فيلم «بعد الشمس»

يعدُ هذا الفيلم الأول لصانعته المؤلفة والمخرجة الأسكتلندية شارلوت ويليز، ومنذ المشاهد الأولى منه يذكرنا إيقاع الفيلم بفيلم آخر عظيم هو Boyhood الذي أنتج عام 2014. يتناول الفيلم قصة أب يبلغ الآن ثلاثين عاما، يصحب ابنته ذات الأحد عشر عاما في عطلة لأحد المنتجعات التركية في التسعينيات، نعيش طوال عرض الفيلم حالة من الترقب كأن كل شيء يقف على الهاوية، كأننا على حافة السقوط في شيء لا نعرفه، رغم أن كل ما يحدث عادي وبسيط وتحيطه الشمس بأشعتها، كأن نظن أن الأب الذي قرر أن يختبر تجربة الغوص في البحر، وكان قد كذب بشأن امتلاكه لرخصة الغوص، سيغرق عما قريب بلا شك.

إنه إذن اختبار لإيماننا الذي يقنعنا أن الأحداث التراجيدية الكبيرة وحدها الدرامية والهائلة التي يمكن أن تنهي حياة الإنسان، هكذا طوال الفيلم تنجح المخرجة في ربطنا بتلك المشاهد اليومية في حالة من الإثارة والانتظار، وهنالك حالة أخرى ينجح الفيلم في التقاطها وكأنها «مزاج» وهي الصبا والاقتراب منه، لقد ذكرني في كل المشاهد التي تراقب فيها صوفي أباها والآخرين بثلاثية الصبا للإيطالي بافيزي، التي ترجم منها للعربية الجزئيين الأوليين: الصيف الجميل، والشيطان فوق التلال، إنه بلا شك واحد من أهم وأجمل أفلام هذا العام.

فيلم «قائمة الطعام»

كانت توقعاتي من الفيلم عالية، أول فكرة خطرت على بالي أثناء المشاهدة هو انشغال السينما في عام 2022 بنقد النظام الطبقي، وعدم المساواة، والتقاليد المتكلفة للحياة الارستقراطية، واعتمادها على الكوميديا، الديستوبيا، وأفلام «الأبوكالبيس» الوقوف على نهاية العالم؛ لمعالجة هذه الفكرة، فهنالك فيلم « Glass Onion- وفيلم triangle of sadness الذي كتبتُ عنه في الحلقة السابقة من هذه المقالة.

مشكلتي مع هذا النوع من الأفلام، هو افتقاد الخيال، والغموض الساحر للسينما، الذي ينكشف عبر سلسلة من الألاعيب التي تهدف لمعالجة قضية ما فحسب، حسنا ما الذي تفعله الصورة السينمائية إذن؟ لماذا السينما تحديدا؟ إن كل القصة أشبه بأحجية، وهي رمزية بطبيعة الحال أو تحاول استخدام الترميز، وتتملق المشاهد. ففي هذا الفيلم مثلا هنالك فريقان نتعرف عليهما كلما مضى الوقت، الأول فريق المطهو لهم، والثاني فريق الطهاة، الفريق الأول يستحقون العقاب على نفوذهم ومالهم وفسادهم وتلاعبهم، حتى أن هنالك فنانا يسأل لماذا أعاقب أنا؟ فيبدأ «الشيف» بمحاكمته على أنه شاهد له فيلما في يوم عطلته الوحيد «الأحد»، وكان سيئا للغاية، فلماذا يحيد الفنان عن هدفه ورسالته؟ بهذه الفجاجة، يتم تناول كل شيء في هذا الفيلم، حتى النقد الموجة للنظام الذكوري في الفيلم بليد للغاية. الفيلم يفتقد بصورة حقيقية للحيوية، وللتفكير الفني.

الجزء الثاني من فيلم «أخرجوا السكاكين» - Glass Onion

على عكس الفيلم السابق، فهذا الفيلم يتفوق في مناطق عديدة؛ إذ ينجح في توظيف الإثارة وشخصية المحقق الخاصة الذي ينجح دوما في اكتشاف ملابسات الجريمة، حتى أداء الممثل دانيال كريغ رائع، فهو وإن كان جادا إلا أنه يكون كذلك في مواقف تلتمع بالمفارقة، مما يجعل جديته ساخرة ومحبوكة؛ لتخدم السياقات التي يعالجها الفيلم. هو فيلم آخر إذن يدعو فيه رجل ثري جدا، أصدقائه لحفلة على جزيرته الخاصة، إلا أن جريمة قتل تحدث هناك، تضع كل شخصيات الفيلم أمام علاقتهم بهذا الصديق وبذواتهم، درجة خضوعهم لسلطته وجبروته وماله، وتخليهم عن مبادئهم وقيمهم؛ لتحقيق مصالحهم الشخصية. وهم يجسدون تمثيلات متنوعة للناس في المجتمع، المرأة السياسية التي تتفوق على منافسيها، العالمِ الذي يقضي وقتا طويلا في مختبره، «الفاشنيستا» المؤثرة في المجتمع بحكم أتباعها، والرجل القوي الذي يحمل قيما بيضاء، ويظهر يمينيا ساخرا من النسوية ومن اليسار.

«فيلم النجوم في الظهيرة»

الفيلم الحائز على جائزة النقاد الكبرى في مهرجان كان السينمائي عام 2022 يخلق مزاجا متيقظا وشاحبا في الوقت نفسه أثناء المشاهدة. فالشخصية الرئيسية في الفيلم تعمل صحفية، وهي كما نفهم في مهمة عمل صحفي في نيكارغوا، إذن في الخلفية ما يحدث في هذه البلاد من صراعات وتحالفات، القصة في أيام كورونا، وهذا لا يبدو هامشيا فالمخرجة تنتبه وتنبهنا للكمامات، وما يحدث بسبب الجائحة بنعومة كبيرة وفائقة، قد تكون قصة الفيلم عن الشوق غير المحدود؛ للاستغراق فيما هو بعيد عن الواقع العنيف الذي تعيش فيه الشخصيات، إنه عن هوس الانجراف بعيدا مهما بلغ الثمن، وعن الوقوف على حواف الأشياء بدلاً من القفز من عليها أو حتى النظر إليها من مكان خفيض. فشريك البطلة المتهم بشيء لا نعرفه، لا تتوقف هي عن الهرب معه ومساعدته، دون أن تتوقف لتسأله مرة واحدة فحسب: ما الذي يجري هنا؟ لماذا يريدونك فهذا لا يبدو مهما على الإطلاق.

عندما يسألها دانيال عن سبب قدومها إلى نيكاراغوا رغم ظروفها تجيب: «أردت أن أعرف الأبعاد الحقيقية للجحيم»، والفيلم مخلص لهذه العبارة جدا، إنه عن رغبة وحشية ضارية قد لا نعرف ما الذي تريده تماما، ومع ذلك فإن لها وجودها الخاص والحقيقي الذي يلقي بنفسه عبئا على كل شيء من حولنا في هذه الحياة.

هذا الفيلم يأتي للمخرجة الفرنسية «كلير جينس» بعد فيلمها الرائع جدا» Both sides of the blade بطولة جولييت بينوش، يتميز هو الآخر بحضور الجسد والحب والرغبات المكتومة، والهشاشة العالية. شاهدتُ الفيلمين على نحو متتالٍ، وكانت بحد ذاتها تجربة مميزة.