كثيرا ما يقع مؤرخو الأفكار ودارسو تراث الاستشراق، عندنا، في الخلط بين الاستشراق والمعرفة الأوروبية- المسيحية الوسطى والأنوارية الحديثة- للإسلام وتراثه الفكري. والخلط هـذا- وهو غـير مشروع- إذ يخطئ إدراك ما ميـز الاستشراق من سمات معرفية جديدة، كل الجدة، على الوعي الأوروبي في علاقاته بثقافات الشرق، يكتفي بأن ينظر إليه بما هو امتداد «طبيعي» واستئناف تاريخي لمعرفة أوروبية قديمة بالإسلام نشأت، ثم تطورت، في مناخ من المواجهات المتعادية، العسكرية وغير العسكرية، بين مجتمعات العقيدتين (المسيحية والإسلام)، في فترة طويلة ممتدة منذ القرن الهجري الأول (السابع للميلاد) حتى بداية الحقبة الكولونيالية (في البلاد العربية الإسلامية)، في الهزيع الأخير من القرن الثامن عشر. وهي، من غير جدال، نظرة قاصرة عن تكوين صورة دقيقة عن المعرفة الاستشراقية في تميزها عما قبلها من معارف مسيحية وأوروبية عن الإسلام والشرق.
كنا قد نبهـنا على هذه المسألة في كتاب صدر لنا قبل عامين (شرق الغرب- ما قبل الاستشراق: الإسلام في الفكر الديني المسيحي)؛ حين تناولنا، بالدرس والتحليل، عشرات المصادر اللاهوتية والتاريخية المسيحية التي تناولت الإسلام بالعـرض أو النقد أو المساجلة، وانتهت إلى بناء صـور نمطية عنه وعن المسلمين. وقد بـيـنا أن تلك «المعرفة» اللاهوتية المسيحية الوسطى ظلت محكومة بالإيپيستيمي (النظام المعرفي) الديني، وأن ذلك كان السبب في طابعها الجدالي والسجالي الذي حال دونها ودون أن تكون، حقـا، معرفة. والمشكلة في أن هذه «المعرفة» قبل الاستشراقـية تمتد على مدى أزيـد من ألف عام؛ منذ بدأ يوحنـا الدمشقي يكتب نقـده للإسلام- بعد خروجه الطوعي من البلاط الأموي واعتكافه في ديـر بالقدس- إلى حين بدأت تظهر الكتابات الأولى للمستشرقين: سلفستر ذو ساسي وتلامذته في مطلع القرن التاسع عشر. وهذه فترة ظلت فيها «المعرفة» تلك تلامس السطوح من الإسلام وتراثه، غير نافذة إلى العميق منه لافتقار رجالها إلى الأدوات الفكرية التي تسمح لهم بذلك الانتقال.
لا يعني تمييزنا بين الاستشراق وما دعونـاه بما قبل الاستشراق أن بينهما عازلا قاطعا يفصل، فصلا كاملا، بين نظامي المعرفة فيهما (فلقد تسـرب الكثير من تأثيرات النظرة اللاهوتية المسيحية إلى الإسلام، مع مـا تضمـره فيها تلك النظرة من صور نمطـية عنه، إلى تفكـير المستشرقين - أو بعضهم على الأقل - فأعادوا إنتاجها في نظرتهم إلى الإسلام)، غير أن تمايـزا في العلاقة بالإسلام، وعلى صعيد تـمثـلاته: دينـا وتراثـا ثقافيـا ومجتمعات، هو مما لا يمكن تجاهل وجوده ورسوخه. وقد تكون جملة من العوامل تضافرت لتصنع ذلك التمايـز الذي به استقل نظام المعرفة الاستشراقية عما قبله، ونحن- على تعـددها- نكتفي بالإلماح إلى ثلاثة منها:
أولها؛ أن ميلاد الاستشراق، قبل قرنين وبضعة عقود، اقترن برسوخ نتائج الانقلاب الكبير في العلاقة بين أوروبا والإسلام، وعلى صعيد توازن القوى بينهما؛ فلقد انتهى عصر المواجهات الكبرى بين الإسلام وبيزنطة، وبين الحملات الصليبية وسلطنات المشرق العربي الإسلامي، ثم بين الأندلس العربية والممالك الكاثوليكية، وأخيرا بين الإمبراطورية العثمانية ودول أوروبا... ومن حينها لم يعـد يمثل الإسلام أي تهديد وجودي للمسيحية ومجتمعاتها و، بالتالي، ما عاد ثمة من حاجة إلى «معرفة» نضالية عنه غرضها الوحيد مساجلة خصمها وتسفيه عقائده. بل لقد تغيـر المشهد كلية حين صارت مجتمعات الإسلام في موقع ضعف، وباتت عرضـة للحملات الكولونيالية المتعاقبة، بدءا من احتلال بريطانيا للهند- وفيها مسلمون - مرورا بحملة ناپليون على مصر، وصولا إلى احتلال الأغلب الأعم من البلاد الإسلامية. هكذا وجد الاستشراق نفسه- حين ميلاده- متحررا، نسبيا، من ضغط الدوافع السجالية مع خصم جرد من الأنياب والأظافر، فأمكنـه بذلك أن ينتج نظرة غير مسكونة بالرهاب.
