في الأول من مارس ١٩١٠، صدرت في القاهرة مجلة «الزهور»، وقد ترأس تحريرها أمين الجُميل، الذي لم يكن قد مضى على إقامته في مصر أكثر من عامين، وبدعم مشترك مع صديقه أمين تقي الدين، ومنذ العدد الأول حددت المجلة أهدافها التي اقتصرت على نشر الثقافة الجادة، والعناية باللغة العربية أدبا وشعرا وفنا، كما جعلت من بين أهدافها الوصول إلي المثقفين العرب في كل الأقطار العربية والتعريف بنتاجهم الأدبي والفكري، وقد حرصت على الابتعاد عن الكتابة في المذاهب الدينية والسياسية.
حققت (الزهور) الأهداف التي أُنشئت من أجلها، بعد أن استكتبت خيرة الأدباء والشعراء والمثقفين من مختلف الأقطار العربية، كان من بينهم إبراهيم الحوراني ومي زيادة وأحمد شوقي وإلياس فياض وأحمد محرم وأمين الريحاني وحافظ إبراهيم وغيرهم كثيرون، وقد غطت المجلة معظم الثقافات الجديدة والمبتكرة في أوروبا وأمريكا، من خلال كتًّاب من العرب المقيمين في هذه البلاد، كما نشرت المجلة ترجمات متنوعة من مختلف الثقافات العالمية الرفيعة.
أفردت المجلة مساحة كبيرة للأعمال المسرحية، وخصوصًا المستقاة من التراث العربي، كمسرحية «عنترة بن شداد»، التي كانت تُعرض في باريس خلال عام ١٩٠٩، حيث تبادل عرضها على مسرحي «مونت كارلو»، و«الأديون» بعد أن ترجمها المترجم اللبناني شكري غانم، وقد انبهر بها الفرنسيون الذين راحوا يتزاحمون على مشاهدة هذا العمل التراثي القادم من الشرق، وقد توقف النقاد عند بعض المشاهد البديعة، من خلال علاقة «عنترة بعبلة»، حينما راح يخاطبها بلغة شاعرية أبهرت الفرنسيين.
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني
وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
راح الفرنسيون يقارنون هذه الصور البليغة بما أبدعه «ڤيكتور هيجو» بعد أن استطاع المترجم شكري غانم، وبلغة فرنسية رفيعة إظهار صورة الثائر العربي على فقره، العاشق لمحبوبته في مروءة وشهامة، لذا انبهر الفرنسيون بهذا العاشق البدوي المخلص، لمروءته وفضائله، وقد أحب الفرنسيون هذا العمل المسرحي الذي أشادت به كل الصحف الفرنسية، وقد راح عنترة يُعلي من قيمة الإنسان بصرف النظر عن لونه.
تُعيّرني العدا بسواد جلدي
وبيض خصائلي تمحو السواد
وهي المعاني النبيلة التي تُسقط الحواجز بين الأجناس والأعراق والألوان والديانات، وهكذا فتحت (الزهور) نوافذ جديدة للثقافة العربية، التي ترجمها شكري غانم باقتدار، وقد علق داود بركات على هذه الترجمة البديعة التي فتحت آفاقا رحبة أمام التراث العربي، حينما قال:
«ليس الغزاة من يفتحون البلاد بالمدفع، بل أجلّ منهم من يفتحون القلوب والعقول بالفكر والثقافة».
أتاحت مجلة (الزهور) التعريف بمختلف صنوف الأدب والشعر والفن في كل الأقطار العربية، كما ضمت إليها كتابا من المفكرين العرب لم يكن باستطاعتهم أن ينشروا أعمالهم في مجلة أو صحيفة أخرى من قبيل (شبلي شميل)، حينما نشرت على مدار عدة أعداد كتابه الشهير (النشوء والارتقاء) الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، بعد أن طرح قضايا لم يتعود القراء على الخوض فيها من قبيل الإجماع الذي قال بأنه يحد من الاجتهاد وأن الكثرة لا تعني الرأي الصائب، كما خاض الرجل في قضايا اتسمت بالجرأة وحرية الرأي، وكان صارما وحادا رافضا كل الأديان، كما أتاحت المجلة الكتابة للكثيرين من منتقديه، الذين نعتوه بالمروق، إلا أن اللافت للنظر أن أحدا لم يطالب بإراقة دمه، وقد عُنيت المجلة باللغة العربية عناية خاصة، وقد رجعت إلى كل أعدادها ولم أجد خطأً نحويا أو لغويا أو تعبيرًا رقيقًا، وإنما كانت في كل الأعداد التي نُشرت نموذجًا للمجلات التي أشاعت الوعي والمعرفة.
