(1)
ثمَّة مشكلة كبيرة في الكتابة: إننا نحكيها (حتى ولو كتبناها)، ولا نبلغ بها إلى الصمت (حتى ولو أنصتنا إليها)، ونتوسُّل فيها البوح (حتى ولو مجاهرة بالفضيحة)، ونتوسم فيها الدواء (حتى وإن اضطررنا للتعريض بالداء)، لكنها لا تقولنا ولا تُبَلْسِمُنا في كل الأحوال السابقة (وغيرها أيضاً من الأحوال القادمة).
وثمَّة، أيضاً، وبالتَّوازي، مشكلة هائلة لدى القواقع: البحر لا يفهم. أما الشطآن فهي تعلم أنها تقوم بدور لا تعرفه.
بهذا نطمئن إلى عدد المشاكل التي في حوزتنا.
(2)
في المرة الأولى أحببتك. وفي المرة الثانية لم يكن لي زَنْدٌ ولا كلمات.
وفي المرَّة الثالثة كان البحر.
"أيها المستحيل الرابع
ارفق بي
وتَحَقَّق" (قاسم حدَّاد).
(3)
في هذا الشأن الصعب والحزين لكل الأطراف (بمن في ذلك النُّقَّاد والمنظِّرين): نحن كُتَّاب أيتام، ونبحث عن قرَّاء يتيمين.
(4)
بعضهم، في تلك البلاد، يكتب بحماس فاقع ضد الظلم، والاختلاسات، والجور، والفساد، والرشاوي، والعسف، واستعباد خلق الله، والسرقات، وإهدار المال العام في ما لا ينفع من مشاريع.
بعضهم، في تلك البلاد لا يزال يزأر، ويجأر، ويعوي، وينبح في محاولة لإلهائنا عن صراع تقسيم الغنائم.
فليرحم الله ربَّنا الذي في أعالي السموات تلك البلاد، وليشفق على آذاننا وبقيَّة ما تبقى من حواسِّنا، وليساعدهم في تقسيم أكثر عدلاً للمنهوبات.
(5)
عندما كان صغيراً لم يكن ينتظر الليل على وجه الخصوص (بل العكس هو الصحيح، إذ الليل مكان وزمان للرعب الذي من أمثلته بعيرٌ مقطوع الرأس سينطلق في أي لحظة من لحظات الليل من "المَطْيَنَة" (أي المكان الذي يُستخرج منه الطين في القرية لصالح ما يحتاج إليه الأهالي من طين في البناء وما إلى ذلك) ليلتهم رأس الصبي الصغير في عقاب على ما اقترفه من آثام.
لكن الولد كان بالتأكيد يريد الاستقالة من تعب النهار، بكل ما فيه، كي يحدِّق الولد في القمر ويعدُّ النجوم وهي تطلع بتكاثر يستعصي على قدرته في الحساب، حتى يأخذه النوم قبل أن يكمل العد، فيعيد الكرَّة في الليلة التالية.
لكنه، بعد تكرر الإخفاق واستمراره، أدرك أصل المشكلة وكُنْه طبيعتها: إنه لا يستطيع حساب عدد النجوم في السماء؛ لأنه لا يملك إضاءة تنطلق من الأرض كي تكشفها، فيحسبها هو نجمة نجمة.
ولذلك، فبعد توسلات وإذلالات نموذجيَّة ومعتادة أعطاه والده "بجلي" (المصباح الكهربائي ذي البطاريتين الأسطوانيتين) من دون أن يكشف الولد للأب الغرض، خاصة وأن الثاني لا بد أن يعرف سبب طلب التنفس أصلاً. هذه كانت حيلته.
وهكذا، فبعد صلاة العشاء، صار الولد يضغط على زر "البجلي" ويوجه الضوء للسماء كي يحسب عدد النجوم.
ينظر الليلة، بعد سنوات طويلة من ذلك، إلى السماء، ثم يبدأ في عدِّ النجوم (من غير "بجلي" هذه المرة).
(6)
قطة تموء
كسرة خبز تتحشرج
لا يستطيع الشِّعر أن يبدأ.
(7)
الدواء ليس الشفاء، بل الإقرار بالمرض.
(8)
أربعة سادة في الجحيم: هو، والشيطان، والملاك، وأنا.
(9)
اعلمي أن هذا السر الكبير الخطير السَّر الوثير الأثير ليس إلا من مؤجلات الفضيحة الصغيرة.
(10)
في الحطب، عند المدفأة، بمحاذاة النار، قرب النهر، ثياب وأرواح تتنزه.
(11)
لم أعد أقيم في جسدي (غادرته آسفاً وغير نادم منذ زمن لا بأس به)، بل صرت أتعامل معه ضمن معطيات فكرة الكراء فحسب (خاصة حين تحلُّ أقصى درجات الرعب والخوف من أربع جهات الأرض).
هذا فيما يخصني عن جسدي، أما فيما يخص جسدي عني فلا أعرف.
