ترجمة قاسم مكي -
من الصعب ألاَّ تتَّجه الأنظار إلى "الدراما" التي تتكشَّف في مجلس النواب الأمريكي حيث يدخل الحزب الجمهوري في انهيار عصبي على مرأي من الناس. هذه الأزمة (أزمة الفشل في انتخاب رئيس لمجلس النواب) من صنع الحزب بأكملها.
ظل الحزب الجمهوري وعلى مدى عقود يشحن قاعدته الانتخابية بغضب أخلاقي من خلال الوعد بسياسات جذرية تحقق إشباعا عاطفيا لناخبيه المتشددين وتتراوح من التخلي عن برامج الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي إلى التخلف عن سداد الدين الوطني والقضاء على كل الوكالات الحكومية. لكن لأن هذه السياسات غير عملية تماما لن تحدث أبدا.
الدرس الذي استوعبته هذه القاعدة هو أن المعتدلين الجبناء (في الحزب الجمهوري) ظلوا يخونونها دائما. والحل الآن هو إحكام قبضة دائمة على رئيس مجلس النواب لضمان أنه سينفذ دائما ما يريده المتشددون. وهذه، كما ينوِّه عديدون، وصفة للابتزاز المستمر والفوضى الدائمة.
متاعب الحزب الجمهوري مستفحلة. فقد أبلغ نيوت جينجريتش الموقع الاخباري الأمريكي "آكسيوس" أن الحزب في أسوأ حال خلال ما يقرب من ستة عقود تقريبا. لكنه ليس وحده. ففي بلدان عديدة حول العالم الشعبويون يتخبطون.
انظروا إلى بريطانيا حيث أشاعت سياسة البريكست (الشعبوية) الفوضى داخل حزب المحافظين الذي كان يوصف بالحزب السياسي الأقدم والأكثر نجاحا. لقد تناوب على بريطانيا خمسة رؤساء وزارة في ست سنوات منذ عام 2016. أما الفترات التي قضاها رؤساء الوزارة الخمسة السابقون لهم في الحكم فقد فاقت في مجموعها 30 عاما. ويستمر قرار بريطانيا غير المفيد بالخروج من أكبر سوق لها وهو الإتحاد الأوروبي في إضعاف آفاقها الاقتصادية. ولايزال اقتصادها الأضعف بين اقتصادات مجموعة السبع. أما في مجموعة العشرين فروسيا فقط هي التي من المتوقع أن تكون أسوأ أداء من بريطانيا في المستقبل القريب.
الحكاية شبيهة بذلك في أمريكا الجنوبية. إذ على الرغم من أن تلك القارة اجتاحتها الشعبوية من اليمين واليسار كليهما إلا أن أيا من النسختين الشعبويتين (اليمينية واليسارية) لم يكن أداؤها جيدا. في البرازيل خسر جايير بولسونارو محاولة إعادة انتخابه. لكن الفائز وهو الرئيس السابق لويس ايناسيو لولا دا سيلفا سيجد أيضا أن من الصعب الوفاء ببعض وعوده الانتخابية الأكثر جذرية.
وفي شيلي توحَّد الشعبويون اليساريون حول خطة لإعادة كتابة الدستور بأكمله وطرح دستور جديد قد يعتبره حتى الساسة من يسار الوسط متطرفا وغير قابل للتطبيق. في الاستفتاء الذي أعقب ذلك أدلى 86% من الشيليين بأصواتهم ورفضوا الدستور الجديد بنسبة كبيرة بلغت 62%.
على الجانب الآخر من الكرة الأرضية في استراليا تبنى الساسة اليمينيون سياسات ولغة من صنف سياسات ولغة ترامب.
في ظل حكم رئيس الوزراء سكوت موريسون تحدث هؤلاء الساسة بِلُغَةٍ عكست "سياسة استياء" الناخبين البيض والكبار في السن واستثاروا خوف استراليا من أخطار الهجرة والجريمة وعصابات "الأفارقة" الذين حسب افتراضهم يجوسون خلال ولاية فكتوريا. لكن موريسون أخفق في التعامل مع جائحة كوفيد-19 ولم يحقق نجاحا يذكر في الاقتصاد. وفي الانتخابات الأخيرة تعرض محافظو أستراليا إلى أسوأ خسارة على الإطلاق. حتى أداء الحزبَين المتطرفَين "استراليا الموحدة وأمة واحدة" كان بائسا أيضا. ويتمتع رئيس الوزراء العمالي الجديد بمعدل تأييد استثنائي.
لماذا يحدث هذا؟ تزدهر الشعبوية كحركة معارضة. فهي تدين المؤسسة القائمة وتثير المخاوف وتشجع على حَبْك نظرياتِ المؤامرة عن النخب الحاكمة "الشريرة" وتَعِد الناخبين باستجابات عاطفية بدلا عن برامج فعلية (بناء جدار وحظر الهجرة ووقف التجارة). لكن بمجرد أن تتولى الحكم تنكشف ضحالة سياساتها المقترحة ولا يمكن لقادتها حينها إلقاء اللوم على الآخرين بسهولة. ولو كانت القوى غير الشعبوية تتحلَّى بحسن التقدير وبالقدرة على الفعل لخفَّفت من أذى بعض أطراف اليمين الشعبوي.
