في تسعينيات القرن الماضي أفرطنا في الإيمان بالنصّ، وهو أمر ورثناه عن جيل السبعينيات والثمانينيّات الذي تتلمذنا عليه، وحتّى لمّا ردّد على مسامعنا أستاذنا الجليل البروفيسور حمادي صمود يوما وقد رآنا في دروس المرحلة الثالثة منطلقين في الإيمان بالنصّ وقدرته على الإمتاع، "إنّ الحياة أوسع من النصّ"، لم ننتبه إلى عمق تجربته وعقم اعتقادنا في النص، كنّا نرى الوجود بآلامه ومُتعه نصّا، ونحن جيل من سلالة أجيال نؤمن بالنصّ وبوسعه ولا محدودية آفاقه، نحن أبناء النصّ، كنّا نخال أنّ الحبّ نصّ وأنّ السياسة نصّ، وأنّ الدين نصّ، وأنّ الأدب نصّ، وأنّ النصّ أوسع من الحياة، لم نكن نعرف عشقا وولها يُمكن أن يخرج عن آفاق مجنون بني عامر أو عمر بن أبي ربيعة، ولم نكن نعرف بطولة تخرج عن سيف عنترة ومعلقة عمرو بن كلثوم. كنّا نرى الزمن رواية نؤخذ بأبطالها نشقى لشقائهم ونسعد لسعادتهم. فهل فعلا الواقع أفسح من النصّ وأوسع؟
عندما لها المعرّي بمبادئ الوجود وسخر منها بعمق الناظر فيها، آمنّا بقدرة الإنسان على التغيير، وتناغمنا مع شعره الوجودي الذي فيه يستوي الحزن والمرح والنواح والفرح، وقرأنا رسائله الهازئة بأشباه العارفين العالمين، وقرأنا نثره في "الفصول والغايات" وفي "رسالة الصاهل والشاحج" وفي "رسالة الغفران" التي عُدّت نصّا فارقا في تاريخ الأدب العالمي. فهل كان أبو العلاء المعرّي يعيش وسيع الحياة وهو يكتب "رسالة الغفران" لينطلق بخياله إلى عوالم ما ورائيّة لا يُمكن أن يبلغها وعيه العاقل، وهل كان في هذا الخيال الشاسع يُوجِدُ سبيلا لفعل ما لا يقدر على فعله في ضيق الحياة؟ وهل وجد طريقه عندما ألزم نفسه ما لا يلزم في شعره وزاد من سجونه ومن شجونه، عملا بما أقرّه من سجن جسديّ ووجوديّ ليضيف السجن الشكلي اللغويّ بالتزامه بقافيتين:
أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني
فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ
لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي
وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ
في نفس حياة النصّ، عشنا مع المتنبي نخوته وعلّته، تعاليه وارتفاعه عن باقي البشر، وبنائه للمعاني الفرديّة السامية، حتى النرجسية صارت قيمة جمالية، افتخرنا به، وكونت في جيلي تعاليا ورفعة وإيمانا بالذات، تأثّرنا بقوله:
أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي
وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ اللـ ـهُ وَما لَم يَخلُقِ
مُحتَقَرٌ في هِمَّتي كَشَعرَةٍ في مَفرِقي.
شعرنا بنخوة الإنسان واعتزازه، وحفظنا شعره وتنابزنا به، وارتحلنا مع نصوص عدد، منها النثريّ ومنها الشعريّ، التهمنا الروايات وعشناها حياة زادت من غربتنا في مواجهة واقع لا نخوة فيه ولا عزّة، لا تفكير في الوجود ولا آخر يسمع تهويمنا، كأنّنا في عالم غير عالم الحقّ، كنّا في عالم الباطل، عالم النصّ.
قرأنا ما كتبه نجيب محفوظ وعشنا هدهدة الرواية، الرواية التي تُمسكها وتعيشها فلا تتركها إلا بعد أن تقفلها لاهيا بها عن الأكل والاجتماع والناس، هي المتعة القصوى، وأذكر أنه في بداية التسعينيّات تمكّنت من الحصول على رواية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، وهي في خمسة أجزاء، فانقطعت عن الجامعة ووصلت الليل بالنهار وكأنّي في غمرة حرب، ولم أخرج من البيت إلا بعد الانتهاء منها.
