقمها باحتلال البنايات المحيطة بـ"المقاطعة"، آخر حصون الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، في وقت كان فيه العالم أجمع يراقب بصمت مُخزٍ تطور الدراما التاريخية التي تنقلها الكاميرات الغربية والعربية المسلطة على مدار الساعة نحو مقر السلطة الفلسطينية المحاصر بالجرافات الإسرائيلية.
في مسقط، كان حديثي الشخصي الطويل مع مروة جبارة أشبه بالمفاوضات على طاولة مقهى، أو بلعبة شد الحبل على مائدة الكلام، بين مكانين وتاريخين مختلفين، بين عُمان وفلسطين: تسألني عن تاريخ هجرات العمانيين وتجربتهم في الساحل الإفريقي، فأحيل إليها السؤال عن تاريخ عائلتها قبل النكبة وبعدها. تسألني عن حكاية أمجادنا البحرية المدفونة في رمال الشطآن وعن الرياح الموسمية والخريف الظفاري في الجنوب، فأقطع إجابتي فجأة لأسألها عن أسرار محادثات أوسلو ولقائها مع محمود درويش ومروان البرغوثي، وبالتأكيد مع الختيار العائد إلى أرض ميعاده بعد اتفاقية أوسلو، ثم المحاصر في شبر منها.
تجربة مروة جبارة في إخراج الأفلام الوثائقية، والتي سرعان ما ازدهرت كماً ونوعاً في الجزيرة، تضيء زوايا جديدة لم تصلها الكاميرا بعد في الحكاية الفلسطينية. فيلمها الوثائقي لا يقف عند حدود التوثيق كوثيقة تاريخية فقط، بل يمكن وصفه بالمرافعة القضائية في محكمة الضمير العالمي ضد انتهاكات الاحتلال وجرائمه التي تهتك المحرمات الدولية في جسد الإنسان الفلسطيني ومختلف نواحي حياته العامة وحقوقه المدنية، كالحق في العمل وفي السفر والرعاية الصحية، بل تتجاوز الإنسان الفلسطيني إلى الضلوع في جرائم إبادة جماعية في أنحاء مختلفة من العالم. هذا ما يكشف عنه -على سبيل المثال- عملها الخطير الذي أخرجته لصالح الجزيرة قبل خمس سنوات تحت عنوان "جُرِّب في ساحة المعركة" والذي يسلط الضوء على سوق السلاح كما تروج له شركات إسرائيلية بوصفه مجرباً في ميدان المعركة، في غزة وجنوب لبنان. كما يفضح هذا الفيلم البصمات الإسرائيلية على السلاح الذي ذهب ضحيته 800 ألف إنسانٍ من شعب التونسي خلال مائة يوم فقط من الحرب الأهلية في رواندا، ويميط اللثام عن وثائق تكشف تورط المؤسسة العسكرية في إسرائيل من خلال دعمها العسكري للصرب خلال حملتهم التطهيرية ضد مسلمي البوسنة في تسعينيات القرن الماضي.
وتنحو آخر أعمال مروة جبارة الوثائقية نحو التعامل مع المعاناة الفلسطينية كقصص شخصية تحدث كل يوم لأفراد مجتمعين ومفترقين من مختلف مواقع وأدوار الحياة الفلسطينية، أمهات، عمالاً، أسرى... بعيداً عن العناوين والشعارات العامة التي آن لنا كمتلقين أن نحرر الشخصية الفلسطينية من إطارها. هذا ما نلمسه بوضوح في قصة فستان زفاف فلسطيني يسردها فيلم "فستان العروس" الذي أنتجته الجزيرة عام 2019، والذي يمثل نقلة نوعية في تجربة المخرجة.
أعمال مروة جبارة المتاحة على صفحة الجزيرة والجزيرة الوثائقية في يوتيوب، إلى جانب كم كبير من أعمال غيرها من المخرجين عن الحالة الفلسطينية، يجب أن تنبهنا كذلك إلى الدور السلبي الذي يلعبه كسل المتلقي في تثبيط هذه الحالة من العمل الجاد والدؤوب في صناعة المحتوى الإعلامي، خاصة مع تكرار الادعاء المستمر بغياب الأعمال الوثائقية التي تتحدث عن فلسطين دون أدنى اجتهاد أو بحث. ويبقى أن الحديث مع مروة عن الإنتاج السينمائي الوثائقي يتبعه سؤال محرج عن هامشية هذا الفن الضروري في الصناعة الثقافية في عُمان، الأمر الذي بات يستدعي حلقات عمل جادة وتحالفات فنية مع تجارب عربية رائدة في هذا المجال.