عادةً ما لا يقع التمييز، في الخطاب السياسي الدارج، بين الدولة والسلطة فيجري الحديث عنهما وكأنهما مترادفتان، والحال إنهما مفهومان يحيلان إلى نصابين اجتماعيين مختلفين لا تجوز المطابقة بينهما على أي وجه. قد يـفهم -إلى حد ما- أن يحصل مثل ذلك الخلط في الكلام الإعلامي، أو في الخطاب السياسي الجماهيري، أو في الأدبيات السياسية الحركية...؛ فهذه جميعها مجالات تنعدم فيها الدقـة؛ لأنها لا تحترم اللغة النظرية المفهومية، بل إن مثل ذلك الاحترام ليس مطلوبا منها لكونها ليست البيئات المناسبة لتلك اللغة. غير أن المشكلة تعظم حين يصاب بهذا الخلط الميدان الجامعي والأكاديمي ومساحة هائلة من التأليف الفكري في السياسة: في الدولة والسلطة والنظام السياسي والمؤسسات. والمؤسف أن المعظم مما ينشر من تأليف فكري أو جامعي في هذا الباب مزدحم بأنواع مختلفة من ذلك الخلط المفهومي. ولا يتعلق الأمر في هذه الملاحظة بحالات فكرية أو جغرافية عربية بعينها، وإنما هو يوشك على أن يكون ظاهرة عامة شاملة تيارات الفكر العربي برمته!
علينا، إذن، أن لا نعير اهتماما للكثير مما يقال عن «أزمة الدولة» في هذا البلد أو ذاك، في الوطن العربي أو خارجه، إن كان يراد بالتعبير هذا الإشارة إلى حال ما من التأزم السياسي تجعل الحياة العامة في بلد ما أقل انسيابية، وأشد تكدراً وأدعى إلى توليد حالات من الاحتقان الاجتماعي والسياسي. الأزمة بهذا المعنى الذي وصفنا - وهو الغـالب على وصفها عـند من يحسبـونها أزمة دولة - أزمة سلطة أو نظام سياسي لا أزمة دولة؛ أعني أزمةً من نوع تلك التي قد تعيشها سلطة سياسية ما، فتلقي بنتائجها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتستنفر حالات من الاحتجاج الاجتماعي أو من التدارك التصحيحي (من قبل مراكز سيادية في الدولة). ولقد شهدنا في الأعوام الأخيرة على حالات من أزمة السلطة هذه في بلدان عربية مثل لبنان- منذ خريف عام 2019- والسودان (= الشد والجذب بين النخب السياسية والنخب العسكرية) وتونس (في مرحلة ما قبل 25 يوليو 2021).
هذا نوع من الأزمات تشهد عليه سلطات وأنظمة سياسية عندنا وفي العالم؛ وهو من ثمرات التدافع السياسي والاجتماعي بين قوى المجتمع المختلفة، ونخبها السياسية على وجه التحديد. وهي ربما كانت نتيجة أزمة في العلاقة بين مكونات المجتمع الأهلية العميقة (الطوائف كما في حالة لبنان) وتعبيراتها السياسية. ولمثل أزمات السلطة هذه أن يجد له حلولا مختلفة تقطع الطريق على استفحالها، من قبيل تسوية متوافق عليها، أو انتخابات (برلمانية أو رئاسية)، أو توسعة نطاق المشاركة... إلخ، لكن هذه، في أحوالها كافـة، ليست أزمة دولة أو أزمةً في الدولة على ما يشاع على غير تدقيق.
أزمات الدولة من نوع مختلف عن الذي أومأنا إليه؛ لأنها لا تكون إلا في حالات بعينها الغالب عليها أنها استثنائية؛ من قبيل ابتلاع دولة لأراضي دولة أخرى وتدمير الأخيرة ومصادرة سيادتها فالقيام مقامها في إدارة البلاد المحتلة؛ أو من قبيل اندلاع حرب أهلية طاحنة تمزق النسيج المجتمعي، وتحدث الانقسام في أجهزة الدولة ومؤسساتها (الجيش، الأمن...)، وتعطل وظائفها أو تعجـزها عن القـيام بالحد الأدنى منها؛ أو من قـبيل تراكـم المشكلات إلى حيث بلـوغ لحظة الفـشل (= تصنيف الدول الفاشلة على سبيل المثال)، وهو الفشل الذي غالبا ما يتولد من تجربة مريرة من الحروب الأهلية، أو من تسلط نخب مافيوزية على مقاليد السلطة ومصادرتها سلطات الدولة. وربما لا يقاس عدد هذه الأزمات التي تستبد بالدولة بالأزمات التي تعصف بالسلطة، والتي تعانيها عشرات من الأنظمة السياسية في العالم.. وباستمرار، ولا تستثنى منها حتى الدول الكبرى.