وثانيها؛ أن ما قبل الاستشراق لم يكن معرفة متخصصة بالشرق، والإسلام ضمنه، ولم يتحول فيه هذان إلى موضوعين تتناولهما علوم متعددة أو علم خاص، وإنما كان معرفة نـمت في بيئات دينية لاهوتية، أو دينية تاريخية، لأشخاص غير متخصصين علميا في دراسات الإسلام والشرق، لأنه لم تكن قد نشأت- بكل بساطة- ميادين الدراسات الشرقية المختلفة (الصينية، الهندية، الكورية...) والدراسات الإسلامية في ذلك العهد. أما الاستشراق فميدان دراسي متخصص تنتمي إليه فئة من العلماء الدارسين لبلدان الشرق، وتاريخها، وأديانها، وثقافاتها...، ومنها الإسلام وتراثه ومجتمعاته (الإسلاميات Ismalogy). وهؤلاء ليسوا «هواة» أو من دارسين يلتقون بالشرق والإسلام من باب الصدفة، بل هم باحثون متفرغون محترفون. ولقد تعزز هذا الميدان الدراسي أكثر حين نشأت، في الجامعات الأوروبية، أقسام خاصة به، أو مراكز بحث ومعاهد دراسات ملحقة بها أو تابعة لها إداريا.
أما ثالثها فاقتران ميلاد الاستشراق بتنامي ظاهرة الفضول العلمي لدى قسم كبير من الدارسين الأوربيين وجـد نفسه- في لحظة من تكوينه العلمي- منجذبا إلى ثقافة الآخر، غير الأوروبي، مدفوعا إلى التعرف إليها واكتشاف عوالمها. صحيح أن في جملة هؤلاء مـن كانوا في عداد بعـثات علمية أرسلتها حكومات أو شركات أوروبية إلى بلدان الشرق (الإسلامي والآسيوي)، واستفادوا من منح دراسية لهذا الغرض، وأعـدوا ليتجندوا في صفوف الإدارات الاستعمارية، ولكن هذه ما كانت حال المستشرقين جميعا، بل منهم من اختار، بإرادة حرة، أن يتخصص في دراسة بلدان الشرق، فيتعلم فيه أو في أقسام الدراسات الشرقية (والإسلامية) في الجامعات الأوروبية. والغالب على هذا الفضول العلمي أنه يذهب بمن سكنه إلى معرفة واحدة أو أكثر من لغات الشرق (أحيانا خمس لغات أو ست)، فيتفرغ لتعلمها من أجل قراءة تراث الحضارة المتخصص فيها بلغتها. وهكذا يصطنع هذا الفضول العلمي واحدة من أظهر السمات التي تميز الاستشراق عما قبله من «معرفة» بالإسلام والشرق عموما: معرفة لغاته وقراءة تـراثه بها.
كنا قد نبهـنا على هذه المسألة في كتاب صدر لنا قبل عامين (شرق الغرب- ما قبل الاستشراق: الإسلام في الفكر الديني المسيحي)؛ حين تناولنا، بالدرس والتحليل، عشرات المصادر اللاهوتية والتاريخية المسيحية التي تناولت الإسلام بالعـرض أو النقد أو المساجلة، وانتهت إلى بناء صـور نمطية عنه وعن المسلمين. وقد بـيـنا أن تلك «المعرفة» اللاهوتية المسيحية الوسطى ظلت محكومة بالإيپيستيمي (النظام المعرفي) الديني، وأن ذلك كان السبب في طابعها الجدالي والسجالي الذي حال دونها ودون أن تكون، حقـا، معرفة. والمشكلة في أن هذه «المعرفة» قبل الاستشراقـية تمتد على مدى أزيـد من ألف عام؛ منذ بدأ يوحنـا الدمشقي يكتب نقـده للإسلام- بعد خروجه الطوعي من البلاط الأموي واعتكافه في ديـر بالقدس- إلى حين بدأت تظهر الكتابات الأولى للمستشرقين: سلفستر ذو ساسي وتلامذته في مطلع القرن التاسع عشر. وهذه فترة ظلت فيها «المعرفة» تلك تلامس السطوح من الإسلام وتراثه، غير نافذة إلى العميق منه لافتقار رجالها إلى الأدوات الفكرية التي تسمح لهم بذلك الانتقال.