حتّى الروايات البوليسيّة والألغاز منها، أخذت منّا حيّزا في طفولتنا وكنّا نتبادلها ونتداولها ونتمتّع بمغامراتها، وصنعت من حياتنا قسما، حتّى انفتحنا على "ملكة الجريمة" أجاثا كريستي وتتبّعنا رواياتها.
اصطدم جيلنا بالواقع وأدرك بعد حين من الزمن أنّ الواقع أوسع من النصّ وآلمُ، ولكنّنا لم ننعزل عن النصّ، بقينا نعيش عوالمه الممكنة، خارج التاريخ، وخارج الواقع، بقيت شخصيّات من روايات عدد، عربيّة أو عالميّة تعيش معنا، ونتمثّل بها في كلّ موقف، ونرى الوجود من أعمالها وخلالها وأقوالها، نرى ليلى محبوبة مثالا، هي قبلة العاشقين، ونرى بثينة جميل على عكس ما وسمها به معاوية بن أبي سفيان من سوء المنظر، امرأة تتشكّل من خلال وصف جميل له ووله بها، ونرى "سي السيد"، السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثيّة نجيب محفوظ، فندرك منها جزءا من آبائنا وأجدادنا، ونتعاطف مع "سعيد مهران" في "اللص والكلاب"، وهو الخارج عن القانون. كان عالما من النصّ، نصنع فيه الشخصيّات ونتعاطف معها أو نختلف، كان النصّ غالبا.
وما زلنا نعيش النص ونحيا حياته، ونؤمن به لأنّنا خارج التاريخ، وخارج واقع يعمل النصّ على تمثّله، غير أنّه لا يقدر على ذلك، الواقع أوسع من النصّ وأشسع.
وخرجنا من تاريخ الغلبةُ فيه لوسائط اجتماعيّة أكثر أثرا وفعلا من النصّ ومن الصورة؟ فكيف لهذا الجيل أن يتفاعل مع النصّ في مقاربة الواقع؟
واقع الجيل الجديد مختلف، هو واقع افتراضي، لا تمثّل فيه ولا لقاء فعليّا، هو عالمٌ يبني غربة واغترابا مع واقع مختلف، ويبقى السؤال الوجوديّ كيف يُمكن أن نضمن لهذا الجيل فهما سليما للنصّ، وإدراكا حقيقيا للواقع؟
هل هنالك أثرٌ -إيجابا أو سلبا- للنصّ في هذا الجيل، هل لهم شخصيّات من روايات يتأثرون بها ويتّخذون منها مواقف؟ وهل أنّ عزلة هذا الجيل عن النصّ هي عامل تحرّر من ضيق النصّ إلى فسيح الواقع، أو أنّ قاعدة الاستبدال هي الأغلب، بمعنى أنّ التاريخ استبدل النصّ بوسائط التواصل الاجتماعيّة التي صارت عالما تعيش فيه كائنات بشريّة؟
عندما لها المعرّي بمبادئ الوجود وسخر منها بعمق الناظر فيها، آمنّا بقدرة الإنسان على التغيير، وتناغمنا مع شعره الوجودي الذي فيه يستوي الحزن والمرح والنواح والفرح، وقرأنا رسائله الهازئة بأشباه العارفين العالمين، وقرأنا نثره في "الفصول والغايات" وفي "رسالة الصاهل والشاحج" وفي "رسالة الغفران" التي عُدّت نصّا فارقا في تاريخ الأدب العالمي. فهل كان أبو العلاء المعرّي يعيش وسيع الحياة وهو يكتب "رسالة الغفران" لينطلق بخياله إلى عوالم ما ورائيّة لا يُمكن أن يبلغها وعيه العاقل، وهل كان في هذا الخيال الشاسع يُوجِدُ سبيلا لفعل ما لا يقدر على فعله في ضيق الحياة؟ وهل وجد طريقه عندما ألزم نفسه ما لا يلزم في شعره وزاد من سجونه ومن شجونه، عملا بما أقرّه من سجن جسديّ ووجوديّ ليضيف السجن الشكلي اللغويّ بالتزامه بقافيتين:
أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني
فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ
لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي
وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ
في نفس حياة النصّ، عشنا مع المتنبي نخوته وعلّته، تعاليه وارتفاعه عن باقي البشر، وبنائه للمعاني الفرديّة السامية، حتى النرجسية صارت قيمة جمالية، افتخرنا به، وكونت في جيلي تعاليا ورفعة وإيمانا بالذات، تأثّرنا بقوله:
أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي
وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ اللـ ـهُ وَما لَم يَخلُقِ
مُحتَقَرٌ في هِمَّتي كَشَعرَةٍ في مَفرِقي.
