«الحكمة [في مجال العدل] تقتضي شمول الغفلة. بل لو أكل الناس الحلال أربعين يوما لَخَرِبت الدنيا لزهدهم فيها، وبطُلت الأسواق والمعايش»
الغزالي، إحياء علوم الدين.
مقدمة:
هل هناك عدالة واحدة أم عدة عدالات «كالعدل الطبيعي» الفطري الذي يعم كل الجماعات البشرية، و«العدل الثقافي» و«عدل الشرائع والسنن»، و«العدل السياسي»؟ وفي المقابل هل هناك ظلم واحد أم عدة أنواع، كما يفعل أصحاب الفروق اللغوية الذين يميزون لغويا بين الظلم الذي هو «نقصان الحق، والجوْر [الذي هو] العدول عن الحق»، فيكون «نقيض الظلم الإنصاف، وهو إعطاء الحق على التمام ... ونقيض الجوْر العدل، وهو العدول بالفعل إلى الحق»؟ ثم هل هناك معيار واحد لهذه الأنواع المختلفة من العدل والظلم أم عدة مقاييس؟ وهل العقل الذي يقف وراء تعدد العدل والظلم واحد أم متعدد؟
انتماء مسألة العدالة إلى مجالي الفلسفة السياسية والفلسفة الأخلاقية جعلها ترتبط بالعقل العملي أكثر من ارتباطها بالعقل النظري، مما أتاح لها أن تتعدد وتتطور، ولا أدل على ذلك أن أهم تيار في الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، وهو تيار «العَقد الاجتماعي» (الذي افتتح التفكير فيه توماس هوبز، وتبعه عدد من الفلاسفة كجون لوك، وجان-جاك روسو، وإمانويل كانط، وجون راولز، وغيرهم)، بَنَى تصوره للعدالة على أساس إبرام عقد «اجتماعي» قائم على حوار عقلاني وديمقراطي حر قابل للتعديل والتحسين، وليس على مبدأ عقدي أو ميتافيزيقي غير قابل للنقاش، وهو ما يفسر ازدهار الكتابة عنها في الأزمنة الحديثة والمعاصرة.
غير أن المفكر الاقتصادي الهندي أمارتيا سن صاحب كتاب فكرة العدالة، قرأ نظرية راولز من زاوية نقدية، حيث جعل محور كتابه الدفاع عن أطروحة تعدد معاني العدالة بتعدد الثقافات البشرية، دون إقصائه للثقافة الغربية التي اعترف أنه استمد منها جل موارده الفكرية والثقافية لبناء أطروحته، ودون أن يكون قصده تبديد معنى العدالة الجوهري الذي تُجمع عليه كل الشعوب قديما وحديثا. فمن الظلم أن تُسجن العدالة في دلالة واحدة أو نسق نظري غربي مغلق، ومن العدل أن تنفتح العدالة على كل الدلالات وكل المبادئ والقيم الممكنة الآتية من الغرب ومن الشرق. فمن دون شك أن الثقافات غير الغربية تنطوي على عناصر أخرى من شأنها أن تُسهم في الحد من الحيف والتقليل من الجور والقهر والاستعباد، وأن تساعد على توسيع مفهوم العدالة وإخصابها وإخراجها من مآزقها. من هنا جاء شعاره الداعي إلى ضرورة التوقف عن تهميش وإقصاء الإسهامات الثقافية غير الغربية التي لا تتعارض في جوهرها مع الأمل البشري في إقامة العدل والإنصاف والمساواة.
لم يكن يَضير أ. سن أن يعترف بأن كتاب فكرة العدالة لا ينفصل عن كتاب جون راولز نظرية العدالة، وصيغته المعدَّلة العدالة كإنصاف، اعتقادا منه بأن نظرية راولز في العدالة شكلت حدثا بارزا ومنعطفا كبيرا في تاريخ الفلسفة السياسية في الأزمنة الحديثة. تعددت أشكال حضور كتاب راولز في كل أقسام كتاب فكرة العدالة ومفاصله سواء على شكل عرض أفكاره أو إبداء الإعجاب به أو الحوار معه أو انتقاده، فهو ينطلق منه ويختتم به. وقد عبّر عن إعجابه بكتاب العدالة كإنصاف بإهداء كتابه فكرة العدالة لراولز. غير أنه إذا كانت النظرية الراولزية نقطة انطلاق تفكيره في العدالة، فإنها لم تشكل كلمته الأخيرة، خصوصا وأن انتقاده لها وتصحيحها وتجاوزها شكل هاجسا لا يفارقه.
سعى أمارتيا سن في كتابه فكرة العدالة إلى الإحاطة بالأبعاد السياسية والأخلاقية والمعرفية والحقوقية والفلسفية للعدالة. مع ذلك، لم يهمّه أن يشيِّد نظاما فكريا متماسكاً يدور حول أطروحة مركزية كما فعل جون راولز حينما ربط العدالة بالإنصاف، وإنما كانت غايته أن يعاين العدالة في تجلياتها الثقافية المختلفة مع توجيه النقد إلى مختلف النظريات التي أنشئت حولها وتصحيحها وتطويرها. نعم، لا ننكر أن وضع مفهوم القدرة، وملحقاتها من حرية وديمقراطية وعقلانية، في مركز الجاذبية من كتابه فكرة العدالة، لكنه في الحقيقة استعمل مفهوم القدرة لتفكيك نظرية العدالة كإنصاف الراولزية والنظريات الدائرة في فلكها.
انفتاح أمارتيا سن على الثقافات غير الغربية منحه الفرصة للتدليل على خطأ الزعم القائل بأن الديمقراطية التي تدور حولها العدالة هي اختراع غربي محض، وأن الشعوب غير الغربية غير مؤهلة لكي تكون ديمقراطية ولا عادلة عدالة مؤسسية، أي غير مؤهلة لأن تتشكل كجماعة سياسية حقيقية قائمة على العدالة. ولدحض هذا الزعم العرقي الفج كان يأتي بين الفينة والأخرى بأمثلة من التاريخ السحيق لممارسات عدلية وعقلانية في ثقافات غير غربية، كالثقافة الهندية والعربية الإسلامية والإيرانية والصينية والبابلية والإفريقية الخ. أمثلة تبين لنا حينا ممارسة العدالة من حيث هي مؤسسات، وحينا آخر من حيث هي تطبيقات ومشاورات ديمقراطية، أي أن منهجه كان يجمع بين الاستدلال العقلي والاستدلال الخيالي (والتمثيل)، حيث اشتهر بالأمثلة الكثيرة والطريفة التي كان الغرض الأساسي منها إظهار مآزق العدالة.