كانت المجلة تتوقف عن الصدور شهرا في صيف كل عام، وقد ابتكر أنطون الجميل فكرة رائعة، حينما كان يجمع مع نهاية كل عام كل الأعداد في مجلد واحد وفي طباعة فاخرة، احتلت مكانًا مناسبًا في منافذ بيع الكتب في كل الأقطار العربية، لذا حقق أنطون الجميل بهذا العمل شهرة واسعة في عالم الصحافة والثقافة، وخصوصًا بعد أن حصل على الجنسية المصرية ١٩٢٧، في الوقت الذي كانت تشهد القاهرة ظاهرة ثقافية كبيرة، حيث تقام الصالونات الثقافية في بيوتات كبار المسؤولين والمثقفين، فضلًا عن المنتديات الفكرية في الجمعيات والمحافل العلمية، وكان أنطون الجميل عنوانًا كبيرًا في كل هذه الأنشطة.
لأسباب غير معروفة توقفت المجلة عن الصدور، لعل ذلك كان لأسباب مالية، إلا أن الحكومة المصرية أتاحت له وظيفة محترمة في وزارة المالية، ولكنه لم يتوقف عن ممارسة الكتابة الصحفية، كاتبًا منتظمًا في كثير من الصحف والمجلات وخصوصًا الأهرام، محاضرًا ومتحدثا في مختلف المنتديات، وقد انخرط في الحياة المصرية، لدرجة انه اختير عضوًا في مجلس الشيوخ، وحينما وقع عليه الاختيار لرئاسة تحرير الأهرام ١٩٣٢، قدم استقالته من مجلس الشيوخ قائلا: «لا أستطيع أن أكون رقيبا على أداء الحكومة بينما أشغل وظيفة عضو مجلس الشيوخ».
أحب أنطون الجميل الأهرام وانتقل بها إلى عالم جديد، لمفهوم الصحافة بمعناها الفني والفكري، وحظي بحرية كاملة، بعد أن راح يتناول في كتاباته موضوعات أثارت عليه غضب الوزراء وكبار المسؤولين، لكنه لم يعبأ بكل ذلك وعاش حياته في الأهرام ليلا ونهارًا، مضربًا عن الزواج، وقد استقدم إلى مصر الكثيرين من آل الجُميل، وعاش حياته عاشقا لمحبوبته الأهرام، ومي زيادة، التي أحبها الكثيرون لكنها استعصت عليهم جميعا، ورغم ذلك ظل وفيا لها، وخصوصًا بعد أن انفضت من حولها الأضواء خلال مرضها، وقد تألم لحالتها في صمت ولم يجد حرجا في أن يبوح في بعض كتاباته بهذا الحب.
أعتقد أن دار المعارف المصرية قد أنجزت عملا رفيعا، حينما أعادت نشر المجلة في أربعة أجزاء، وقد طلب مني المسؤولون عن تلك المؤسسة إعداد دراسة وافية عن هذا العمل الثقافي الكبير، في مقدمة الجزء الأول، لكي يكون بين يد القراء في معرض القاهرة للكتاب الذي سيقام في الأسبوع الأخير من هذا الشهر، وقد استجبت لمطلبهم لأنني سبق وأن اطلعت على هذه المجلة التي تعد نموذجا للمجلات الثقافية والفكرية ليس في بدايات القرن العشرين فقط، وإنما حتى نهايته.