في الولايات المتحدة حقق الأسلوب المعتدل والسَمْتُ الجَّاد وصياغة السياسات العملية للرئيس بايدن إنجازاتٍ تشريعية كبيرة دون أن تستثير رد فعل انتخابي واسع النطاق. إنه الآن يستفيد حقا من كونه رجلا أبيضا ومُسِنَّا. ولديِّ إحساس أن باراك أوباما إذا كان قد شَرَّع نفس هذه السياسات لكان قد سمع الكثير عن "اشتراكية" أوباما الخطرة وسياساته التي لا تشبه أمريكا، وكل ذلك مع إشارات عرقية.
الأرجنتين كانت دائما الممثل البارز للشعبوية. أسس خوان بيرون وزوجته الأكثر كاريزمية إيفا حركة جماهيرية قوية هاجمت النخب ووعدت بأن تكون صوت الشعب. لكنهما في الحقيقة دمرا اقتصاد الأرجنتين. فما كانت يوما ما أحد أغنى بلدان العالم في العشرية الثانية من القرن الماضي صارت بعد عقود قليلة دولة فاشلة ماليَّا.
ومنذ ذلك الوقت ظل الساسة الأرجنتينيون يعدون الناخبين بالمستحيل ويراكمون ديونا تصيب المرء بالدوار ثم يعجزون عن السداد مرارا وتكرارا. لكن الآن الأمور ساءت بالنسبة لهم وذلك ما دفع مجلة الإيكونومست إلى التنويه بأن "مَدَّ" الحركة الشعبوية الأرجنتينية في أدنى "انحساره". فقد ذكر الرئيس الأرجنتيني السابق إدواردو دوالْده للمجلة أن البيرونية "كما هو واضح، السبب الرئيسي لما حل بالأرجنتين." وأضاف "نحن اليوم في أسوأ لحظاتنا."
هذه التوجُّهات والنزعات ليست دائمة. فمشاكل العالم المعقدة دائما ما تتيح لأحدهم اقتراح أجوبة بسيطة ومغرية وخاطئة.
لكن دعونا نأمل في أن يشهد عام 2023 فضح حقيقة الشعبوية.
• فريد زكريا كاتب رأي في صحيفة واشنطن بوست ومقدم برنامج يتناول القضايا الدولية والشئون الخارجية على شبكة سي إن ان.
** عن جريدة الفاينانشال تايمز
من الصعب ألاَّ تتَّجه الأنظار إلى "الدراما" التي تتكشَّف في مجلس النواب الأمريكي حيث يدخل الحزب الجمهوري في انهيار عصبي على مرأي من الناس. هذه الأزمة (أزمة الفشل في انتخاب رئيس لمجلس النواب) من صنع الحزب بأكملها.
ظل الحزب الجمهوري وعلى مدى عقود يشحن قاعدته الانتخابية بغضب أخلاقي من خلال الوعد بسياسات جذرية تحقق إشباعا عاطفيا لناخبيه المتشددين وتتراوح من التخلي عن برامج الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي إلى التخلف عن سداد الدين الوطني والقضاء على كل الوكالات الحكومية. لكن لأن هذه السياسات غير عملية تماما لن تحدث أبدا.
الدرس الذي استوعبته هذه القاعدة هو أن المعتدلين الجبناء (في الحزب الجمهوري) ظلوا يخونونها دائما. والحل الآن هو إحكام قبضة دائمة على رئيس مجلس النواب لضمان أنه سينفذ دائما ما يريده المتشددون. وهذه، كما ينوِّه عديدون، وصفة للابتزاز المستمر والفوضى الدائمة.
متاعب الحزب الجمهوري مستفحلة. فقد أبلغ نيوت جينجريتش الموقع الاخباري الأمريكي "آكسيوس" أن الحزب في أسوأ حال خلال ما يقرب من ستة عقود تقريبا. لكنه ليس وحده. ففي بلدان عديدة حول العالم الشعبويون يتخبطون.
انظروا إلى بريطانيا حيث أشاعت سياسة البريكست (الشعبوية) الفوضى داخل حزب المحافظين الذي كان يوصف بالحزب السياسي الأقدم والأكثر نجاحا. لقد تناوب على بريطانيا خمسة رؤساء وزارة في ست سنوات منذ عام 2016. أما الفترات التي قضاها رؤساء الوزارة الخمسة السابقون لهم في الحكم فقد فاقت في مجموعها 30 عاما. ويستمر قرار بريطانيا غير المفيد بالخروج من أكبر سوق لها وهو الإتحاد الأوروبي في إضعاف آفاقها الاقتصادية. ولايزال اقتصادها الأضعف بين اقتصادات مجموعة السبع. أما في مجموعة العشرين فروسيا فقط هي التي من المتوقع أن تكون أسوأ أداء من بريطانيا في المستقبل القريب.