من عدالة المؤسسات إلى عدالة القدرات
قسّم أمارتيا سن المقاربات الحديثة الناظرة في العدالة إلى صنفين أساسيين: مقاربة «العقد الاجتماعي» التي ينتقدها كثيرا، ومقاربة «الخيار الاجتماعي» التي يتبناها لأنها تنظر إلى العدالة من زاوية الإنجازات الواقعية وانعكاسها على حياة الناس.
أولا) انتقاد المقاربة المتعالية
للعدالة كإنصاف:
لا يُخفي أمارتيا سن إعجابه الكبير بنظرية جون راولز في «العدالة كإنصاف» لما أحدثته من ثورة جذرية في النظر إلى العدالة عموما وفي نظرية «العقد الاجتماعي» على الخصوص، بفضل اقتراحه جملة من المفاهيم والمعايير الجديدة، كمفهوم «الوضع الأصلي» وهو الوضع الذي يجري فيه نقاش عقلاني ومحايد بين متعاقدين يوجدون في وضع افتراضي خيالي يحكمهم «حجاب الجهل» الذي يحجب عنهم وضعهم الاجتماعي ومراتبَهم ومصالحهم الخاصة وانتماءاتهم السياسية والعقدية وطموحاتهم الشخصية، توخيا لإصدار أحكام موضوعية ونزيهة ومحايدة على رأسها «عَقد اجتماعي» ومبدأي الحرية والتفاوت سعيا لتحقيق «العدالة بوصفها إنصافا». لكن أمارتيا سن وجّه لهذه النظرية أربعة انتقادات:
الانتقاد الأول لنظرية العدالة الراولزية جاء على شكل رفضه للتصور الافتراضي-المثالي للعدالة الذي يعطي الصدارة للمؤسسات المتعالية ويُعلي من شأن الضوابط التنظيمية والقواعد السلوكية الجامدة؛ والحال ما كان يهم أ. سن أساسا ليس هو معرفة ماهية العدل أو الوصول إلى عدالة كاملة، وإنما الوقوف أحوال الظلم التي يعاني منه الناس والعمل على ابتكار طرق ووسائل فعالة للتخفيف من شدة الحيف الذي يعاني منه الأفراد والجماعات؛ نعم، العدل والظلم اسمان متضادان يندرج أحدهما تحت الفضيلة، والآخر تحت الرذيلة، ولكن كما أن علم الطب ينظر في الصحة والمرض، ويهتم بالمرض لمعالجته أكثر من اهتمامه بالصحة، فكذلك الأمر بالنسبة لمبحث العدالة.
النقد الثاني الذي وجهه أمارتيا سن لنظرية راولز يخص الدلالة المتواطئة للعدالة. ذلك أن المقاربة المؤسسية المتعالية «للعقد الاجتماعي» تفترض منطقا واحدا ونقاشا واحدا بين مجموعة محصورة من الناس ومطوقة بحجاب الجهل؛ والحال أنه يمكن تصور نقاش عقلاني واسع وحقيقي مفتوح على الجميع داخل الثقافة الواحدة وبين الثقافات المتعددة على أساس أكثر من منطق للعدالة، لأن العدالة تقال بمعاني متعددة لا بمعنى متواطئ.
النقد الثالث الذي سدده أمارتيا سن لمقاربة مدرسة «العَقد الاجتماعي» الراولزية موجها لاعتقادها أن مقومات ومعايير النموذج المثالي للعدالة لا يمكن أن تُستقى إلا من الثقافة الغربية؛ والحال أنه توجد في الثقافات غير الغربية عناصرُ ومعاييرُ لا تقل عقلانية ومنطقية ونجاعة من تلك التي اقترحتها الثقافة الغربية. ولكي يبين فساد القول بنموذج مثالي للعدالة للحكم على تجليات أخرى للعدالة، ضرب مثالا من مجال الفن: كما أنه لن يُسعفنا اعتبار لوحة الموناليزا (لليوناردو دافنشي) أجمل لوحة في العالم في أن نقرر أيٍّ اللوحات أجود: هل هي لوحات بيكاسو أم لوحات سالفادور دالي، فكذلك لن يفيدنا الاحتكام إلى نموذج مثالي للعدالة في الحكم على أنماط العدالة المختلفة المنتشرة في العالم. إذن لا جدوى من افتراض نموذج متعال على التاريخ تحتذيه باقي المجتمعات، ولا بد في المقابل من الانفتاح على مقاييسُ متعددة ومناسبة لكل عدالة على حدة.
النقد الرابع الذي وجهه أ. سن لنظرية العدالة الراولزية ينصب على مبدأ الحتمية، إذ يعتقد دعاة «العقد الاجتماعي» أنه بمجرد إقامة مؤسسات كاملة وقواعد سلوكية مطلقة، ستترتب عنها حتما عدالة تامة. والحال أن المظالم والانتهاكات قد لا تكون أحيانا بسبب قصور في المؤسسات والمبادئ والقواعد، وإنما بسبب سلوك فردي أو جماعي.
ثانيا) مقاربة «الاختيار الاجتماعي»:
مهدت انتقادات أ. سن لمقاربة «العقد الاجتماعي» للعدالة لتبنيه مقاربة «الاختيار الاجتماعي» التي ينتمي إليها عدد كبير من المفكرين كآدم سميث (Adam Smith)، وكوندورسيه (Condorcet)، وماري فولستوثكرافت (Mary Wollstonecraft)، وبنتام (Bentham)، وكارل ماركس (Marx)، وجون ستيوارت ميل (John Stuart Mill). تتميز هذه المقاربة بمزايا الواقعية والنسبية والتركيز على أحوال العدالة وإنجازات الناس في الحياة الواقعية ونضالها ضد مظاهر الظلم والاضطهاد في العالم. وتفضيله لهذه المقاربة لا يعني أنه أهمل نهائيا دور المؤسسات والقواعد والمبادئ في بناء العدالة، بل ظل يؤمن بأنها تشكل جزءًا من الواقع الفعلي، إلا أنه أعطى الأولوية الحياة الواقعية على المؤسسات. ولعل ما كان يغريه للانحياز لمقاربة الخيار الاجتماعي أنها تسمح «باستعمال منظور المقارنة لقياس مدى «تقدّم العدالة سواء أكنّا نحارب الاضطهاد (كالاسترقاق أو استعباد النساء) أو نحتج على الإهمال الطبي المنهجي... أو ننكر جواز التعذيب... أو نرفض السكوت على الجوع المزمن... لكن حتى لو أنجزت هذه التغييرات المتفق عليها كلها بنجاح، لن نحصل على شيء يمكن تسميته عدالة كاملة». لكن حتى لو تم القضاء على نظام العبودية بجملة من الترتيبات القانونية، فلن يقود ذلك إلى عدالة كاملة تماما، وإنما إلى توقيف الظلم المخالف لحق الإنسان في الحياة والمساواة، أو التخفيف من اضطهاد وحيف لا يطاق الذي تتسبب فيه العبودية. مع ذلك يبقى الهدف المباشر لمثل هذه المقاربة هو إلغاء «عدالة الحيتان الرهيبة» التي تظن أن لها الحق المطلق في التهام صغار السمك متى شاءت. ويتطلب هذا تضافر عدة مقاربات، ذلك أن انحياز أمارتيا سن للرؤية الإنجازية كان فقط نقطة انطلاق لتحليل العدالة، وإلا فإنه كان منفتحا على نظرية العقد الاجتماعي المؤسساتية، لأن من شأن المزج بين المقاربتين أن يُحدث تغييرا جذريا في نظرية العدالة في الفلسفة السياسية المعاصرة. وهذا ما يؤكده التراث الهندي الذي كان يقول بعدالتين: عدالة النيتي (niti) التي تشبه العدالة المؤسساتية لكونها تُركّز نظرتها على التنظيم والقواعد السلوكية، وعدالة النيايا (nyaya) الشبيهة بالعدالة الإنجازية التي «لا تحكم فقط على المؤسسات والقواعد، بل تحكم أيضا على المجتمعات نفسها»، أي تهتم بكيفية نشأة العدالة وطرق حياة الناس التي يتبعونها في الواقع.