يشبه الكلام على أزمة الدولة الكلام على «الصراع على الدولة» داخل مجتمع ما! هذا الكلام، أيضا، ينتمي إلى بدع الخطاب السياسي التي تطلق على غير بينة. مرةً أخرى يقع الاستبدال الاعتباطي فيصير ما هو من سـمةً السلطة سمةً للدولة، ويتحول الصراع على السلطة إلى «صراع على الدولة»، والحال إن الصراع على الدولة لا يكون إلا في حالة ارتفاع الدولة أو غيابها، وهي حالة الحرب الأهلية؛ حيث يسعى كل فريق فيها إلى حيازة الدولة -لا السلطة فحسب- أو، إن عجز عن ذلك، يسعى إلى إقامتها على جزء من ذلك البلد على نحو تكون فيه خاصة بعصبيته الأهلية أو بذلك القسم من المجتمع الذي يقع تحت سلطانه. ما دون هذه الحال -التي تنتمي إلى أزمة الدولة (وهي نادرة)- لا تعرف المجتمعات من صراع سياسي سوى الصراع على السلطة.
الدولة كيان مجرد متعال عن صراعات المجتمع؛ لأنها (= الدولة)، بكل بساطة، تعبير عن ذلك المجتمع وتمثيل له برمته، وليس لقسم منه دون آخر، كما هي حال السلطة. بعبارة أدق؛ الدولة هي الأمة والمجتمع منظمين، أي متجسدين في اجتماع سياسي. لذلك فالقاعدة (هي) أن تكون الدولة - بما هي مبدأ وحدة للمجتمع - محل إجماع من قوى المجتمع (والأمة) كافة لا محل نزاع؛ إذ النزاع على الدولة ليس شيئا آخر سوى الحرب الأهلية. وبيان العلاقة بين الأمرين على النحو التالي: إذا كانت الحرب الأهلية تندلع حين يفتقر مجتمع إلى مبدأ تماسكه الذي به يلتحم ويتوحـد، فما ذلك إلا لأن قوى هذا المجتمع تتنازع في ما بينها على ما يوحدها (= الدولة) فتدمـر المجتمع بتدميرها الدولة التي تؤسس وجوده ولحمته. وهكذا لا تكون الدولة فريقا في صراعات المجتمع إلا إذا حولتها قوى ذلك المجتمع إلى موضوع منازعة بينها فانقسمت أجهزة الدولة ومؤسساتها على نفسها، على مقاس انقسام المجتمع، وانخرطت في ذلك الصراع. وهذه، بلا زيادة ولا نقصان، هي حال الحرب الأهلية: الحال التي يندحر فيها كل شيء: الدولة، والمجتمع، والسلطة.
علينا، إذن، أن لا نعير اهتماما للكثير مما يقال عن «أزمة الدولة» في هذا البلد أو ذاك، في الوطن العربي أو خارجه، إن كان يراد بالتعبير هذا الإشارة إلى حال ما من التأزم السياسي تجعل الحياة العامة في بلد ما أقل انسيابية، وأشد تكدراً وأدعى إلى توليد حالات من الاحتقان الاجتماعي والسياسي. الأزمة بهذا المعنى الذي وصفنا - وهو الغـالب على وصفها عـند من يحسبـونها أزمة دولة - أزمة سلطة أو نظام سياسي لا أزمة دولة؛ أعني أزمةً من نوع تلك التي قد تعيشها سلطة سياسية ما، فتلقي بنتائجها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتستنفر حالات من الاحتجاج الاجتماعي أو من التدارك التصحيحي (من قبل مراكز سيادية في الدولة). ولقد شهدنا في الأعوام الأخيرة على حالات من أزمة السلطة هذه في بلدان عربية مثل لبنان- منذ خريف عام 2019- والسودان (= الشد والجذب بين النخب السياسية والنخب العسكرية) وتونس (في مرحلة ما قبل 25 يوليو 2021).