أعتقد أننا في هذه الفترة من تاريخ أمتنا العربية - في حاجة ملحة إلى هذا الفيض من المعارف الإنسانية التي تعد إحدى العلامات المضيئة في تاريخ ثقافتنا.. تحية تقدير واحترام لمجلة الزهور ولصاحبيها أمين الجميل وأمين تقي الدين رحمهما الله.
حققت (الزهور) الأهداف التي أُنشئت من أجلها، بعد أن استكتبت خيرة الأدباء والشعراء والمثقفين من مختلف الأقطار العربية، كان من بينهم إبراهيم الحوراني ومي زيادة وأحمد شوقي وإلياس فياض وأحمد محرم وأمين الريحاني وحافظ إبراهيم وغيرهم كثيرون، وقد غطت المجلة معظم الثقافات الجديدة والمبتكرة في أوروبا وأمريكا، من خلال كتًّاب من العرب المقيمين في هذه البلاد، كما نشرت المجلة ترجمات متنوعة من مختلف الثقافات العالمية الرفيعة.
أفردت المجلة مساحة كبيرة للأعمال المسرحية، وخصوصًا المستقاة من التراث العربي، كمسرحية «عنترة بن شداد»، التي كانت تُعرض في باريس خلال عام ١٩٠٩، حيث تبادل عرضها على مسرحي «مونت كارلو»، و«الأديون» بعد أن ترجمها المترجم اللبناني شكري غانم، وقد انبهر بها الفرنسيون الذين راحوا يتزاحمون على مشاهدة هذا العمل التراثي القادم من الشرق، وقد توقف النقاد عند بعض المشاهد البديعة، من خلال علاقة «عنترة بعبلة»، حينما راح يخاطبها بلغة شاعرية أبهرت الفرنسيين.
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني
وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
راح الفرنسيون يقارنون هذه الصور البليغة بما أبدعه «ڤيكتور هيجو» بعد أن استطاع المترجم شكري غانم، وبلغة فرنسية رفيعة إظهار صورة الثائر العربي على فقره، العاشق لمحبوبته في مروءة وشهامة، لذا انبهر الفرنسيون بهذا العاشق البدوي المخلص، لمروءته وفضائله، وقد أحب الفرنسيون هذا العمل المسرحي الذي أشادت به كل الصحف الفرنسية، وقد راح عنترة يُعلي من قيمة الإنسان بصرف النظر عن لونه.
تُعيّرني العدا بسواد جلدي
وبيض خصائلي تمحو السواد
وهي المعاني النبيلة التي تُسقط الحواجز بين الأجناس والأعراق والألوان والديانات، وهكذا فتحت (الزهور) نوافذ جديدة للثقافة العربية، التي ترجمها شكري غانم باقتدار، وقد علق داود بركات على هذه الترجمة البديعة التي فتحت آفاقا رحبة أمام التراث العربي، حينما قال:
«ليس الغزاة من يفتحون البلاد بالمدفع، بل أجلّ منهم من يفتحون القلوب والعقول بالفكر والثقافة».
أتاحت مجلة (الزهور) التعريف بمختلف صنوف الأدب والشعر والفن في كل الأقطار العربية، كما ضمت إليها كتابا من المفكرين العرب لم يكن باستطاعتهم أن ينشروا أعمالهم في مجلة أو صحيفة أخرى من قبيل (شبلي شميل)، حينما نشرت على مدار عدة أعداد كتابه الشهير (النشوء والارتقاء) الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، بعد أن طرح قضايا لم يتعود القراء على الخوض فيها من قبيل الإجماع الذي قال بأنه يحد من الاجتهاد وأن الكثرة لا تعني الرأي الصائب، كما خاض الرجل في قضايا اتسمت بالجرأة وحرية الرأي، وكان صارما وحادا رافضا كل الأديان، كما أتاحت المجلة الكتابة للكثيرين من منتقديه، الذين نعتوه بالمروق، إلا أن اللافت للنظر أن أحدا لم يطالب بإراقة دمه، وقد عُنيت المجلة باللغة العربية عناية خاصة، وقد رجعت إلى كل أعدادها ولم أجد خطأً نحويا أو لغويا أو تعبيرًا رقيقًا، وإنما كانت في كل الأعداد التي نُشرت نموذجًا للمجلات التي أشاعت الوعي والمعرفة.
