يلجأ البدون إلى أوروبا من أجل نيل حقهم الأول في أن يكون لهم هوية معترف بها، تتأتى من خلالها حقوق إنسانية أخرى كالعمل، مواصلة التعليم، التملك، وتمرير جناسيهم لأولادهم. إلا أن لأوربا أيضا نسختها الخاصة من البدون.
ما الذي حدث في رأس السنة، وكيف تم تلقي القصة؟
تتهيأ قوى الأمن والسلامة في ألمانيا كل عام ترقبا لاحتفالات رأس السنة التي قد ينجم عنها حوادث وإصابات غير مقصودة، لكنها تستعد أيضا للشغب المقصود. هذا العام، تعرض أفراد الشرطة والإسعاف وإطفاء الحرائق إلى هجمات في برلين ضمن مدن أخرى خلال احتفالات رأس السنة. تركزت العديد منها في حي نوي-كولن. هُوجموا بالألعاب النارية في الغالب. بعض الحوادث شملت استدراج قوى الأمن والسلامة هذه إلى مكان الاعتداء. تم اعتقال المئات تلك الليلة. في برلين وحدها اعتقل 145 منهم 45 ألمانيا (بعضهم يحمل جناسٍ مزدوجة)، فيما توزع بقيتهم على 17 جنسية. ليعود الشباب من الخلفيات المهاجرة تحت الضوء مرة أخرى، ويستعر الحديث حول الاندماج مجددا في الإعلام الألماني إثر نقاش أعمال الشغب في اجتماع لجنة الشؤون الداخلية في مجلس النواب ببرلين. أُثير من ضمن ما أثير في هذه النقاشات (خصوصا غير الرسمي منها) ما يُعرف بالعشائر أو العصابات العربية. وهي وإن لم تكن العصابات الأشد نفوذا في البلاد، إلا أنها الأصعب اختراقا حسب رأي الشرطة. في هذا المقال نستعرض كيف أن الاندماج في المجتمع الألماني الذي يتم التحدث عنه في الغالب باعتباره مسؤولية المهاجر، يُعرقل عبر قوانين وأنظمة الدولة، وكيف أن العنف الذي تشهده الشوارع متعلق بالواقع السوسيو-اقتصادي للأفراد، أكثر من تعلقه بقضية الاندماج (وإن كان مفهوم الاندماج بحاجة لمسائلة، لا مكان لها هنا اليوم).
عشائر برلين
لا تعد العصابات العربية اللاعب الأخطر في العالم السلفي الألماني. إذ يأتي نفوذها في مرتبة تتلو العصابات الإيطالية، عصابات الدراجات النارية، العصابات البلقانية، الروسية، التركية. تعتقد الشرطة أن العصابات العربية تنخرط في الجرائم المنظمة التي غالبا ما تتعلق بالمخدرات، التهريب، غسيل الأموال، جرائم العنف، إضافة إلى -وكما لكم أن تتخيلوا من أي مجرم جيد- التهرّب الضريبي. تنتمي هذه العائلات في الغالب لأصول لبنانية هاجرت إلى ألمانيا خلال الحرب الأهلية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. مُنح الكثير من النازحين وقتها وثيقة (Duldung) يُمكن ترجمتها إلى «وثيقة تسامح» مع التشديد على أنها ليست -بأي شكل- وثيقة إقامة ولو مؤقتة، كل ما تنص عليه الوثيقة هو أن السلطات لا تمتلك الأسباب لترحيل حاملها. يبدو أن الوثيقة جاءت لسد ثغرة ما في القانون، أو لمنح شيء من الحماية لمن لا يملكون الحق القانوني في الإقامة، أو للتعامل مع وضع استثنائي مؤقت. لا يبدو أنه خطر ببال مُستحدثيها أن حاملي هذه الوثيقة سيختارون (يضطرون بالأحرى) للمكوث في البلد لسنوات، مورّثين وثيقتهم عديمة القيمة جيلا بعد جيل. في وضع يُذكر بحال البدون في الخليج. لا يملك حاملو الوثيقة الحق في العمل أو التعليم (عدا المدرسي)، من هنا يُمكن تفهم كيف يُضطر حاملوها لأن «يُبدعوا» طرق عيشهم.
يُقال لك أحيانا: «لا أحد يجوع في ألمانيا»، وهذا صحيح إلى حد كبير. فالنظام الاجتماعي يكفل للمنتمين له الحد الأدنى -على الأقل- من كرامة العيش: راتبا شهريا إذا ما سُرحت من عملك، ومرتبا مساندا لمحدودي الدخل، وهكذا. لكن ماذا عن الذين يعيشون هنا دون أن يكونوا جزءًا من النظام؟
يفترض الواحد منا أنه إذا ما وُلد أي طفل في ألمانيا فإن له الحق الفوري في الجنسية. وهذا صحيح، متى ما كان الأبويين (أو أحدهما) مقيما في البلاد. حتى إذا ما حصل وعُثر على طفل متروك، فإن له الحق في الجنسية. ماذا عن أبناء وأحفاد حاملي الـ Duldung ؟ مجددا عليهم أن يخترعوا طرقا للعيش. طرقا من النوع الذي يسبب -على الأغلب- أزمات للدولة في المستقبل.