أنوار وعدالات متعددة:
ما يميز مقاربة أماريتا سن رؤيتها التعددية سواء بالنسبة لمعاني العدالة أو لمعاني العقل والقدرة ومنهج التفكير.. الخ، إيمانا منها بأن التعددية هي المخرج من مأزق نظرية «العَقد الاجتماعي» للعدالة الراولزية التي دافعت عن وحدة «العدالة بوصفها إنصافا». ووسيلة تحقيق التعددية هي الحوار العقلاني الجدّي بين الثقافات المختلفة، لا بالتسامح المنافق الذي يعترف للآخر بذاته وبحقه في الاختلاف لكن في جماعته فقط، لا في المجتمع الليبرالي ككل. ومن شأن هذا الحوار العقلاني أن يُسفر عن الاتفاق على عدالة مركبة من مجموعة من القيم كالحق بمعانيه المعرفية والأخلاقية والقانونية والسياسية والحقوقية، والحرية بأشكالها السلبية والإيجابية، وقس على ذلك قيم الخير والموضوعية والحياد.
ويخصص أ. سن في تصوره المركب للعدالة حيزا كبيرا لعقلانية عصر الأنوار التي لا يُخفي إعجابه الشديد بها باعتبارها أرقى ما وصلت إليه الإنسانية في مجال العقلانية، واعترافه بدَينه تجاهها قائلا بأن «تحليلي للعدالة مستلهَم من سُبل التفكير التي تم اكتشافها خاصة في العصر الثائر للأنوار الأوروبية»، وبخاصة من كانط الذي يعترف بأن مفهومه «للأمر الأخلاقي» شكّل الفكرة الملهمة لمشروعه، وانقلابه على الميتافيزيقا الذي سحب منها مهمة نشر العقل في العالم وتحميلها لعلم الأخلاق كان هو القوة المحركة لمشروعه الفكري.
مع ذلك، لا يتردد أ. سن في إبداء غضبه الشديد من «الأنوار التي بالغت في تقديرها لقدرات العقل» إلى حد أنها أبدت تفاؤلا ساذجا بالانتشار الحتمي والمطرد لمُثُل العدالة والمساواة والحق كلما تقدم الزمن العقلاني، هذا دون احتساب الأضرار والكوارث التي نجمت عن استعمال الأنوار السيئ للعقل. إلا أنه لم يخطر بباله أن يتخلى عن الأنوار، إذ «لا مفر لنا منها» واللجوء إلى التراث أو الدين عوضا عنها، إذ يبقى العقل هو القوة الوحيدة والفعالة القادرة على حل المشاكل المتصلة بالعدالة الأخلاقية والسياسية. هذا الجمع بين إعجابه وتنديده بالأنوار مهّد لرفضه أن تكون عقلانية الأنوار الأوروبية هي النموذج الوحيد لكل الإنسانية، لأن العقل «يمكن أن يتخذ صورا متباينة، واستعمالات مختلفة»، وبالتالي ليس هناك عقل كوني واحد، وأنوار واحدة، وإنما هناك عقول وعقلانيات متعددة، وأن العقلانية الغربية لا تشكل سوى إحدى العقلانيات بين عدة عقلانيات ممكنة. ما يعني أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر إلا من خلال تقليد ثقافي معين، وداخل هوية نوعية. لكن وجود عقول وأنوار مختلفة لا يعني البتة وجود تنافر جذري بينها حول قيم العدل والإنصاف والمسؤولية والواجب والخير والاستقامة الخ. خصوصا وأن الأنوار الغربية نفسها لم تتكلم بصوت واحد، بل بصوتين على الأقل عندما كانت بصدد التفكير في العدالة.
الغرض من الانتصار للمنظور التعددي للعقل والعقلانية هو تطبيقه على مشكلة العدل والعدالة، أي فسح المجال للعقلانيات الأخرى غير الغربية لتقديم تصوراتها وإسهاماتها، وهو ما أشار إليه قائلا: «من أهم ميزات كتاب [فكرة العدالة] غير المعتادة... بالمقارنة مع كتب أخرى حول نظرية العدالة، اعتماده الواسع على الأفكار الآتية من مجتمعات غير غربية» تفضّل التفكير المنطقي على الإيمان بالمعتقدات اللاعقلية. معنى هذا أن هناك «أنواعا متعددة ومختلفة من منطق العدل تصمد كلها أمام الامتحان النقدي، لكنها تنتهي إلى نتائج متباينة» لكونها تصدر عن تجارب وتقاليد مختلفة. ولكي يثبت وجود أنوار أخرى غير الأنوار الغربية ذكّرنا أ. سن بالإمبراطور المغولي المتنور جلال الدين محمّد أكبر حاكم الهند، الذي سنّ نظاما للحكم السياسي أعطى فيه مكانة سامية ومطلقة للعقل إلى درجة أنه لكي تعارض العقل ينبغي تقديم أدلة عقلية»، لكونه كان يؤمن بأن «طريق العقل ينبغي أن يكون معيارا لكل سلوك عادل، وإطارا مقبولا للحقوق والواجبات الشرعية».