هذا نوع من الأزمات تشهد عليه سلطات وأنظمة سياسية عندنا وفي العالم؛ وهو من ثمرات التدافع السياسي والاجتماعي بين قوى المجتمع المختلفة، ونخبها السياسية على وجه التحديد. وهي ربما كانت نتيجة أزمة في العلاقة بين مكونات المجتمع الأهلية العميقة (الطوائف كما في حالة لبنان) وتعبيراتها السياسية. ولمثل أزمات السلطة هذه أن يجد له حلولا مختلفة تقطع الطريق على استفحالها، من قبيل تسوية متوافق عليها، أو انتخابات (برلمانية أو رئاسية)، أو توسعة نطاق المشاركة... إلخ، لكن هذه، في أحوالها كافـة، ليست أزمة دولة أو أزمةً في الدولة على ما يشاع على غير تدقيق.
أزمات الدولة من نوع مختلف عن الذي أومأنا إليه؛ لأنها لا تكون إلا في حالات بعينها الغالب عليها أنها استثنائية؛ من قبيل ابتلاع دولة لأراضي دولة أخرى وتدمير الأخيرة ومصادرة سيادتها فالقيام مقامها في إدارة البلاد المحتلة؛ أو من قبيل اندلاع حرب أهلية طاحنة تمزق النسيج المجتمعي، وتحدث الانقسام في أجهزة الدولة ومؤسساتها (الجيش، الأمن...)، وتعطل وظائفها أو تعجـزها عن القـيام بالحد الأدنى منها؛ أو من قـبيل تراكـم المشكلات إلى حيث بلـوغ لحظة الفـشل (= تصنيف الدول الفاشلة على سبيل المثال)، وهو الفشل الذي غالبا ما يتولد من تجربة مريرة من الحروب الأهلية، أو من تسلط نخب مافيوزية على مقاليد السلطة ومصادرتها سلطات الدولة. وربما لا يقاس عدد هذه الأزمات التي تستبد بالدولة بالأزمات التي تعصف بالسلطة، والتي تعانيها عشرات من الأنظمة السياسية في العالم.. وباستمرار، ولا تستثنى منها حتى الدول الكبرى.
يشبه الكلام على أزمة الدولة الكلام على «الصراع على الدولة» داخل مجتمع ما! هذا الكلام، أيضا، ينتمي إلى بدع الخطاب السياسي التي تطلق على غير بينة. مرةً أخرى يقع الاستبدال الاعتباطي فيصير ما هو من سـمةً السلطة سمةً للدولة، ويتحول الصراع على السلطة إلى «صراع على الدولة»، والحال إن الصراع على الدولة لا يكون إلا في حالة ارتفاع الدولة أو غيابها، وهي حالة الحرب الأهلية؛ حيث يسعى كل فريق فيها إلى حيازة الدولة -لا السلطة فحسب- أو، إن عجز عن ذلك، يسعى إلى إقامتها على جزء من ذلك البلد على نحو تكون فيه خاصة بعصبيته الأهلية أو بذلك القسم من المجتمع الذي يقع تحت سلطانه. ما دون هذه الحال -التي تنتمي إلى أزمة الدولة (وهي نادرة)- لا تعرف المجتمعات من صراع سياسي سوى الصراع على السلطة.
الدولة كيان مجرد متعال عن صراعات المجتمع؛ لأنها (= الدولة)، بكل بساطة، تعبير عن ذلك المجتمع وتمثيل له برمته، وليس لقسم منه دون آخر، كما هي حال السلطة. بعبارة أدق؛ الدولة هي الأمة والمجتمع منظمين، أي متجسدين في اجتماع سياسي. لذلك فالقاعدة (هي) أن تكون الدولة - بما هي مبدأ وحدة للمجتمع - محل إجماع من قوى المجتمع (والأمة) كافة لا محل نزاع؛ إذ النزاع على الدولة ليس شيئا آخر سوى الحرب الأهلية. وبيان العلاقة بين الأمرين على النحو التالي: إذا كانت الحرب الأهلية تندلع حين يفتقر مجتمع إلى مبدأ تماسكه الذي به يلتحم ويتوحـد، فما ذلك إلا لأن قوى هذا المجتمع تتنازع في ما بينها على ما يوحدها (= الدولة) فتدمـر المجتمع بتدميرها الدولة التي تؤسس وجوده ولحمته. وهكذا لا تكون الدولة فريقا في صراعات المجتمع إلا إذا حولتها قوى ذلك المجتمع إلى موضوع منازعة بينها فانقسمت أجهزة الدولة ومؤسساتها على نفسها، على مقاس انقسام المجتمع، وانخرطت في ذلك الصراع. وهذه، بلا زيادة ولا نقصان، هي حال الحرب الأهلية: الحال التي يندحر فيها كل شيء: الدولة، والمجتمع، والسلطة.