الحديث عن السّلطة في وطننا العربيّ ـ خصوصا في الخليج ـ حديث معقد، وذو حساسيّة مفرطة؛ لأنّ السّلطات الثّلاثة لم تتبلور بصورة واضحة، والسّلطة أقرب إلى الأبويّة الشّموليّة منها التّعاقديّة، والّتي هي خيار العديد من الملكيات في دول عديدة من العالم، فأصبحت الخيار الأكبر للتّشارك، وبه تتضح السّلطات الثّلاثة وتتمايز.
لهذا واقع السّلطة في الخليج عموما واقع آنيّ، أي يعيش المرحلة وفق هاجس من حيث التّغيير من جهة، ووفق الحفاظ على الهويّة من جهة ثانية، فهو أمام خيارين، خيار الانفتاح على العالم الآخر، وأثر ذلك على الاقتصاد والتّنمية؛ لأنّ اقتصاد السّوق اليوم لم يعد منغلقا، ولا يمكن أن يبني على رهاب الانفتاح مع الآخر، وإلا سيكون خيار ذلك أنّ تعيش السّلطة تحت خيار الهويّة المغلقة، ومدى تأثير ذلك على حركة المجتمع تنمويّا واقتصاديّا وتعليميّا، وهنا ينشأ الرّهاب من حيث خيار التّغيير، والانفتاح على الآخر.
ومع أبويّة السّلطة كعادة الأبويّات الملكيّة أو السّلطانيّة وهي حالة طبيعيّة، إلّا أنّ هناك من يتقمص دور السّلطة أكثر من السّلطة ذاتها، ويرى لها الأحقيّة فوق القانون، خصوصا عند السّلطتين الدّينيّة والاجتماعيّة، وتعبيري بالسّلطة هنا باعتبار القوّة المأخوذة من أسباب خارجية، وليس بمعنى القوّة المبنيّة على الجانب الهيكليّ القانونيّ المتمثل من حيث الأصالة في فصل السّلطات الثّلاثة وتمايزها كليّا، ولا أقصد بذلك أيضا بالمعنى المؤسّساتي الهيكليّ، فهي أوسع من ذلك، ولا تحصر ذاتها في هياكل مقننة من حيث الابتداء.
فالسّلطة الدّينيّة تمارس الرّهاب عندما تلبس لباس الإله، فتخرج من الخطّ التّعبديّ الطّبيعيّ عند الإنسان، إلى الخطّ الكهنوتيّ، فترى نفسها فوق أيّ سلطة وقانون، وأنّها يد الله في الأرض وظلّه، لتتدخل في جميع مرافق الحياة، وتراقب تحركات النّاس، وتزداد ضيقا إذا وسعت من النّصّ الدّينيّ – التّأريخيّ والاجتهاديّ خصوصا – من خلال حرّفيّته، لا من خلال مقاصده، فهذه السّلطة تمارس الرّهاب ضدّ المختلف أو النّاقد ولو كان في ذات الدّائرة، والرّهاب هنا يتمثل تحقّقه باسم الإله أو اللّاهوت أو الدّين ذاته، وهذا من أخطر أنواع الرّهاب من حيث العقل الجمعيّ وتفككيه؛ لطبيعة هذا العقل في صعوبة الممايزة بين ما هو تدين فطريّ وتطبيقات متطوّرة تدخل في دائرة الدّين، وما بين المقدّس والتّأريخيّ، والمطلق والمتحرك، والحرفيّ والمقاصديّ.
كذلك السّلطة الاجتماعيّة تمارس الرّهاب باسم الهويّة والعادات والتّقاليد، فتصبح الهويّة جامدة ظاهريّا غير متحركة، وتعيش في ازدواجيّة بين الواقع والهويّة، وهذه وإن كانت حالة طبيعيّة في الاجتماع البشريّ؛ لأنّه لا توجد هويّة جامدة من حيث الأصالة، فجميع الهويّات متحركة، وزادها تحركا اليوم التّدافع الثّقافي والهويّاتي في العالم، فطبيعيّ أن تتأثر الهويّات الاجتماعيّة والثّقافيّة عندنا كغيرنا تماما، بيد أنّ هناك من يمارس الرّهاب من خلالها مع الآخر إمّا لإدخال المقدّس فيها، أو إدخالها في المقدّس، وإمّا لأسباب مصالحيّة تمارس في إرهاب الآخر باسمها.
لهذا اتّجه العالم الحديث إلى نزع السّلطة الدّينيّة والاجتماعيّة، وجعلها وفق مؤسّسات مقننة، والمدار هو القانون الّذي يسود النّاس وفق سلطات واضحة ومنفصلة عن بعضها، حتّى لا تتقمص السّلطة الأعلى ذاتها دور السّلطة الدّينيّة أحيانا، والاجتماعيّة أحيانا أخرى، كما يذكر القرآن عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]، فهنا استخدم فرعون السّلطتين الدّينيّة [أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ]، والاجتماعيّة [أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ]، ولهذا هناك من يرى أنّ السّلطة العامّة إذا ركنت إلى السّلطتين الدّينيّة والاجتماعيّة؛ فهو مؤشر لحالة الضّغف الّتي تعيشها، إمّا لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة، أو لأجل أمور مصالحيّة آنيّة.