لتوضيح رؤيته التعددية للعدالة وللعقل، ضرب المثال الشهير عن نزاع الأطفال الثلاثة حول مَن له الحق في امتلاك الناي اعتمادا على ثلاث حجج، حجة القدرة على العزف، وحجة الفقر لأنه من العدل أن تكون لأفقر الأطفال الثلاثة لعبة كيلا يشعر بالحرمان إزاء الآخرين، وحجة صناعة الناي. يُظهر صراع الحجج هذا صعوبة الجزم بموقف عادل اعتمادا على حجة واحدة وإلغاء الحجتين، لأنه إذا كان العدل هو النطق بالحق كما يقول ابن رشد، فإن كل طفل يقدم حجة دامغة على حقه العادل في امتلاك الناي، ما يعني أن الحجج متساوية والحقوق متساوية، مما يلزم اللجوء إلى أكثر من منطق واحد وأكثر من عقلانية واحدة لحل هذا المشكل، وإلا اقترفنا ظلما فادحا عند إعطاء الحق لأحد الأطفال في امتلاك الناي دون الآخريْن. هكذا يتضح أن معايير الحكم وإن كانت مختلفة، فهي متساوية في قيمتها، ما يعني أنه لا توجد نظريةٌ مثاليةٌ متعالية وقبْلِية هي وحدها الصالحة للحكم على عدالة أو ظلم الدولة ومؤسساتها. لذلك إن لم تسمح «الوضعية الأصلية» الراولزية بانبثاق عقول متعددة، فسيكون مآلها حتما الفشل.
القدرة، بما هي تعبير عن الحرية، معيارا للعدالة:
الجديد في «فكرة العدالة» عند أ. سن كما قلنا أنها رفعت القدرة، بما هي وجه آخر للحرية، إلى مرتبة معيار للعدالة. ففي مقابل النفعيين الذين ربطوا العدالة بمعيار «المنافع» لتقييم الإنجازات الاجتماعية والفردية، وفي مقابل جون راولز الذي اعتبر «الخيرات الأولية»، كالدخل والثروة والسلطة وامتيازات الوظيفة والقواعد الاجتماعية، معيارا للعدالة، رأى أمارتيا سن أن هذا الاتجاه في النظر إلى العدالة يشكل «غلطة، لأن المنافع والخيرات الأولية ليست سوى وسائل لتحقيق غايات أخرى كالحرية»، وفي مقابل ذلك فضّل أ. سن مقاربة القدرات الفعلية للناس للوقوف على القدرات الفعلية للعيش، لا على وسائل العيش.
والغاية من التركيز على القدرات الفعلية للعيش هو تنبيه الأذهان إلى التفاوتات الفردية والاجتماعية، و«الوقاية من الإعاقة وتخفيف آثارها»، أي التركيز على أحوال العدالة بالعمل على تفادي الظلم بالنضال من أجل تحقيق مطالب الحق في الشغل والصحة والتعليم الخ. لا البحث عن ماهية العدالة أو توفير المؤسسات المتعالية والقوالب العقلية لها. بالإضافة إلى ذلك، لمقاربة القدرة ميزة مهمة، وهي إتاحة التمييز بين الوقائع التي تبدو متطابقة في الظاهر في حين أنها مختلفة في الجوهر. مثلا فرق بين الذين يموتون جوعا لأسباب خارجة عن إرادتهم وطاقتهم بسبب الجفاف أو المجاعة، وبين الذين يتعرضون للتجويع قسرا حتى الموت من قبل أفراد أو جماعات سياسية أو دينية أو إجرامية؛ كذلك هناك فرق بين من يصوم طواعية تلبية لفريضة دينية أو نتيجة لاختيار صحي، وبين من يتضورون جوعا بسبب الحرمان؛ كما تسمح مقاربة «القدرة الحرة» بالتمييز بين المهاجر الذي يطالب بحرية القيام بطقوسه الثقافية في البلد الذي هاجر إليه، وبين الذي يقوم بتلك الطقوس في بلده الأصلي تقليدا ولا يُسمح له بحرية تجديد طقوسه أو رفض الطقوس جميعا. معنى هذا أن تساوي الأفعال أو الوقائع (الجوع، ممارسة الطقوس) لا يعني التساوي في القدرات والحريات، لذلك ليس من العدل التركيز فقط على ما يحدث فعلا، بل ينبغي أيضا الانتباه إلى ما يقف وراءها من حريات وقدرات. ومن ثم، تصبح حرية اختيار المرء كيف يعيش هي المسألة المركزية في مقاربة القدرات، أي لا تعود قيمة حياتنا إلى نوع هذه الحياة الواقعية التي نحياها، وإنما إلى مقدار حريتنا في اختيار هذا النوع من الحياة أو تلك؛ بل تعود قيمة حياتنا إلى النضال من أجل أمور أخرى كحياة الأنواع الحيوانية المهددة بالانقراض مثلا.
***
كان أ. سن يطمح من وراء كتابه فكرة العدالة الابتعاد قدر الإمكان عن نظريات العدالة المعاصرة لأنها لم تنجح في «إحداث تناغم بين الأمل والتاريخ». وهو ما حدا به إلى تغيير السؤال «كيف تكون المؤسسات عادلة تماما»؟ فأضحى: «كيف يمكن إعلاء العدل؟»، أي التركيز على المسار الواقعي والنسبي لتحقيق العدالة لا على المؤسسات المتعالية المجردة وكما قال ابن سينا «فإن للأوقات أحكاما لا يمكن أن تنضبط... وفرض الكليات في المدينة مع تمام الاحتراز غير ممكن «. كان لانفصال أ. سن عن إشكالية العدالة الراولزية ونقلها من حضن الثقافة الغربية وآدابها إلى أكناف الثقافات غير الغربية وقع الثورة في النظر إلى العدالة، إذ أضحت «المسألة المركزية - كما يقول - تتعلق هنا بتعدد أبعاد العدالة، التي لا يمكن اختزالها في المساواة في مجال واحد فقط، سواء أكان هو التقدم الاقتصادي أم الموارد أم المنافع أو جودة الحياة المتحققة أم القدرات. وإن تشككي في الفهم أحادي البعد لمتطلبات المساواة (الذي يسري في هذه الحال على منظور القدرات) هو جزء من نقد أوسع للنظرة الأحادية إلى المساواة».
لكن ألم تقد الحيرة التي انتهى إليها السؤال «مَن مِن الأطفال الثلاثة أحق بحيازة الناي؟» بسبب تكافؤ حججهم في معقوليتها إلى تعليق الحكم بشأن الحق العادل، مما هدد فكرة العدالة لدى أ. سن أن تكون، هي الأخرى، بدون أفق؟
د. محمد المصباحي أستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس.