الحكاية شبيهة بذلك في أمريكا الجنوبية. إذ على الرغم من أن تلك القارة اجتاحتها الشعبوية من اليمين واليسار كليهما إلا أن أيا من النسختين الشعبويتين (اليمينية واليسارية) لم يكن أداؤها جيدا. في البرازيل خسر جايير بولسونارو محاولة إعادة انتخابه. لكن الفائز وهو الرئيس السابق لويس ايناسيو لولا دا سيلفا سيجد أيضا أن من الصعب الوفاء ببعض وعوده الانتخابية الأكثر جذرية.
وفي شيلي توحَّد الشعبويون اليساريون حول خطة لإعادة كتابة الدستور بأكمله وطرح دستور جديد قد يعتبره حتى الساسة من يسار الوسط متطرفا وغير قابل للتطبيق. في الاستفتاء الذي أعقب ذلك أدلى 86% من الشيليين بأصواتهم ورفضوا الدستور الجديد بنسبة كبيرة بلغت 62%.
على الجانب الآخر من الكرة الأرضية في استراليا تبنى الساسة اليمينيون سياسات ولغة من صنف سياسات ولغة ترامب.
في ظل حكم رئيس الوزراء سكوت موريسون تحدث هؤلاء الساسة بِلُغَةٍ عكست "سياسة استياء" الناخبين البيض والكبار في السن واستثاروا خوف استراليا من أخطار الهجرة والجريمة وعصابات "الأفارقة" الذين حسب افتراضهم يجوسون خلال ولاية فكتوريا. لكن موريسون أخفق في التعامل مع جائحة كوفيد-19 ولم يحقق نجاحا يذكر في الاقتصاد. وفي الانتخابات الأخيرة تعرض محافظو أستراليا إلى أسوأ خسارة على الإطلاق. حتى أداء الحزبَين المتطرفَين "استراليا الموحدة وأمة واحدة" كان بائسا أيضا. ويتمتع رئيس الوزراء العمالي الجديد بمعدل تأييد استثنائي.
لماذا يحدث هذا؟ تزدهر الشعبوية كحركة معارضة. فهي تدين المؤسسة القائمة وتثير المخاوف وتشجع على حَبْك نظرياتِ المؤامرة عن النخب الحاكمة "الشريرة" وتَعِد الناخبين باستجابات عاطفية بدلا عن برامج فعلية (بناء جدار وحظر الهجرة ووقف التجارة). لكن بمجرد أن تتولى الحكم تنكشف ضحالة سياساتها المقترحة ولا يمكن لقادتها حينها إلقاء اللوم على الآخرين بسهولة. ولو كانت القوى غير الشعبوية تتحلَّى بحسن التقدير وبالقدرة على الفعل لخفَّفت من أذى بعض أطراف اليمين الشعبوي.
في الولايات المتحدة حقق الأسلوب المعتدل والسَمْتُ الجَّاد وصياغة السياسات العملية للرئيس بايدن إنجازاتٍ تشريعية كبيرة دون أن تستثير رد فعل انتخابي واسع النطاق. إنه الآن يستفيد حقا من كونه رجلا أبيضا ومُسِنَّا. ولديِّ إحساس أن باراك أوباما إذا كان قد شَرَّع نفس هذه السياسات لكان قد سمع الكثير عن "اشتراكية" أوباما الخطرة وسياساته التي لا تشبه أمريكا، وكل ذلك مع إشارات عرقية.
الأرجنتين كانت دائما الممثل البارز للشعبوية. أسس خوان بيرون وزوجته الأكثر كاريزمية إيفا حركة جماهيرية قوية هاجمت النخب ووعدت بأن تكون صوت الشعب. لكنهما في الحقيقة دمرا اقتصاد الأرجنتين. فما كانت يوما ما أحد أغنى بلدان العالم في العشرية الثانية من القرن الماضي صارت بعد عقود قليلة دولة فاشلة ماليَّا.
ومنذ ذلك الوقت ظل الساسة الأرجنتينيون يعدون الناخبين بالمستحيل ويراكمون ديونا تصيب المرء بالدوار ثم يعجزون عن السداد مرارا وتكرارا. لكن الآن الأمور ساءت بالنسبة لهم وذلك ما دفع مجلة الإيكونومست إلى التنويه بأن "مَدَّ" الحركة الشعبوية الأرجنتينية في أدنى "انحساره". فقد ذكر الرئيس الأرجنتيني السابق إدواردو دوالْده للمجلة أن البيرونية "كما هو واضح، السبب الرئيسي لما حل بالأرجنتين." وأضاف "نحن اليوم في أسوأ لحظاتنا."
هذه التوجُّهات والنزعات ليست دائمة. فمشاكل العالم المعقدة دائما ما تتيح لأحدهم اقتراح أجوبة بسيطة ومغرية وخاطئة.
لكن دعونا نأمل في أن يشهد عام 2023 فضح حقيقة الشعبوية.
• فريد زكريا كاتب رأي في صحيفة واشنطن بوست ومقدم برنامج يتناول القضايا الدولية والشئون الخارجية على شبكة سي إن ان.
** عن جريدة الفاينانشال تايمز