لا يعني تمييزنا بين الاستشراق وما دعونـاه بما قبل الاستشراق أن بينهما عازلا قاطعا يفصل، فصلا كاملا، بين نظامي المعرفة فيهما (فلقد تسـرب الكثير من تأثيرات النظرة اللاهوتية المسيحية إلى الإسلام، مع مـا تضمـره فيها تلك النظرة من صور نمطـية عنه، إلى تفكـير المستشرقين - أو بعضهم على الأقل - فأعادوا إنتاجها في نظرتهم إلى الإسلام)، غير أن تمايـزا في العلاقة بالإسلام، وعلى صعيد تـمثـلاته: دينـا وتراثـا ثقافيـا ومجتمعات، هو مما لا يمكن تجاهل وجوده ورسوخه. وقد تكون جملة من العوامل تضافرت لتصنع ذلك التمايـز الذي به استقل نظام المعرفة الاستشراقية عما قبله، ونحن- على تعـددها- نكتفي بالإلماح إلى ثلاثة منها:
أولها؛ أن ميلاد الاستشراق، قبل قرنين وبضعة عقود، اقترن برسوخ نتائج الانقلاب الكبير في العلاقة بين أوروبا والإسلام، وعلى صعيد توازن القوى بينهما؛ فلقد انتهى عصر المواجهات الكبرى بين الإسلام وبيزنطة، وبين الحملات الصليبية وسلطنات المشرق العربي الإسلامي، ثم بين الأندلس العربية والممالك الكاثوليكية، وأخيرا بين الإمبراطورية العثمانية ودول أوروبا... ومن حينها لم يعـد يمثل الإسلام أي تهديد وجودي للمسيحية ومجتمعاتها و، بالتالي، ما عاد ثمة من حاجة إلى «معرفة» نضالية عنه غرضها الوحيد مساجلة خصمها وتسفيه عقائده. بل لقد تغيـر المشهد كلية حين صارت مجتمعات الإسلام في موقع ضعف، وباتت عرضـة للحملات الكولونيالية المتعاقبة، بدءا من احتلال بريطانيا للهند- وفيها مسلمون - مرورا بحملة ناپليون على مصر، وصولا إلى احتلال الأغلب الأعم من البلاد الإسلامية. هكذا وجد الاستشراق نفسه- حين ميلاده- متحررا، نسبيا، من ضغط الدوافع السجالية مع خصم جرد من الأنياب والأظافر، فأمكنـه بذلك أن ينتج نظرة غير مسكونة بالرهاب.
وثانيها؛ أن ما قبل الاستشراق لم يكن معرفة متخصصة بالشرق، والإسلام ضمنه، ولم يتحول فيه هذان إلى موضوعين تتناولهما علوم متعددة أو علم خاص، وإنما كان معرفة نـمت في بيئات دينية لاهوتية، أو دينية تاريخية، لأشخاص غير متخصصين علميا في دراسات الإسلام والشرق، لأنه لم تكن قد نشأت- بكل بساطة- ميادين الدراسات الشرقية المختلفة (الصينية، الهندية، الكورية...) والدراسات الإسلامية في ذلك العهد. أما الاستشراق فميدان دراسي متخصص تنتمي إليه فئة من العلماء الدارسين لبلدان الشرق، وتاريخها، وأديانها، وثقافاتها...، ومنها الإسلام وتراثه ومجتمعاته (الإسلاميات Ismalogy). وهؤلاء ليسوا «هواة» أو من دارسين يلتقون بالشرق والإسلام من باب الصدفة، بل هم باحثون متفرغون محترفون. ولقد تعزز هذا الميدان الدراسي أكثر حين نشأت، في الجامعات الأوروبية، أقسام خاصة به، أو مراكز بحث ومعاهد دراسات ملحقة بها أو تابعة لها إداريا.
أما ثالثها فاقتران ميلاد الاستشراق بتنامي ظاهرة الفضول العلمي لدى قسم كبير من الدارسين الأوربيين وجـد نفسه- في لحظة من تكوينه العلمي- منجذبا إلى ثقافة الآخر، غير الأوروبي، مدفوعا إلى التعرف إليها واكتشاف عوالمها. صحيح أن في جملة هؤلاء مـن كانوا في عداد بعـثات علمية أرسلتها حكومات أو شركات أوروبية إلى بلدان الشرق (الإسلامي والآسيوي)، واستفادوا من منح دراسية لهذا الغرض، وأعـدوا ليتجندوا في صفوف الإدارات الاستعمارية، ولكن هذه ما كانت حال المستشرقين جميعا، بل منهم من اختار، بإرادة حرة، أن يتخصص في دراسة بلدان الشرق، فيتعلم فيه أو في أقسام الدراسات الشرقية (والإسلامية) في الجامعات الأوروبية. والغالب على هذا الفضول العلمي أنه يذهب بمن سكنه إلى معرفة واحدة أو أكثر من لغات الشرق (أحيانا خمس لغات أو ست)، فيتفرغ لتعلمها من أجل قراءة تراث الحضارة المتخصص فيها بلغتها. وهكذا يصطنع هذا الفضول العلمي واحدة من أظهر السمات التي تميز الاستشراق عما قبله من «معرفة» بالإسلام والشرق عموما: معرفة لغاته وقراءة تـراثه بها.