الغزالي، إحياء علوم الدين.
مقدمة:
هل هناك عدالة واحدة أم عدة عدالات «كالعدل الطبيعي» الفطري الذي يعم كل الجماعات البشرية، و«العدل الثقافي» و«عدل الشرائع والسنن»، و«العدل السياسي»؟ وفي المقابل هل هناك ظلم واحد أم عدة أنواع، كما يفعل أصحاب الفروق اللغوية الذين يميزون لغويا بين الظلم الذي هو «نقصان الحق، والجوْر [الذي هو] العدول عن الحق»، فيكون «نقيض الظلم الإنصاف، وهو إعطاء الحق على التمام ... ونقيض الجوْر العدل، وهو العدول بالفعل إلى الحق»؟ ثم هل هناك معيار واحد لهذه الأنواع المختلفة من العدل والظلم أم عدة مقاييس؟ وهل العقل الذي يقف وراء تعدد العدل والظلم واحد أم متعدد؟
انتماء مسألة العدالة إلى مجالي الفلسفة السياسية والفلسفة الأخلاقية جعلها ترتبط بالعقل العملي أكثر من ارتباطها بالعقل النظري، مما أتاح لها أن تتعدد وتتطور، ولا أدل على ذلك أن أهم تيار في الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، وهو تيار «العَقد الاجتماعي» (الذي افتتح التفكير فيه توماس هوبز، وتبعه عدد من الفلاسفة كجون لوك، وجان-جاك روسو، وإمانويل كانط، وجون راولز، وغيرهم)، بَنَى تصوره للعدالة على أساس إبرام عقد «اجتماعي» قائم على حوار عقلاني وديمقراطي حر قابل للتعديل والتحسين، وليس على مبدأ عقدي أو ميتافيزيقي غير قابل للنقاش، وهو ما يفسر ازدهار الكتابة عنها في الأزمنة الحديثة والمعاصرة.
غير أن المفكر الاقتصادي الهندي أمارتيا سن صاحب كتاب فكرة العدالة، قرأ نظرية راولز من زاوية نقدية، حيث جعل محور كتابه الدفاع عن أطروحة تعدد معاني العدالة بتعدد الثقافات البشرية، دون إقصائه للثقافة الغربية التي اعترف أنه استمد منها جل موارده الفكرية والثقافية لبناء أطروحته، ودون أن يكون قصده تبديد معنى العدالة الجوهري الذي تُجمع عليه كل الشعوب قديما وحديثا. فمن الظلم أن تُسجن العدالة في دلالة واحدة أو نسق نظري غربي مغلق، ومن العدل أن تنفتح العدالة على كل الدلالات وكل المبادئ والقيم الممكنة الآتية من الغرب ومن الشرق. فمن دون شك أن الثقافات غير الغربية تنطوي على عناصر أخرى من شأنها أن تُسهم في الحد من الحيف والتقليل من الجور والقهر والاستعباد، وأن تساعد على توسيع مفهوم العدالة وإخصابها وإخراجها من مآزقها. من هنا جاء شعاره الداعي إلى ضرورة التوقف عن تهميش وإقصاء الإسهامات الثقافية غير الغربية التي لا تتعارض في جوهرها مع الأمل البشري في إقامة العدل والإنصاف والمساواة.
لم يكن يَضير أ. سن أن يعترف بأن كتاب فكرة العدالة لا ينفصل عن كتاب جون راولز نظرية العدالة، وصيغته المعدَّلة العدالة كإنصاف، اعتقادا منه بأن نظرية راولز في العدالة شكلت حدثا بارزا ومنعطفا كبيرا في تاريخ الفلسفة السياسية في الأزمنة الحديثة. تعددت أشكال حضور كتاب راولز في كل أقسام كتاب فكرة العدالة ومفاصله سواء على شكل عرض أفكاره أو إبداء الإعجاب به أو الحوار معه أو انتقاده، فهو ينطلق منه ويختتم به. وقد عبّر عن إعجابه بكتاب العدالة كإنصاف بإهداء كتابه فكرة العدالة لراولز. غير أنه إذا كانت النظرية الراولزية نقطة انطلاق تفكيره في العدالة، فإنها لم تشكل كلمته الأخيرة، خصوصا وأن انتقاده لها وتصحيحها وتجاوزها شكل هاجسا لا يفارقه.
سعى أمارتيا سن في كتابه فكرة العدالة إلى الإحاطة بالأبعاد السياسية والأخلاقية والمعرفية والحقوقية والفلسفية للعدالة. مع ذلك، لم يهمّه أن يشيِّد نظاما فكريا متماسكاً يدور حول أطروحة مركزية كما فعل جون راولز حينما ربط العدالة بالإنصاف، وإنما كانت غايته أن يعاين العدالة في تجلياتها الثقافية المختلفة مع توجيه النقد إلى مختلف النظريات التي أنشئت حولها وتصحيحها وتطويرها. نعم، لا ننكر أن وضع مفهوم القدرة، وملحقاتها من حرية وديمقراطية وعقلانية، في مركز الجاذبية من كتابه فكرة العدالة، لكنه في الحقيقة استعمل مفهوم القدرة لتفكيك نظرية العدالة كإنصاف الراولزية والنظريات الدائرة في فلكها.
انفتاح أمارتيا سن على الثقافات غير الغربية منحه الفرصة للتدليل على خطأ الزعم القائل بأن الديمقراطية التي تدور حولها العدالة هي اختراع غربي محض، وأن الشعوب غير الغربية غير مؤهلة لكي تكون ديمقراطية ولا عادلة عدالة مؤسسية، أي غير مؤهلة لأن تتشكل كجماعة سياسية حقيقية قائمة على العدالة. ولدحض هذا الزعم العرقي الفج كان يأتي بين الفينة والأخرى بأمثلة من التاريخ السحيق لممارسات عدلية وعقلانية في ثقافات غير غربية، كالثقافة الهندية والعربية الإسلامية والإيرانية والصينية والبابلية والإفريقية الخ. أمثلة تبين لنا حينا ممارسة العدالة من حيث هي مؤسسات، وحينا آخر من حيث هي تطبيقات ومشاورات ديمقراطية، أي أن منهجه كان يجمع بين الاستدلال العقلي والاستدلال الخيالي (والتمثيل)، حيث اشتهر بالأمثلة الكثيرة والطريفة التي كان الغرض الأساسي منها إظهار مآزق العدالة.