(12)
يدرِّب الجوع البعض ممن "لا يجد قوت يومه ولا يخرج على الناس شاهراً سيفه" على المزيد من شحذ أساليب التذلل، والخنوع، والتوسل.
ولله في خلقه شؤون.
(13)
المعركة ضد الأغبياء قصيرة، وحاسمة، وبلا أدنى خسائر. أما المعركة ضد السُّذج فطويلة أكثر مما ينبغي، وبعدد كبير من الخسائر.
(14)
متى ستتخلص من كل هذه السُّلطات دفعة واحدة: سُلطة الحب، سُلطة الوجد، سُلطة الواجب، سلطة الشجن، سلطة الشفقة، سلطة الاعتذار، سلطة اللامبالاة، سلطة الحقد ووجوب الضغينة، سلطة الوفاء والإخلاص، سُلطة الحق والعدل والحب والحرية والجَمال، سُلطة الحنين والفقد، سُلطة التضحية، سلطة الخمر، سُلطة الأصدقاء والأعداء والرفاق، سُلطة الدولة والجبهة والحزب والكتابة، سُلطة الأب، سلطة البحر، سُلطة الرضاعة، سلطة الأرق والاكتئاب، سُلطة الضحكة، سُلطة الدمعة، سُلطة المستحيل، سُلطة مشهد معيَّن في فيلم "الكابوس المُعَطَّر" للفلبِّيني كيلدات تاهيميك حيث القول الرَّبَّاني: "فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربِّي فلما أفل قال لا أحب الآفلين"/ )"الأنعام"( ممزوجاً بلقطات هبوط الإنسان على سطح القمر ولقطات أخرى: (واستطراداً: صار يؤسف المرء حقَّاً ما يتردد - من دون أن يعني ما يتردد انه الحقيقة - من إن تاهيميك صار أقرب إلى صفة المشعوذ/ المهرِّج أكثر منه مخرجاً سينمائيَّاً فريداً راهنت عليه "السينما الثالثة" بدعمٍ تمويليٍّ من فِرنَر هِرتزوغ، وكتابة نظريَّة ثاقبة من فردرك جِيميسُن في كتابه الشهير "الجماليَّات الجيوسياسيَّة: السينما والمكان/ الفضاء في النظام العالمي"، كما ذكَّر سوزان سونتاغ بأن "الاختراع، الغطرسة، السِّحر - بل حتى البراءة - يمكن أن تكون متوافرة في السينما".
متى ستقول مع نيكوس كازانتزاكي: "أنا ما تعبتُ، ولكن الشمس غربت"؟
متى؟
ثمَّة مشكلة كبيرة في الكتابة: إننا نحكيها (حتى ولو كتبناها)، ولا نبلغ بها إلى الصمت (حتى ولو أنصتنا إليها)، ونتوسُّل فيها البوح (حتى ولو مجاهرة بالفضيحة)، ونتوسم فيها الدواء (حتى وإن اضطررنا للتعريض بالداء)، لكنها لا تقولنا ولا تُبَلْسِمُنا في كل الأحوال السابقة (وغيرها أيضاً من الأحوال القادمة).
وثمَّة، أيضاً، وبالتَّوازي، مشكلة هائلة لدى القواقع: البحر لا يفهم. أما الشطآن فهي تعلم أنها تقوم بدور لا تعرفه.
بهذا نطمئن إلى عدد المشاكل التي في حوزتنا.
(2)
في المرة الأولى أحببتك. وفي المرة الثانية لم يكن لي زَنْدٌ ولا كلمات.
وفي المرَّة الثالثة كان البحر.
"أيها المستحيل الرابع
ارفق بي
وتَحَقَّق" (قاسم حدَّاد).
(3)
في هذا الشأن الصعب والحزين لكل الأطراف (بمن في ذلك النُّقَّاد والمنظِّرين): نحن كُتَّاب أيتام، ونبحث عن قرَّاء يتيمين.
(4)
بعضهم، في تلك البلاد، يكتب بحماس فاقع ضد الظلم، والاختلاسات، والجور، والفساد، والرشاوي، والعسف، واستعباد خلق الله، والسرقات، وإهدار المال العام في ما لا ينفع من مشاريع.
بعضهم، في تلك البلاد لا يزال يزأر، ويجأر، ويعوي، وينبح في محاولة لإلهائنا عن صراع تقسيم الغنائم.
فليرحم الله ربَّنا الذي في أعالي السموات تلك البلاد، وليشفق على آذاننا وبقيَّة ما تبقى من حواسِّنا، وليساعدهم في تقسيم أكثر عدلاً للمنهوبات.
(5)
عندما كان صغيراً لم يكن ينتظر الليل على وجه الخصوص (بل العكس هو الصحيح، إذ الليل مكان وزمان للرعب الذي من أمثلته بعيرٌ مقطوع الرأس سينطلق في أي لحظة من لحظات الليل من "المَطْيَنَة" (أي المكان الذي يُستخرج منه الطين في القرية لصالح ما يحتاج إليه الأهالي من طين في البناء وما إلى ذلك) ليلتهم رأس الصبي الصغير في عقاب على ما اقترفه من آثام.