كيف ساهمت القوانين الألمانية في عرقلة الاندماج؟
لم تمنح السلطات الجيل الأول من المهاجرين اللبنانيين الحق في العمل أو التعليم. تُعرقل القوانين بشكلها الحالي الاندماج بمنح الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين وثائق تتسامح في وجودهم، عوضا عن منحهم الجنسية الألمانية. ما يعني حرمانهم من الفرص والحقوق الأولية كالعمل، ومواصلة التعليم، وحتى الزواج، فما بالك بحقوق مدنية كالانتخاب، والمشاركة السياسية.
فوق هذا فإن المنتمين لهذه العائلات يتعرضون لأحكامٍ مسبقة لمجرد حملهم لاسم عائلة يعرف بعض أفرادها بالانخراط في نشاطات الجرم المنظم. مع أنه قد لا يكون لهم أي صلة أو مصلحة في هذا. ما يجعلهم في وضع أقل حظا أمام الفرص القادمة.
تتحدث الشرطة إذا عن نوع من المافيا، عائلات كبيرة تتبع أ عرافها وقيمها الخاصة، دون الاعتراف بالسلطة. تلتقي هذه السردية بانسجام مع فكرة العائلة الممتدة لدى العرب: العائلة الكبير للحد الذي يستغني فيه الفرد بها عن كل ما يُفترض أن تُقدمه الدولة أو المجتمع. تُقدَّم هذه السردية مع إهمال كامل للمأزق الذي وُضع فيه هؤلاء، وللدور الذي تلعبه القوانين بشكلها الحالي في إطالة معاناتهم لأجيال قادمة.
بالطبع هذا لا يعني أن جميع المضطلعين في شغب رأس السنة لهم القصة نفسها، كل ما أحاول التأكيد عليه هنا أن الأسباب الثقافية التي يُلمح لها عند الحديث عن الاندماج ليست ذات أهمية في هذا الصدد، ليس بقدر الأسباب السوسيو- اقتصادية على أي حال. وأن ما يدعيه البعض في كون مثبطات الاندماج متعلقة بعدم التأقلم غير دقيق، وأن التحدي الأساسي هو القوانين التي لابد أن تُراجع على نحو يضمن الحظ المتكافئ لجميع الشباب.
ما الذي حدث في رأس السنة، وكيف تم تلقي القصة؟
تتهيأ قوى الأمن والسلامة في ألمانيا كل عام ترقبا لاحتفالات رأس السنة التي قد ينجم عنها حوادث وإصابات غير مقصودة، لكنها تستعد أيضا للشغب المقصود. هذا العام، تعرض أفراد الشرطة والإسعاف وإطفاء الحرائق إلى هجمات في برلين ضمن مدن أخرى خلال احتفالات رأس السنة. تركزت العديد منها في حي نوي-كولن. هُوجموا بالألعاب النارية في الغالب. بعض الحوادث شملت استدراج قوى الأمن والسلامة هذه إلى مكان الاعتداء. تم اعتقال المئات تلك الليلة. في برلين وحدها اعتقل 145 منهم 45 ألمانيا (بعضهم يحمل جناسٍ مزدوجة)، فيما توزع بقيتهم على 17 جنسية. ليعود الشباب من الخلفيات المهاجرة تحت الضوء مرة أخرى، ويستعر الحديث حول الاندماج مجددا في الإعلام الألماني إثر نقاش أعمال الشغب في اجتماع لجنة الشؤون الداخلية في مجلس النواب ببرلين. أُثير من ضمن ما أثير في هذه النقاشات (خصوصا غير الرسمي منها) ما يُعرف بالعشائر أو العصابات العربية. وهي وإن لم تكن العصابات الأشد نفوذا في البلاد، إلا أنها الأصعب اختراقا حسب رأي الشرطة. في هذا المقال نستعرض كيف أن الاندماج في المجتمع الألماني الذي يتم التحدث عنه في الغالب باعتباره مسؤولية المهاجر، يُعرقل عبر قوانين وأنظمة الدولة، وكيف أن العنف الذي تشهده الشوارع متعلق بالواقع السوسيو-اقتصادي للأفراد، أكثر من تعلقه بقضية الاندماج (وإن كان مفهوم الاندماج بحاجة لمسائلة، لا مكان لها هنا اليوم).