شعرنا بنخوة الإنسان واعتزازه، وحفظنا شعره وتنابزنا به، وارتحلنا مع نصوص عدد، منها النثريّ ومنها الشعريّ، التهمنا الروايات وعشناها حياة زادت من غربتنا في مواجهة واقع لا نخوة فيه ولا عزّة، لا تفكير في الوجود ولا آخر يسمع تهويمنا، كأنّنا في عالم غير عالم الحقّ، كنّا في عالم الباطل، عالم النصّ.
قرأنا ما كتبه نجيب محفوظ وعشنا هدهدة الرواية، الرواية التي تُمسكها وتعيشها فلا تتركها إلا بعد أن تقفلها لاهيا بها عن الأكل والاجتماع والناس، هي المتعة القصوى، وأذكر أنه في بداية التسعينيّات تمكّنت من الحصول على رواية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، وهي في خمسة أجزاء، فانقطعت عن الجامعة ووصلت الليل بالنهار وكأنّي في غمرة حرب، ولم أخرج من البيت إلا بعد الانتهاء منها.
حتّى الروايات البوليسيّة والألغاز منها، أخذت منّا حيّزا في طفولتنا وكنّا نتبادلها ونتداولها ونتمتّع بمغامراتها، وصنعت من حياتنا قسما، حتّى انفتحنا على "ملكة الجريمة" أجاثا كريستي وتتبّعنا رواياتها.
اصطدم جيلنا بالواقع وأدرك بعد حين من الزمن أنّ الواقع أوسع من النصّ وآلمُ، ولكنّنا لم ننعزل عن النصّ، بقينا نعيش عوالمه الممكنة، خارج التاريخ، وخارج الواقع، بقيت شخصيّات من روايات عدد، عربيّة أو عالميّة تعيش معنا، ونتمثّل بها في كلّ موقف، ونرى الوجود من أعمالها وخلالها وأقوالها، نرى ليلى محبوبة مثالا، هي قبلة العاشقين، ونرى بثينة جميل على عكس ما وسمها به معاوية بن أبي سفيان من سوء المنظر، امرأة تتشكّل من خلال وصف جميل له ووله بها، ونرى "سي السيد"، السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثيّة نجيب محفوظ، فندرك منها جزءا من آبائنا وأجدادنا، ونتعاطف مع "سعيد مهران" في "اللص والكلاب"، وهو الخارج عن القانون. كان عالما من النصّ، نصنع فيه الشخصيّات ونتعاطف معها أو نختلف، كان النصّ غالبا.
وما زلنا نعيش النص ونحيا حياته، ونؤمن به لأنّنا خارج التاريخ، وخارج واقع يعمل النصّ على تمثّله، غير أنّه لا يقدر على ذلك، الواقع أوسع من النصّ وأشسع.
وخرجنا من تاريخ الغلبةُ فيه لوسائط اجتماعيّة أكثر أثرا وفعلا من النصّ ومن الصورة؟ فكيف لهذا الجيل أن يتفاعل مع النصّ في مقاربة الواقع؟
واقع الجيل الجديد مختلف، هو واقع افتراضي، لا تمثّل فيه ولا لقاء فعليّا، هو عالمٌ يبني غربة واغترابا مع واقع مختلف، ويبقى السؤال الوجوديّ كيف يُمكن أن نضمن لهذا الجيل فهما سليما للنصّ، وإدراكا حقيقيا للواقع؟
هل هنالك أثرٌ -إيجابا أو سلبا- للنصّ في هذا الجيل، هل لهم شخصيّات من روايات يتأثرون بها ويتّخذون منها مواقف؟ وهل أنّ عزلة هذا الجيل عن النصّ هي عامل تحرّر من ضيق النصّ إلى فسيح الواقع، أو أنّ قاعدة الاستبدال هي الأغلب، بمعنى أنّ التاريخ استبدل النصّ بوسائط التواصل الاجتماعيّة التي صارت عالما تعيش فيه كائنات بشريّة؟