لكن الولد كان بالتأكيد يريد الاستقالة من تعب النهار، بكل ما فيه، كي يحدِّق الولد في القمر ويعدُّ النجوم وهي تطلع بتكاثر يستعصي على قدرته في الحساب، حتى يأخذه النوم قبل أن يكمل العد، فيعيد الكرَّة في الليلة التالية.
لكنه، بعد تكرر الإخفاق واستمراره، أدرك أصل المشكلة وكُنْه طبيعتها: إنه لا يستطيع حساب عدد النجوم في السماء؛ لأنه لا يملك إضاءة تنطلق من الأرض كي تكشفها، فيحسبها هو نجمة نجمة.
ولذلك، فبعد توسلات وإذلالات نموذجيَّة ومعتادة أعطاه والده "بجلي" (المصباح الكهربائي ذي البطاريتين الأسطوانيتين) من دون أن يكشف الولد للأب الغرض، خاصة وأن الثاني لا بد أن يعرف سبب طلب التنفس أصلاً. هذه كانت حيلته.
وهكذا، فبعد صلاة العشاء، صار الولد يضغط على زر "البجلي" ويوجه الضوء للسماء كي يحسب عدد النجوم.
ينظر الليلة، بعد سنوات طويلة من ذلك، إلى السماء، ثم يبدأ في عدِّ النجوم (من غير "بجلي" هذه المرة).
(6)
قطة تموء
كسرة خبز تتحشرج
لا يستطيع الشِّعر أن يبدأ.
(7)
الدواء ليس الشفاء، بل الإقرار بالمرض.
(8)
أربعة سادة في الجحيم: هو، والشيطان، والملاك، وأنا.
(9)
اعلمي أن هذا السر الكبير الخطير السَّر الوثير الأثير ليس إلا من مؤجلات الفضيحة الصغيرة.
(10)
في الحطب، عند المدفأة، بمحاذاة النار، قرب النهر، ثياب وأرواح تتنزه.
(11)
لم أعد أقيم في جسدي (غادرته آسفاً وغير نادم منذ زمن لا بأس به)، بل صرت أتعامل معه ضمن معطيات فكرة الكراء فحسب (خاصة حين تحلُّ أقصى درجات الرعب والخوف من أربع جهات الأرض).
هذا فيما يخصني عن جسدي، أما فيما يخص جسدي عني فلا أعرف.
(12)
يدرِّب الجوع البعض ممن "لا يجد قوت يومه ولا يخرج على الناس شاهراً سيفه" على المزيد من شحذ أساليب التذلل، والخنوع، والتوسل.
ولله في خلقه شؤون.
(13)
المعركة ضد الأغبياء قصيرة، وحاسمة، وبلا أدنى خسائر. أما المعركة ضد السُّذج فطويلة أكثر مما ينبغي، وبعدد كبير من الخسائر.
(14)
متى ستتخلص من كل هذه السُّلطات دفعة واحدة: سُلطة الحب، سُلطة الوجد، سُلطة الواجب، سلطة الشجن، سلطة الشفقة، سلطة الاعتذار، سلطة اللامبالاة، سلطة الحقد ووجوب الضغينة، سلطة الوفاء والإخلاص، سُلطة الحق والعدل والحب والحرية والجَمال، سُلطة الحنين والفقد، سُلطة التضحية، سلطة الخمر، سُلطة الأصدقاء والأعداء والرفاق، سُلطة الدولة والجبهة والحزب والكتابة، سُلطة الأب، سلطة البحر، سُلطة الرضاعة، سلطة الأرق والاكتئاب، سُلطة الضحكة، سُلطة الدمعة، سُلطة المستحيل، سُلطة مشهد معيَّن في فيلم "الكابوس المُعَطَّر" للفلبِّيني كيلدات تاهيميك حيث القول الرَّبَّاني: "فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربِّي فلما أفل قال لا أحب الآفلين"/ )"الأنعام"( ممزوجاً بلقطات هبوط الإنسان على سطح القمر ولقطات أخرى: (واستطراداً: صار يؤسف المرء حقَّاً ما يتردد - من دون أن يعني ما يتردد انه الحقيقة - من إن تاهيميك صار أقرب إلى صفة المشعوذ/ المهرِّج أكثر منه مخرجاً سينمائيَّاً فريداً راهنت عليه "السينما الثالثة" بدعمٍ تمويليٍّ من فِرنَر هِرتزوغ، وكتابة نظريَّة ثاقبة من فردرك جِيميسُن في كتابه الشهير "الجماليَّات الجيوسياسيَّة: السينما والمكان/ الفضاء في النظام العالمي"، كما ذكَّر سوزان سونتاغ بأن "الاختراع، الغطرسة، السِّحر - بل حتى البراءة - يمكن أن تكون متوافرة في السينما".
متى ستقول مع نيكوس كازانتزاكي: "أنا ما تعبتُ، ولكن الشمس غربت"؟
متى؟