عشائر برلين
لا تعد العصابات العربية اللاعب الأخطر في العالم السلفي الألماني. إذ يأتي نفوذها في مرتبة تتلو العصابات الإيطالية، عصابات الدراجات النارية، العصابات البلقانية، الروسية، التركية. تعتقد الشرطة أن العصابات العربية تنخرط في الجرائم المنظمة التي غالبا ما تتعلق بالمخدرات، التهريب، غسيل الأموال، جرائم العنف، إضافة إلى -وكما لكم أن تتخيلوا من أي مجرم جيد- التهرّب الضريبي. تنتمي هذه العائلات في الغالب لأصول لبنانية هاجرت إلى ألمانيا خلال الحرب الأهلية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. مُنح الكثير من النازحين وقتها وثيقة (Duldung) يُمكن ترجمتها إلى «وثيقة تسامح» مع التشديد على أنها ليست -بأي شكل- وثيقة إقامة ولو مؤقتة، كل ما تنص عليه الوثيقة هو أن السلطات لا تمتلك الأسباب لترحيل حاملها. يبدو أن الوثيقة جاءت لسد ثغرة ما في القانون، أو لمنح شيء من الحماية لمن لا يملكون الحق القانوني في الإقامة، أو للتعامل مع وضع استثنائي مؤقت. لا يبدو أنه خطر ببال مُستحدثيها أن حاملي هذه الوثيقة سيختارون (يضطرون بالأحرى) للمكوث في البلد لسنوات، مورّثين وثيقتهم عديمة القيمة جيلا بعد جيل. في وضع يُذكر بحال البدون في الخليج. لا يملك حاملو الوثيقة الحق في العمل أو التعليم (عدا المدرسي)، من هنا يُمكن تفهم كيف يُضطر حاملوها لأن «يُبدعوا» طرق عيشهم.
يُقال لك أحيانا: «لا أحد يجوع في ألمانيا»، وهذا صحيح إلى حد كبير. فالنظام الاجتماعي يكفل للمنتمين له الحد الأدنى -على الأقل- من كرامة العيش: راتبا شهريا إذا ما سُرحت من عملك، ومرتبا مساندا لمحدودي الدخل، وهكذا. لكن ماذا عن الذين يعيشون هنا دون أن يكونوا جزءًا من النظام؟
يفترض الواحد منا أنه إذا ما وُلد أي طفل في ألمانيا فإن له الحق الفوري في الجنسية. وهذا صحيح، متى ما كان الأبويين (أو أحدهما) مقيما في البلاد. حتى إذا ما حصل وعُثر على طفل متروك، فإن له الحق في الجنسية. ماذا عن أبناء وأحفاد حاملي الـ Duldung ؟ مجددا عليهم أن يخترعوا طرقا للعيش. طرقا من النوع الذي يسبب -على الأغلب- أزمات للدولة في المستقبل.
كيف ساهمت القوانين الألمانية في عرقلة الاندماج؟
لم تمنح السلطات الجيل الأول من المهاجرين اللبنانيين الحق في العمل أو التعليم. تُعرقل القوانين بشكلها الحالي الاندماج بمنح الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين وثائق تتسامح في وجودهم، عوضا عن منحهم الجنسية الألمانية. ما يعني حرمانهم من الفرص والحقوق الأولية كالعمل، ومواصلة التعليم، وحتى الزواج، فما بالك بحقوق مدنية كالانتخاب، والمشاركة السياسية.
فوق هذا فإن المنتمين لهذه العائلات يتعرضون لأحكامٍ مسبقة لمجرد حملهم لاسم عائلة يعرف بعض أفرادها بالانخراط في نشاطات الجرم المنظم. مع أنه قد لا يكون لهم أي صلة أو مصلحة في هذا. ما يجعلهم في وضع أقل حظا أمام الفرص القادمة.
تتحدث الشرطة إذا عن نوع من المافيا، عائلات كبيرة تتبع أ عرافها وقيمها الخاصة، دون الاعتراف بالسلطة. تلتقي هذه السردية بانسجام مع فكرة العائلة الممتدة لدى العرب: العائلة الكبير للحد الذي يستغني فيه الفرد بها عن كل ما يُفترض أن تُقدمه الدولة أو المجتمع. تُقدَّم هذه السردية مع إهمال كامل للمأزق الذي وُضع فيه هؤلاء، وللدور الذي تلعبه القوانين بشكلها الحالي في إطالة معاناتهم لأجيال قادمة.
بالطبع هذا لا يعني أن جميع المضطلعين في شغب رأس السنة لهم القصة نفسها، كل ما أحاول التأكيد عليه هنا أن الأسباب الثقافية التي يُلمح لها عند الحديث عن الاندماج ليست ذات أهمية في هذا الصدد، ليس بقدر الأسباب السوسيو- اقتصادية على أي حال. وأن ما يدعيه البعض في كون مثبطات الاندماج متعلقة بعدم التأقلم غير دقيق، وأن التحدي الأساسي هو القوانين التي لابد أن تُراجع على نحو يضمن الحظ المتكافئ لجميع الشباب.