من عدالة المؤسسات إلى عدالة القدرات
قسّم أمارتيا سن المقاربات الحديثة الناظرة في العدالة إلى صنفين أساسيين: مقاربة «العقد الاجتماعي» التي ينتقدها كثيرا، ومقاربة «الخيار الاجتماعي» التي يتبناها لأنها تنظر إلى العدالة من زاوية الإنجازات الواقعية وانعكاسها على حياة الناس.
أولا) انتقاد المقاربة المتعالية
للعدالة كإنصاف:
لا يُخفي أمارتيا سن إعجابه الكبير بنظرية جون راولز في «العدالة كإنصاف» لما أحدثته من ثورة جذرية في النظر إلى العدالة عموما وفي نظرية «العقد الاجتماعي» على الخصوص، بفضل اقتراحه جملة من المفاهيم والمعايير الجديدة، كمفهوم «الوضع الأصلي» وهو الوضع الذي يجري فيه نقاش عقلاني ومحايد بين متعاقدين يوجدون في وضع افتراضي خيالي يحكمهم «حجاب الجهل» الذي يحجب عنهم وضعهم الاجتماعي ومراتبَهم ومصالحهم الخاصة وانتماءاتهم السياسية والعقدية وطموحاتهم الشخصية، توخيا لإصدار أحكام موضوعية ونزيهة ومحايدة على رأسها «عَقد اجتماعي» ومبدأي الحرية والتفاوت سعيا لتحقيق «العدالة بوصفها إنصافا». لكن أمارتيا سن وجّه لهذه النظرية أربعة انتقادات:
الانتقاد الأول لنظرية العدالة الراولزية جاء على شكل رفضه للتصور الافتراضي-المثالي للعدالة الذي يعطي الصدارة للمؤسسات المتعالية ويُعلي من شأن الضوابط التنظيمية والقواعد السلوكية الجامدة؛ والحال ما كان يهم أ. سن أساسا ليس هو معرفة ماهية العدل أو الوصول إلى عدالة كاملة، وإنما الوقوف أحوال الظلم التي يعاني منه الناس والعمل على ابتكار طرق ووسائل فعالة للتخفيف من شدة الحيف الذي يعاني منه الأفراد والجماعات؛ نعم، العدل والظلم اسمان متضادان يندرج أحدهما تحت الفضيلة، والآخر تحت الرذيلة، ولكن كما أن علم الطب ينظر في الصحة والمرض، ويهتم بالمرض لمعالجته أكثر من اهتمامه بالصحة، فكذلك الأمر بالنسبة لمبحث العدالة.
النقد الثاني الذي وجهه أمارتيا سن لنظرية راولز يخص الدلالة المتواطئة للعدالة. ذلك أن المقاربة المؤسسية المتعالية «للعقد الاجتماعي» تفترض منطقا واحدا ونقاشا واحدا بين مجموعة محصورة من الناس ومطوقة بحجاب الجهل؛ والحال أنه يمكن تصور نقاش عقلاني واسع وحقيقي مفتوح على الجميع داخل الثقافة الواحدة وبين الثقافات المتعددة على أساس أكثر من منطق للعدالة، لأن العدالة تقال بمعاني متعددة لا بمعنى متواطئ.
النقد الثالث الذي سدده أمارتيا سن لمقاربة مدرسة «العَقد الاجتماعي» الراولزية موجها لاعتقادها أن مقومات ومعايير النموذج المثالي للعدالة لا يمكن أن تُستقى إلا من الثقافة الغربية؛ والحال أنه توجد في الثقافات غير الغربية عناصرُ ومعاييرُ لا تقل عقلانية ومنطقية ونجاعة من تلك التي اقترحتها الثقافة الغربية. ولكي يبين فساد القول بنموذج مثالي للعدالة للحكم على تجليات أخرى للعدالة، ضرب مثالا من مجال الفن: كما أنه لن يُسعفنا اعتبار لوحة الموناليزا (لليوناردو دافنشي) أجمل لوحة في العالم في أن نقرر أيٍّ اللوحات أجود: هل هي لوحات بيكاسو أم لوحات سالفادور دالي، فكذلك لن يفيدنا الاحتكام إلى نموذج مثالي للعدالة في الحكم على أنماط العدالة المختلفة المنتشرة في العالم. إذن لا جدوى من افتراض نموذج متعال على التاريخ تحتذيه باقي المجتمعات، ولا بد في المقابل من الانفتاح على مقاييسُ متعددة ومناسبة لكل عدالة على حدة.
النقد الرابع الذي وجهه أ. سن لنظرية العدالة الراولزية ينصب على مبدأ الحتمية، إذ يعتقد دعاة «العقد الاجتماعي» أنه بمجرد إقامة مؤسسات كاملة وقواعد سلوكية مطلقة، ستترتب عنها حتما عدالة تامة. والحال أن المظالم والانتهاكات قد لا تكون أحيانا بسبب قصور في المؤسسات والمبادئ والقواعد، وإنما بسبب سلوك فردي أو جماعي.
ثانيا) مقاربة «الاختيار الاجتماعي»:
مهدت انتقادات أ. سن لمقاربة «العقد الاجتماعي» للعدالة لتبنيه مقاربة «الاختيار الاجتماعي» التي ينتمي إليها عدد كبير من المفكرين كآدم سميث (Adam Smith)، وكوندورسيه (Condorcet)، وماري فولستوثكرافت (Mary Wollstonecraft)، وبنتام (Bentham)، وكارل ماركس (Marx)، وجون ستيوارت ميل (John Stuart Mill). تتميز هذه المقاربة بمزايا الواقعية والنسبية والتركيز على أحوال العدالة وإنجازات الناس في الحياة الواقعية ونضالها ضد مظاهر الظلم والاضطهاد في العالم. وتفضيله لهذه المقاربة لا يعني أنه أهمل نهائيا دور المؤسسات والقواعد والمبادئ في بناء العدالة، بل ظل يؤمن بأنها تشكل جزءًا من الواقع الفعلي، إلا أنه أعطى الأولوية الحياة الواقعية على المؤسسات. ولعل ما كان يغريه للانحياز لمقاربة الخيار الاجتماعي أنها تسمح «باستعمال منظور المقارنة لقياس مدى «تقدّم العدالة سواء أكنّا نحارب الاضطهاد (كالاسترقاق أو استعباد النساء) أو نحتج على الإهمال الطبي المنهجي... أو ننكر جواز التعذيب... أو نرفض السكوت على الجوع المزمن... لكن حتى لو أنجزت هذه التغييرات المتفق عليها كلها بنجاح، لن نحصل على شيء يمكن تسميته عدالة كاملة». لكن حتى لو تم القضاء على نظام العبودية بجملة من الترتيبات القانونية، فلن يقود ذلك إلى عدالة كاملة تماما، وإنما إلى توقيف الظلم المخالف لحق الإنسان في الحياة والمساواة، أو التخفيف من اضطهاد وحيف لا يطاق الذي تتسبب فيه العبودية. مع ذلك يبقى الهدف المباشر لمثل هذه المقاربة هو إلغاء «عدالة الحيتان الرهيبة» التي تظن أن لها الحق المطلق في التهام صغار السمك متى شاءت. ويتطلب هذا تضافر عدة مقاربات، ذلك أن انحياز أمارتيا سن للرؤية الإنجازية كان فقط نقطة انطلاق لتحليل العدالة، وإلا فإنه كان منفتحا على نظرية العقد الاجتماعي المؤسساتية، لأن من شأن المزج بين المقاربتين أن يُحدث تغييرا جذريا في نظرية العدالة في الفلسفة السياسية المعاصرة. وهذا ما يؤكده التراث الهندي الذي كان يقول بعدالتين: عدالة النيتي (niti) التي تشبه العدالة المؤسساتية لكونها تُركّز نظرتها على التنظيم والقواعد السلوكية، وعدالة النيايا (nyaya) الشبيهة بالعدالة الإنجازية التي «لا تحكم فقط على المؤسسات والقواعد، بل تحكم أيضا على المجتمعات نفسها»، أي تهتم بكيفية نشأة العدالة وطرق حياة الناس التي يتبعونها في الواقع.
