بين اكتساب الحسنة وهي الأصل، واكتساب السيئة وهي الاستثناء، فاصل دقيق، هذا الفاصل قد يكون ماديا -ممارسة مباشرة لفعل الحسنة أو السيئة- وقد يكون معنويا -ما تجيش به الصدور- لحظة ممارسة فعل الحسنة أو السيئة، والمعنوية هنا؛ تذهب إلى حيث النية الصادقة، حيث الانعتاق التام عن تجاذبات الذات الباحثة عن الرياء، والشهرة، والثناء، وإنما البحث عن رضا الله عز وجل، فقط، أو العكس، وكلا الأمرين ليسا من السهولة بمكان الإتيان بهما في ظل هذه التشابكات المتداخلة بين الذات الفاعلة والذات المحايدة، ولكن تبقى رحمة الله عز وجل، هي المنقذة من الوقوع في مأزق السيئة، مع أن الاختيار متاح لهذا الإنسان لأن يسلك أي الطريقين (وهديناه النجدين).

فكسب الإثم، أو الرجوع عنه هو مشروع إنساني لا أحد -أتوقع- أن يناور عليه، أو يتجاوزه، كما هو الفعل الحسن، والبشرية منذ نشأتها الأولى واقعة في مأزق الأول، ومنجاة الثاني، وظلت المعادلة -ولا تزال- تراوح مكانها في حالتي الرجحان، والتوازن، فما أن تحقق نوعا من التوازن بين فعلي الخير والشر إلا وتصدم برجحان أحدهما على الآخر، ورغم أن فعل الخير هو الغاية من هذا المشروع، إلا أن نوازع الشر الموجودة عند الإنسان لا تدع له مساحة التوسع والشيوع، وكلا الأمرين من الفطرة البشرية، فالإنسان مجبول في كل تصرفاته على هذه الفطرة.

يأتي العمر المنجز في تجربة الحياة ليحدد أي سهم يمكن أن يحظى بالرجحان أكثر من غيره، لأنه الميزان المهم في ترجيح أحد الكفتين على الأخرى، فمن أسعفه هذا العمر ليرجح ميزان الخير فذلك من الفطرة المسنودة بالعمل، والتوفيق من الله، ومن أساء تقدير أفعاله واشتغالاته في الحياة فرجحت كفة ذلك، فقد خسر العمر وتجربة الحياة، وهل عنده الفرصة لتعظيم الأول، والكف عن الآخر، أو التخفيف منه؟ أقول نعم؛ وبكل تأكيد، فتوبة العبد مقبولة حتى يغرغر كما جاء في نص الحديث المروي عن ابن عمر رضي الله عنه: «إن الله عز وجل يقبل توبة العبد حتى يغرغر» أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

(من يكسب إثما) هو صراع شرس بين متلازمين -الخير والشر- ومتقاطعين في آن واحد، فيدفع أحدهما الآخر في مسارين متضادين، حيث تقتضي حكمة الله عز وجل في وضع الإنسان موضع الاختبار المستمر، فلا يكاد يخرج من مأزق الشر حيث انتصار الخير إلا ويجد نفسه أمام امتحان آخر إلى أن يغادر هذه الحياة، لأن استفراغ الشرور من حياتنا كبشر يبدو شبه مستحيل، كما هو الإمساك بالخير، وهذه المراوحة بين هذين الأمرين العصيبين في حياتنا هي التي تجلِّ النفوس وتطهرها لتصل إلى غايات النبل والرضا، كخاتمة مشرفة لحياة الأفراد.

تتصدر مفردة الـ «شر» أكثر من الخير في أحاديث الناس في مجالسهم، حتى ليخال لك أن الحياة كلها شر، وكثيرا ما يحدث أن تذكر العيوب والمساوئ أكثر من صفات الخير لكثير من الناس، ليس لأن الشر هو المستفحل في حياتهم، ولكن لأن وقعه مؤلم، ومقلق، ومربك، بينما الخير على العكس من ذلك تماما، حيث مساحة من الأمان والرضا.