كانت المجلة تتوقف عن الصدور شهرا في صيف كل عام، وقد ابتكر أنطون الجميل فكرة رائعة، حينما كان يجمع مع نهاية كل عام كل الأعداد في مجلد واحد وفي طباعة فاخرة، احتلت مكانًا مناسبًا في منافذ بيع الكتب في كل الأقطار العربية، لذا حقق أنطون الجميل بهذا العمل شهرة واسعة في عالم الصحافة والثقافة، وخصوصًا بعد أن حصل على الجنسية المصرية ١٩٢٧، في الوقت الذي كانت تشهد القاهرة ظاهرة ثقافية كبيرة، حيث تقام الصالونات الثقافية في بيوتات كبار المسؤولين والمثقفين، فضلًا عن المنتديات الفكرية في الجمعيات والمحافل العلمية، وكان أنطون الجميل عنوانًا كبيرًا في كل هذه الأنشطة.
لأسباب غير معروفة توقفت المجلة عن الصدور، لعل ذلك كان لأسباب مالية، إلا أن الحكومة المصرية أتاحت له وظيفة محترمة في وزارة المالية، ولكنه لم يتوقف عن ممارسة الكتابة الصحفية، كاتبًا منتظمًا في كثير من الصحف والمجلات وخصوصًا الأهرام، محاضرًا ومتحدثا في مختلف المنتديات، وقد انخرط في الحياة المصرية، لدرجة انه اختير عضوًا في مجلس الشيوخ، وحينما وقع عليه الاختيار لرئاسة تحرير الأهرام ١٩٣٢، قدم استقالته من مجلس الشيوخ قائلا: «لا أستطيع أن أكون رقيبا على أداء الحكومة بينما أشغل وظيفة عضو مجلس الشيوخ».
أحب أنطون الجميل الأهرام وانتقل بها إلى عالم جديد، لمفهوم الصحافة بمعناها الفني والفكري، وحظي بحرية كاملة، بعد أن راح يتناول في كتاباته موضوعات أثارت عليه غضب الوزراء وكبار المسؤولين، لكنه لم يعبأ بكل ذلك وعاش حياته في الأهرام ليلا ونهارًا، مضربًا عن الزواج، وقد استقدم إلى مصر الكثيرين من آل الجُميل، وعاش حياته عاشقا لمحبوبته الأهرام، ومي زيادة، التي أحبها الكثيرون لكنها استعصت عليهم جميعا، ورغم ذلك ظل وفيا لها، وخصوصًا بعد أن انفضت من حولها الأضواء خلال مرضها، وقد تألم لحالتها في صمت ولم يجد حرجا في أن يبوح في بعض كتاباته بهذا الحب.
أعتقد أن دار المعارف المصرية قد أنجزت عملا رفيعا، حينما أعادت نشر المجلة في أربعة أجزاء، وقد طلب مني المسؤولون عن تلك المؤسسة إعداد دراسة وافية عن هذا العمل الثقافي الكبير، في مقدمة الجزء الأول، لكي يكون بين يد القراء في معرض القاهرة للكتاب الذي سيقام في الأسبوع الأخير من هذا الشهر، وقد استجبت لمطلبهم لأنني سبق وأن اطلعت على هذه المجلة التي تعد نموذجا للمجلات الثقافية والفكرية ليس في بدايات القرن العشرين فقط، وإنما حتى نهايته.
أعتقد أننا في هذه الفترة من تاريخ أمتنا العربية - في حاجة ملحة إلى هذا الفيض من المعارف الإنسانية التي تعد إحدى العلامات المضيئة في تاريخ ثقافتنا.. تحية تقدير واحترام لمجلة الزهور ولصاحبيها أمين الجميل وأمين تقي الدين رحمهما الله.