أنوار وعدالات متعددة:
ما يميز مقاربة أماريتا سن رؤيتها التعددية سواء بالنسبة لمعاني العدالة أو لمعاني العقل والقدرة ومنهج التفكير.. الخ، إيمانا منها بأن التعددية هي المخرج من مأزق نظرية «العَقد الاجتماعي» للعدالة الراولزية التي دافعت عن وحدة «العدالة بوصفها إنصافا». ووسيلة تحقيق التعددية هي الحوار العقلاني الجدّي بين الثقافات المختلفة، لا بالتسامح المنافق الذي يعترف للآخر بذاته وبحقه في الاختلاف لكن في جماعته فقط، لا في المجتمع الليبرالي ككل. ومن شأن هذا الحوار العقلاني أن يُسفر عن الاتفاق على عدالة مركبة من مجموعة من القيم كالحق بمعانيه المعرفية والأخلاقية والقانونية والسياسية والحقوقية، والحرية بأشكالها السلبية والإيجابية، وقس على ذلك قيم الخير والموضوعية والحياد.
ويخصص أ. سن في تصوره المركب للعدالة حيزا كبيرا لعقلانية عصر الأنوار التي لا يُخفي إعجابه الشديد بها باعتبارها أرقى ما وصلت إليه الإنسانية في مجال العقلانية، واعترافه بدَينه تجاهها قائلا بأن «تحليلي للعدالة مستلهَم من سُبل التفكير التي تم اكتشافها خاصة في العصر الثائر للأنوار الأوروبية»، وبخاصة من كانط الذي يعترف بأن مفهومه «للأمر الأخلاقي» شكّل الفكرة الملهمة لمشروعه، وانقلابه على الميتافيزيقا الذي سحب منها مهمة نشر العقل في العالم وتحميلها لعلم الأخلاق كان هو القوة المحركة لمشروعه الفكري.
مع ذلك، لا يتردد أ. سن في إبداء غضبه الشديد من «الأنوار التي بالغت في تقديرها لقدرات العقل» إلى حد أنها أبدت تفاؤلا ساذجا بالانتشار الحتمي والمطرد لمُثُل العدالة والمساواة والحق كلما تقدم الزمن العقلاني، هذا دون احتساب الأضرار والكوارث التي نجمت عن استعمال الأنوار السيئ للعقل. إلا أنه لم يخطر بباله أن يتخلى عن الأنوار، إذ «لا مفر لنا منها» واللجوء إلى التراث أو الدين عوضا عنها، إذ يبقى العقل هو القوة الوحيدة والفعالة القادرة على حل المشاكل المتصلة بالعدالة الأخلاقية والسياسية. هذا الجمع بين إعجابه وتنديده بالأنوار مهّد لرفضه أن تكون عقلانية الأنوار الأوروبية هي النموذج الوحيد لكل الإنسانية، لأن العقل «يمكن أن يتخذ صورا متباينة، واستعمالات مختلفة»، وبالتالي ليس هناك عقل كوني واحد، وأنوار واحدة، وإنما هناك عقول وعقلانيات متعددة، وأن العقلانية الغربية لا تشكل سوى إحدى العقلانيات بين عدة عقلانيات ممكنة. ما يعني أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر إلا من خلال تقليد ثقافي معين، وداخل هوية نوعية. لكن وجود عقول وأنوار مختلفة لا يعني البتة وجود تنافر جذري بينها حول قيم العدل والإنصاف والمسؤولية والواجب والخير والاستقامة الخ. خصوصا وأن الأنوار الغربية نفسها لم تتكلم بصوت واحد، بل بصوتين على الأقل عندما كانت بصدد التفكير في العدالة.
الغرض من الانتصار للمنظور التعددي للعقل والعقلانية هو تطبيقه على مشكلة العدل والعدالة، أي فسح المجال للعقلانيات الأخرى غير الغربية لتقديم تصوراتها وإسهاماتها، وهو ما أشار إليه قائلا: «من أهم ميزات كتاب [فكرة العدالة] غير المعتادة... بالمقارنة مع كتب أخرى حول نظرية العدالة، اعتماده الواسع على الأفكار الآتية من مجتمعات غير غربية» تفضّل التفكير المنطقي على الإيمان بالمعتقدات اللاعقلية. معنى هذا أن هناك «أنواعا متعددة ومختلفة من منطق العدل تصمد كلها أمام الامتحان النقدي، لكنها تنتهي إلى نتائج متباينة» لكونها تصدر عن تجارب وتقاليد مختلفة. ولكي يثبت وجود أنوار أخرى غير الأنوار الغربية ذكّرنا أ. سن بالإمبراطور المغولي المتنور جلال الدين محمّد أكبر حاكم الهند، الذي سنّ نظاما للحكم السياسي أعطى فيه مكانة سامية ومطلقة للعقل إلى درجة أنه لكي تعارض العقل ينبغي تقديم أدلة عقلية»، لكونه كان يؤمن بأن «طريق العقل ينبغي أن يكون معيارا لكل سلوك عادل، وإطارا مقبولا للحقوق والواجبات الشرعية».
