تمر بالمرء فترات يتفكر فيها في شيء معين، فيسمع ما يشغله من لسان العارف النبيه، والمسكين الضعيف، ويراه في المحل الشريف والموضع القبيح؛ فكأنما الكون كله يتحرك معه في الاتجاه الذي يتفكر ويتأمل فيه، فتتفتق له الفتوح، ويصل إلى بر الطمأنينة وشط السكينة.

قبل فترة بسيطة، كانت حياتي تدور في فلك واحد منتظم، ثم توالت لحظات الصعود والهبوط مع هذا الموج الهادر من مشاغل الحياة وضرورياتها، ومفاجآت القدر وتصاريفه. ومن لطائف الأمور أنني كنت أستحضر أبياتا من الشعر مع كل صعود وهبوط لموج الحياة. وهو ما يحدث لكثير من الناس كذلك، وفي الحياة اليومية نجد لآلئ عِقدِ الأبياتِ المتداولة حاضرة في كل محفل، في الأفراح والأتراح.

ومن أحسن ما قرأت في فضائل النظم -الشعر-، ما كتبه أبو حيَّان التوحيدي في كتابه "الإمتاع والمؤانسة" في (الليلة الخامسة والعشرين) في فضائل النظم على النثر وفضائل النثر على النظم، حيث يورد قول السلاميِّ ضمن هذا الباب من عدة أقوال لأرباب اللغة والأدب، فيقول السلامي: "من فضائل النظم أن صار لنا صناعةً برأسها، وتكلم الناس في قوافيها، وتوسعوا في تصاريفها وأعاريضها، وتصرفوا بحورها، واطَّلعوا على عجائب ما استُخزن فيها من آثار الطبيعة الشريفة، وشواهد القدرة الصادقة، وما هكذا النثر، فإنه قصَّر عن هذه الذروة الشامخة، والقُلَّة العالية" ثم يضيف: "من فضائل النظم أنه لا يُغنَّى ولا يُحدَى إلا بجيدة، ولا يؤهَّل لِلَحنِ الطنطنة، ولا يُحلَّى بالإيقاع الصحيح غيرُه؛ لأن الطنطنات والنقرات والحركات والسكنات لا تتناسب إلا بعد اشتمال الوزن والنظم عليها، ولو كان فُعِلَ هذا بالنثر كان منقوصًا، كما لـو لم يُفعَل هذا بالنظم لكان محسوسًا. والغناء معروف الشرف، عجيب الأثر، عزيز القدر، ظاهر النفع في معاينة الروح، ومناغاة العقل، وتنبيه النفس، واجتلاب الطرب، وتفريج الكرب، وإثارة الهِزَّة، وإعادة العِزَّة، واذكار العهد، وإظهار النجدة، واكتساب السلوة، وما لا يُحصى عدده". وقد تعمدت إيراد قوله عن الغناء؛ لأنه في الحقيقة ينطبق على الشعر تماما، فهو معروف الشرف عجيب الأثر. فأما شرفه، فهو أنه لا يقدر على الشعر كل أحد وما هكذا النثر، كما قال السلامي. أما أثره، فنجد الإنسان يتشبث ببيتٍ فيه بارقة الأمل لليائس، كقول القائل:

وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ بها الفَتى

ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها

فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ

وهي من الأبيات السائرة، وكقول القائل لدى تبدل الأحوال وتقلبات الزمان:

وَمن صَحِبَ الدّنيا طَوِيلاً تَقَلّبَت

على عَيْنِهِ حتى يَرَى صِدْقَها كِذبَا

وصاحب البيت معروف، كيف لا وهو مالئ الدنيا وشاغل الناس، أبو الطيب المتنبي. وللمتنبي كتلميذه المعري أبيات متداولة بين العامة قبل الخاصة؛ وليس هنالك من دلالة أوضح من هذه على ما للشعر من قدرة على توصيف ما يختلج في النفس البشرية، وما يعتريها من تقلبات وآمال وتطلعات. ومن أبياته التي يستحضرها المرء عند شعوره بالخذلان والوحدة:

خَليلُكَ أنتَ لا مَن قُلتَ خِلّي

وإنْ كَثُرَ التّجَمّلُ والكَلامُ

أما قوله الذي نستعمله عند استحضار القوة والنشاط ومحاربة الخمول والكسل:

إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ

فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ

فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ

كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ

هكذا نجد الشعر ملاذا، عند الحبور والبهجة، والانكسار والخيبة. ولولا ولوج ذلك الشعر وملامسته لأعمق مواطن الروح؛ لما وجدناه حيا حاضرا يتداوله الناس حتى يومنا هذا، رغم البُعد الزمني والأحقاب المتوالية والتقلبات الكثيرة في الحياة وصروفها، والدول و ملوكها. وما الأمثلة التي ضربتها سوى غيض من فيض، وثمرة واحدة من شجرة يانعة مثمرة.