ترجمة قاسم مكي -

عاد منتدى دافوس الاقتصادي على نحو لافت ومثير. بعد عودته إلى الاجتماعات الحضورية بنسخة مُقَلَّصة ومتأخرة في مايو الماضي احتشد المؤتمر السنوي للمنتدى قبل أيام بمشاركين كانوا يحاولون معرفة المزيد عن أحوال العالم في العام الحالي.

دافوس ليس مكانا سيئا لمحاولة ذلك. فالمؤتمر كان حدثا عالميا حقا. لقد أمكنني الالتقاء بمسئولين صينيين ورؤساء تنفيذيين لشركات أمريكية وناشطين أوكرانيين مدافعين عن حقوق الإنسان وروَّاد أعمال شرق أوسطيين.

في كل عام يُحاط اتجاه ما أو بلد ما بالاهتمام. هذا العام كانت دول الخليج والهند إلى جانب الذكاء الاصطناعي مدار الحديث في دافوس. فالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بوفرة ثرائهما النفطي كانا يعرضان طموحاتهما الضخمة. ومن الهند التي ربما هي البلد الأكثر تفاؤلا في العالم الآن جاء ممثلون للعديد من ولاياتها لكي يتنافسوا فيما بينهم على اجتذاب اهتمام المستثمرين. وكان الذكاء الاصطناعي الموضوع المستقبلي الذي بدا أن لا أحد يفهمه حقا. لكن كل أحد كان يدلي فيه بدلوه.

خارج جيوب الحماس هذه كان هنالك بالتأكيد قدر كبير من الكآبة والقنوط. أوكرانيا هي الموضوع الجيوسياسي الكبير بالطبع والتي يرى فيها معظم الحضور (حربا) طويلة ومضنية ومكلفة.

على صعيد الاقتصاد أعلنت الشركات الشهيرة مثل مايكروسوفت وجولدمان ساكس عن تسريح عاملين وشركات أخرى عن خفض قيمة أصول. في الغرب يشعر الناس بالقلق من التضخم. وفي بلدان نامية عديدة يستعد الناس لأزمات ديون وأوضاع عجز عن السداد.

التحديات التي تواجه العالم حقيقية. لكنني خرجت من دافوس باعتقاد هو أن الحكاية الكبرى في الواقع أكثر إيجابية. فعلى الرغم من سلسلة الصدمات القاسية مثل كوفيد-19 وحرب روسيا أوكرانيا وأزمات الطاقة والغذاء العالمية إلا أن الغرب وشركاءه من كينيا وإلى سنغافورة يتقدمون ويتعاونون ويصوغون طريقا جديدا للأمام.

الولايات المتحدة في وضع جيد على نحو لافت. فبنك الاحتياط الفدرالي يبدو في المسار الصحيح لمعالجة التضخم. ووقَّع الرئيس بايدن على بعض الاستثمارات الأكبر والأطول أجلا في اقتصاد الولايات المتحدة منذ عهد الرئيس الأمريكي ليندون جونسون قبل نصف قرن. وتواصل شركات التقنية الأمريكية تحقيق الاختراقات في كل الحقول من الذكاء الاصطناعي وإلى أدوية الحمض النووي الجديدة.

فيما يتعلق بأوروبا، بالمقارنة، كان معظم المشاركين في منتدى دافوس متشائمين. لكن حتى في هذه الناحية الذي وجدته لافتا أن البلدان الأوروبية اجتمعت وظلت موحدة في مواجهة تحديات هائلة شكلتها أول أزمة جيوسياسية مكتملة الأركان عند أعتابها منذ عقود وأزمة طاقة كارثية.

وكما أشار ماتياس ماتيَس في مقال ممتاز بمجلة فورين أفيرز يمكن لأوروبا أن تفخر بمنجزات عديدة. (ماتيس زميل أول أوروبا بمجلس العلاقات الخارجية وأستاذ مشارك في الاقتصاد السياسي الدولي بمدرسة الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جون هوبكنز- المترجم).

علي الرغم من تكاليف الحرب وارتفاع أسعار الطاقة وعبء اللاجئين الأوكرانيين ظلت أوروبا موحَّدة بقوة في موقفها تجاه أوكرانيا. وهي تتخلص من الاعتماد على الطاقة الروسية بأسرع مما توقع أي أحد. والبنك المركزي الأوروبي مثله مثل بنك الاحتياط الفدرالي يدير التضخم بشكل معقول. ولم يتمكن الشعبويون في أوروبا كفكتور أوربان (رئيس وزراء المجر) وجورجيا ميلوني (رئيسة وزراء إيطاليا) من الاستيلاء على الأجندة. بل في الواقع لزمهم أن يعدِّلوا من مواقفهم.

البلد الأوروبي الوحيد الذي يتخبط هو بريطانيا. لكنها تفعل ذلك بطريقة تسلط الضوء على تكاليف سياسة البريكست (خروجها من الإتحاد الأوروبي) وفضائل الوحدة والتعاون الأوروبيين.

في الأثناء روسيا قد عُزِلَت إلى حد بعيد. وهي تصارع لبيع مواردها من الغاز الطبيعي (حوالي ثلاثة أرباع صادراتها كانت تذهب إلى أوروبا). كما حُرِمَت من التقنية الحديثة التي تحتاجها لتحديث اقتصادِها وآلتِها الحربية. حتى الصين ألْمحَت إلى وجود مسافة أكبر بينها وبين روسيا في الأسابيع الأخيرة.

هنالك الكثير من المشاكل التي تطرح نفسها بدءا من مستقبل أوكرانيا وإلى التضخم والتغير المناخي. لكن الحكاية الكبيرة هي وحدة وعزيمة العالم الديموقراطي. تلك الوحدة أقوى كثيرا من أية لحظة أثناء الحرب الباردة عندما كانت الانقسامات الكبرى بين أوروبا والولايات المتحدة مسألة عادية.

لقد تساءلنا لوهلة ما الذي يمكن أن يحدث حول العالم مع انحسار دور الولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى الوحيدة وفقدانها قدرتها أو رغبتها في أن تكون شرطيَّ العالم. تنبأ العديدون بأننا سنشهد عودة إلى الفوضى أو قانون الغابة الذي ستعمل فيه الدول المستبدة على أن تكون القوة هي الحق.

لكن هنالك مؤشرات مشجعة على أننا في الواقع سنشهد نوعا جديدا من النظام القائم على وحدة وتعاون بلدان العالم الحر. يقينا ائتلافات الأحرار دائما فوضوية ومثيرة للخلاف. سيتوجب صمود وحدة هذه البلدان وسيلزم تعاظم تعاونها.

لكن من الممكن أن نلتفت لاحقا إلى هذه السنوات ونكتشف أن عصر الزعامة الأمريكية كان يُستبدَل في بطء بعصر زعامة ديموقراطية.

• فريد زكريا كاتب رأي في صحيفة واشنطن بوست ومقدم برنامج يتناول القضايا الدولية والشئون الخارجية على شبكة سي إن إن.