لتوضيح رؤيته التعددية للعدالة وللعقل، ضرب المثال الشهير عن نزاع الأطفال الثلاثة حول مَن له الحق في امتلاك الناي اعتمادا على ثلاث حجج، حجة القدرة على العزف، وحجة الفقر لأنه من العدل أن تكون لأفقر الأطفال الثلاثة لعبة كيلا يشعر بالحرمان إزاء الآخرين، وحجة صناعة الناي. يُظهر صراع الحجج هذا صعوبة الجزم بموقف عادل اعتمادا على حجة واحدة وإلغاء الحجتين، لأنه إذا كان العدل هو النطق بالحق كما يقول ابن رشد، فإن كل طفل يقدم حجة دامغة على حقه العادل في امتلاك الناي، ما يعني أن الحجج متساوية والحقوق متساوية، مما يلزم اللجوء إلى أكثر من منطق واحد وأكثر من عقلانية واحدة لحل هذا المشكل، وإلا اقترفنا ظلما فادحا عند إعطاء الحق لأحد الأطفال في امتلاك الناي دون الآخريْن. هكذا يتضح أن معايير الحكم وإن كانت مختلفة، فهي متساوية في قيمتها، ما يعني أنه لا توجد نظريةٌ مثاليةٌ متعالية وقبْلِية هي وحدها الصالحة للحكم على عدالة أو ظلم الدولة ومؤسساتها. لذلك إن لم تسمح «الوضعية الأصلية» الراولزية بانبثاق عقول متعددة، فسيكون مآلها حتما الفشل.
القدرة، بما هي تعبير عن الحرية، معيارا للعدالة:
الجديد في «فكرة العدالة» عند أ. سن كما قلنا أنها رفعت القدرة، بما هي وجه آخر للحرية، إلى مرتبة معيار للعدالة. ففي مقابل النفعيين الذين ربطوا العدالة بمعيار «المنافع» لتقييم الإنجازات الاجتماعية والفردية، وفي مقابل جون راولز الذي اعتبر «الخيرات الأولية»، كالدخل والثروة والسلطة وامتيازات الوظيفة والقواعد الاجتماعية، معيارا للعدالة، رأى أمارتيا سن أن هذا الاتجاه في النظر إلى العدالة يشكل «غلطة، لأن المنافع والخيرات الأولية ليست سوى وسائل لتحقيق غايات أخرى كالحرية»، وفي مقابل ذلك فضّل أ. سن مقاربة القدرات الفعلية للناس للوقوف على القدرات الفعلية للعيش، لا على وسائل العيش.
والغاية من التركيز على القدرات الفعلية للعيش هو تنبيه الأذهان إلى التفاوتات الفردية والاجتماعية، و«الوقاية من الإعاقة وتخفيف آثارها»، أي التركيز على أحوال العدالة بالعمل على تفادي الظلم بالنضال من أجل تحقيق مطالب الحق في الشغل والصحة والتعليم الخ. لا البحث عن ماهية العدالة أو توفير المؤسسات المتعالية والقوالب العقلية لها. بالإضافة إلى ذلك، لمقاربة القدرة ميزة مهمة، وهي إتاحة التمييز بين الوقائع التي تبدو متطابقة في الظاهر في حين أنها مختلفة في الجوهر. مثلا فرق بين الذين يموتون جوعا لأسباب خارجة عن إرادتهم وطاقتهم بسبب الجفاف أو المجاعة، وبين الذين يتعرضون للتجويع قسرا حتى الموت من قبل أفراد أو جماعات سياسية أو دينية أو إجرامية؛ كذلك هناك فرق بين من يصوم طواعية تلبية لفريضة دينية أو نتيجة لاختيار صحي، وبين من يتضورون جوعا بسبب الحرمان؛ كما تسمح مقاربة «القدرة الحرة» بالتمييز بين المهاجر الذي يطالب بحرية القيام بطقوسه الثقافية في البلد الذي هاجر إليه، وبين الذي يقوم بتلك الطقوس في بلده الأصلي تقليدا ولا يُسمح له بحرية تجديد طقوسه أو رفض الطقوس جميعا. معنى هذا أن تساوي الأفعال أو الوقائع (الجوع، ممارسة الطقوس) لا يعني التساوي في القدرات والحريات، لذلك ليس من العدل التركيز فقط على ما يحدث فعلا، بل ينبغي أيضا الانتباه إلى ما يقف وراءها من حريات وقدرات. ومن ثم، تصبح حرية اختيار المرء كيف يعيش هي المسألة المركزية في مقاربة القدرات، أي لا تعود قيمة حياتنا إلى نوع هذه الحياة الواقعية التي نحياها، وإنما إلى مقدار حريتنا في اختيار هذا النوع من الحياة أو تلك؛ بل تعود قيمة حياتنا إلى النضال من أجل أمور أخرى كحياة الأنواع الحيوانية المهددة بالانقراض مثلا.
***
كان أ. سن يطمح من وراء كتابه فكرة العدالة الابتعاد قدر الإمكان عن نظريات العدالة المعاصرة لأنها لم تنجح في «إحداث تناغم بين الأمل والتاريخ». وهو ما حدا به إلى تغيير السؤال «كيف تكون المؤسسات عادلة تماما»؟ فأضحى: «كيف يمكن إعلاء العدل؟»، أي التركيز على المسار الواقعي والنسبي لتحقيق العدالة لا على المؤسسات المتعالية المجردة وكما قال ابن سينا «فإن للأوقات أحكاما لا يمكن أن تنضبط... وفرض الكليات في المدينة مع تمام الاحتراز غير ممكن «. كان لانفصال أ. سن عن إشكالية العدالة الراولزية ونقلها من حضن الثقافة الغربية وآدابها إلى أكناف الثقافات غير الغربية وقع الثورة في النظر إلى العدالة، إذ أضحت «المسألة المركزية - كما يقول - تتعلق هنا بتعدد أبعاد العدالة، التي لا يمكن اختزالها في المساواة في مجال واحد فقط، سواء أكان هو التقدم الاقتصادي أم الموارد أم المنافع أو جودة الحياة المتحققة أم القدرات. وإن تشككي في الفهم أحادي البعد لمتطلبات المساواة (الذي يسري في هذه الحال على منظور القدرات) هو جزء من نقد أوسع للنظرة الأحادية إلى المساواة».
لكن ألم تقد الحيرة التي انتهى إليها السؤال «مَن مِن الأطفال الثلاثة أحق بحيازة الناي؟» بسبب تكافؤ حججهم في معقوليتها إلى تعليق الحكم بشأن الحق العادل، مما هدد فكرة العدالة لدى أ. سن أن تكون، هي الأخرى، بدون أفق؟
د. محمد المصباحي أستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس.