نعرف من تجاربنا الشخصية في التعليم -خصوصا في الصفوف المبكرة- أن الصف الدراسي هو مكان يُشجع (بل ويُفرض) فيه الانضباط، أكثر من كونه بيئة محفزة على الانفتاح والنمو. ويبدو لنا أنه مكان مفصول تماما عن الواقع المعاش؛ نحن في أحيان كثيرة لا نعرف ماذا نفعل بكل هذه المعرفة التي حصدناها في المدارس والجامعات. لا نعرف كيف نستثمرها، أو كيف نحول الأفكار إلى ممارسات. ومن هنا تأتي أهمية قراءة أدبيات كتلك التي تقدمها بيل هوكس.

لماذا يجب أن تُقرأ بيل هوكس اليوم من قبل المعلمين والطلبة -على حدٍ سواء- في مجتمعاتنا؟

تؤكد هوكس في كتابها «Teaching to Transgress: Education as the Practice of Freedom» على الطبيعة السياسية للتعليم، وعلى كون التعليم (بما فيه من تفكير وتنظير) سبيلا للتحرر (ليس بالمعنى القومي فقط، بل والشخصي أيضا، بما يوفره من إمكانية للتعافي عبر التفكير، عبر النظرية). تأخذ هوكس نقد المركزية البيضاء في مواضيع الفكر والمعرفة إلى غرفة الصف، وترى في هذا النموذج -الذي يعلو بطرق ونتاج المركز إلى منزلة الكوني- امتدادًا للسيطرة على المهمشين يُمارس هذه المرة من خلال المعلمين. ويجعل هؤلاء -المنتمين إلى عرق، طبقة، جندر معين- يشعرون أنهم في مرتبة أدنى فكريا هذه المرة. كقراء عمانيين يُهمنا نتاج هذه المفكرة لأنها تهتم -أولا- بموضوع التنوع في غرفة الصف. هذا التنوع الذي نواجهه في مجتمعنا عادة بالتجاهل ظانين أن الإشارة إلى الفروق لا يأتي إلا بتأجيج المشاعر، وصنع التفرقة. وهذا تماما ما تقف ضده هوكس. فهي ترى أن محاولة صنع بيئة «آمنة» للجميع هو أمر متوهم، أهم تبعاته حرمان الطلبة من التعبير عن ذواتهم وهمومهم الحقيقية. ولأنها -ثانيا- تعلمنا كيف يُمكن مجابهة المركزية الأوروبية في المعرفة عبر الانفتاح على طرق جديدة للمعرفة. ولأنها -ثالثا- تقترح وسائل يُمكن بها ربط ما يتم تعليمه في الصف، بالممارسة الواقعية.

أُترجم اليوم مقتطفات من الفصل الثالث المعنون بـ»Embracing Change» أو «احتضان التغيير».

مقتطفات مترجمة من الفصل الثالث

على الرغم من التركيز المعاصر على التعددية الثقافية في مجتمعنا، لاسيما في التعليم، لا يوجد -مع ذلك- حوار عملي كافٍ حول الطرق التي يمكن من خلالها تغيير بيئة الصف الدراسي بحيث تكون تجربة التعليم شاملة. إذا ما أردنا للجهد المبذول لاحترام وتكريم الواقع الاجتماعي وخبرات المجموعات غير البيضاء في هذا المجتمع- أن ينعكس على العملية التربوية، فعلينا الاعتراف إذا كمعلمين -عبر جميع المستويات، من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية- بأن أساليبنا التعليمية قد تحتاج إلى تغيير. دعونا نواجه الأمر: لقد تعلم معظمنا في فصول دراسية عكست أنماط التعليم فيها فكرة وجود معيار وحيد للفكر والخبرة، والذي شُجعنا على التصديق بأنه كوني. ينطبق هذا على المدرسين غير البيض تمامًا كما ينطبق على المعلمين البيض. إذ تدرب معظمنا على التدريس طبقا لهذا النموذج، بل ومحاكاته. نتيجة لذلك، يُشغل العديد من المعلمين بالآثار السياسية للتعليم متعدد الثقافات؛ لأنهم يخشون فقدان السيطرة في صف دراسي لا توجد فيه طريقة واحدة لمقاربة موضوع ما، وإنما طرق متعددة ومراجع متعددة.

لابد أن يُدرك المعلمون بأن على الجهود المبذولة لتغيير المؤسسات بحيث تعكس وجهة نظر متعددة الثقافات - أن تأخذ في الاعتبار مخاوف المعلمين عندما يُطلب منهم تغيير نماذجهم (البرادايم). يجب أن تكون هناك مواقع تدريب تتيح للمدرسين الفرصة للتعبير عن هذه المخاوف فيما يتعلمون أيضًا ابتداع طرق للتعامل مع الفصول الدراسية والمناهج متعددة الثقافات. عندما قدمت إلى كلية أوبرلين، شعرتُ أول الأمر بالانزعاج مما أخذته على أنه نقص في الفهم من جانب العديد من الأساتذة لما يمكن أن يكون عليه الفصل متعدد الثقافات.

غالبًا ما يكون عدم الرغبة في مقاربة التدريس من وجهة نظر تتضمن الوعي بالعرق والجنس والطبقة متجذرًا في الخوف من أن الفصول الدراسية ستصبح خارجة عن السيطرة، وأن المشاعر والعواطف لن تكون قابلة للاحتواء. نعلم جميعًا أن إثارة مواضيع تمس شغف الطلبة في الصف الدراسي، يأتي باحتمالية المواجهات أو التعبير العنيف عن الأفكار أو حتى الصدام. تحدثتُ في كثير من كتاباتي حول أصول التدريس، لا سيما في الفصول الدراسية ذات التنوع الكبير، عن حاجتنا كمعلمين إلى إجراء فحص ناقد لتصوراتنا عن الفضاء التربوي الذي نريد صنعه. لقد عبّر لي العديد من الأساتذة عن شعورهم بأن الفصل الدراسي يجب أن يكون مكانًا «آمنًا». عادة ما يعني هذا أن الأستاذ يحاضر لمجموعة من الطلاب الهادئين الذين لا يستجيبون إلا متى ما طُلب منهم المشاركة. تشير تجربة الأساتذة -الهادفين لبناء وعي ناقد عبر التعليم- إلى أن العديد من الطلاب، خصوصا الملونين، قد لا يشعرون «بالأمان» على الإطلاق في ما يبدو أنه بيئة محايدة. إن غياب الشعور بالأمان هو ما يدفع الطلبة غالبا للصمت المطول أو عدم المشاركة.

إن جعل الفصل الدراسي مكانًا ديمقراطيًا يشعر فيه الجميع بمسؤولية المساهمة هو هدف مركزي في التربية الرامية للتغيير (transformative pedagogy). لطالما أعرب الأساتذة البيض لي عن قلقهم من قلة مشاركة الطلاب غير البيض. يصبح المعلمون -مع تنامي التنوع في غرفة الصف- وجها لوجه أمام إعادة إنتاج سياسات السيطرة في البيئة التعليمية. على سبيل المثال، لا يزال الطلبة البيض الذكور هم الأكثر مشاركة في الصف. يعبر الطلاب الملونون وبعض النساء البيض عن خوفهم من الحكم عليهم -من قبل هؤلاء الزملاء- بأنهم أقل كفاءة فكريا. درّستُ العديد من الطلبة الملونين اللامعين -كثير منهم في مراحل تعليمية متقدمة- ممن نجحوا بمهارة في تلافي الحديث مطلقًا في غرفة الصف. منهم من يشعر أن عدم تأكيدهم لذواتهم يجعلهم أقل عرضة للتعدي عليهم. أخبروني أن العديد من الأساتذة لم يظهروا أدنى اهتمام بسماع أصواتهم. القبول بلامركزية الغرب، والقبول بالتعددية الثقافية، يدفع المعلمين لتركيز الانتباه على قضية الصوت. من يتكلم؟ من يستمع؟ و لماذا؟ إن الاهتمام بما إذا كان جميع الطلاب يوفون بمسؤولياتهم التعليمية للمساهمة في غرفة الصف ليس نهجًا شائعًا فيما أطلق عليه فريري (Paulo Freire) «النظام المصرفي للتعليم» حيث يُنظر إلى الطلاب على أنهم مجرد مستهلكين سلبيين. نظرًا لأن العديد من الأساتذة يقومون بالتدريس من وجهة النظر هذه، فمن الصعب إنشاء مجتمع تعلم قادر على احتضان التعددية الثقافية بشكل كامل. الطلاب أكثر استعدادًا للتخلي عن اعتمادهم على النظام المصرفي للتعليم من معلميهم. كما أنهم أكثر استعدادًا لمواجهة تحدي التعددية الثقافية.

علمني الطلبة أيضا ضرورة التحلي بالتعاطف في بيئات التدريس الجديدة هذه.. رأيتُ للمرة الأولى احتمالية وجود درجة من الألم في التخلي عن طرق التفكير والمعرفة القديمة، وتعلم مقاربات جديدة. إنني أحترم ذلك الألم. وأنا اليوم أُقر به عندما أُعلّم؛ بأنني أرمي بالتعليم إلى تغيير النماذج، وأتحدث عن عدم الراحة المصاحبة لذلك. يتعلم الطلبة البيض التفكير على نحو ناقد بأسئلة العرق والتمييز العنصري، مما يجعلهم لاحقا يرون آباءهم على نحو مختلف عندما يُقابلونهم في الإجازات. يلاحظون التفكير الرجعي، العنصرية، وغيرها، وقد يؤلمهم أن الطرق الجديدة للمعرفة تصنع نوعا من الاغتراب في أماكن لم يعتدها المرء. عادة، عندما يعود الطلبة من الإجازات أطلب منهم أن يُشاركونا كيف غيرت الأفكار التي تعلموها في الصف تجربتهم خارجه. يمنحهم هذا من جهة معرفة أنهم ليسوا وحيدين في تجاربهم الصعبة، كما يمنحهم -من جهة أخرى- فرصة تحويل النظريات إلى ممارسة: طرق المعرفة مشفوعة بالعادات (بالكينونة). إننا نتدرب على استنطاق العادات كما نتدرب على تطبيق الأفكار. ومن خلال هذه العملية نبني الجماعة (community).