فسلطة العالم الحديث اليوم من خلال دولة المواطنة اتّجه إلى مفارقة الدّولة الكهنوتيّة الماضويّة من جهة، ودولة الهويّة شبه الجامدة من جهة ثانية؛ لهذا كان الحديث عن دولة الإنسان، من خلال المواطنة المربوطة بالإنسان ذاته، بيد أنّ الرّهاب أيضا قد يمارس هنا باسم الانسانويّة المفرطة، إذا ابتعدت الإنسانيّة عن خطّها الفردانيّ الطّبيعيّ، إلى الانسانويّة كهويّة يمارس بها رهاب وإقصاء المختلف، كما في العلمانيّة اللّائكيّة.
فهناك فارق دقيق بين المواطنة من حيث الفردانيّة، وبين المواطنة من حيث الهويّة، والثّانية وإن حاولت التّظاهر بأنّها تجاوزت الخطّ الكهنوتيّ أو الاجتماعيّ الهويّاتيّ في إدارة سلطة الشّأن العام؛ إلّا أنّها ما لم تتحرّر من التّفكير الجمعيّ، ولو كان باسم المواطنة أو الإنسانويّة أو الحداثويّة؛ تبقى رهينة الرّهاب ضدّ الآخر، وتتوسع هنا دائرة الاستبداد والإقصاء بطبيعة الحال.
فدولة المواطنة لا تنفصل بحال عن الفردانيّة، وإلّا أصبحت هويّة قامعة، لا يبنى قانونها على أساس المساواة أمام القانون، وإنّما يبنى على أساس الهويّة، ثمّ أيّ هويّة هذه، فالمجتمع ذاته يتشكل وفق هويّات متباينة دينيّة أو مذهبيّة أو ثقاقيّة أو عرقيّة، فلهذا سندخل في صراع الهويّات من جهة، وفي الرّهاب والإقصاء باسم الهويّات ذاتها، لهذا للخروج من هذه الدّوامة المغلقة، كانت نظريّة العقد الاجتماعيّ، وكما يرى عامر شطارة أنّ "فلسفة العقد الاجتماعيّ الّتي أكدت أولويّة الفرد في المجتمع، وحماية حقوقه السّياسيّة والاجتماعيّة ضدّ أي هيمنة خارجيّة".
فنظريّة العقد الاجتماعيّ وإن كان في ضمنها شيء من التّخلّي من قبل الأفراد عن بعض حقوقهم لسلطة الدّولة مقابل حقوقهم الأخرى؛ إلّا أنّ هذا لا يخرج عن مدار الفردانيّة، والفردانيّة هي الّتي تجعل الجميع تحت خطّ المساواة من حيث الحقوق ومن حيث الجزاء، وبها تقوم دولة المواطنة، وتتحقّق إنسانيّة الفرد، ولا يمكن فهم العدالة بعيدا عنها، فلا عدالة بدون مساواة، ولا مساواة إلا من خلال الإقرار بماهيّة ذاتيّة واحدة يكون الجميع حولها سواء ذكورا كانوا أم أناثا.
وعليه كلّما اقتربت السّلطة العامّة في إدارة الشّأن العام من الفردانيّة؛ كلّما ضاقت دائرة الاستبداد والإقصاء ورهاب الآخر، كما يشعر الأفراد بالاطمئنانة والمساواة والعدالة وعدم التّمييز بكافة أشكاله، فيشعرون بإنسانيّتهم لا بعبوديّتهم، وأنّهم مواطنون على أساس المساواة لا على أساس الهويّة، فيكون انتماؤهم للوطن الواحد لا للذّوات والانتماءات المفرقة.
والإقرار بالفردانيّة ليس إلغاء للهويّة بقدر ما هو تهذيب لها، ولا يعني أيضا منازعة السّلطة في هيمنتها بقدر ما هو كسر لحاجز الرّهاب والاستبداد والإقصاء الّذي يتحقّق باسم السّلطة، ويلبس أحيانا ألبسة مختلفة كما أسلفنا كالدّين والمجتمع، أو حتّى المواطنة والإنسانويّة والحداثويّة، فلمّا يتحقّق القانون الحامي للفرد ابتداء ثمّ للمجتمع، ويكون المدار حوله وفق مؤسّسات منفصلة عن بعضها، ومتشاركة بين السّلطة والمجتمع، منها الخدميّة، ومنها مؤسّسات المجتمع المدنيّ، وهذه مدارها سلطات ثلاث منفصلة، ومتعاقدة مع السّلطة الأعلى الحافظة للجميع.
وتأثير هذا بلا شك ليس على الجانب الحقوقيّ والإنسانيّ المتمثل في دولة المواطنة؛ بل يشمل ذلك الجانب التّنمويّ والاستثماريّ والاقتصاديّ، فوجود منظومة محكمة واضحة، تتسع فيها دائرة الحريّات، ويضيق فيها الرّهاب والاستبداد والإقصاء، يؤدي إلى خلق بيئة قابلة للنّمو الاقتصاديّ والسّياحيّ والتّنمويّ، كما يفتح مجالات واسعة من الإبداع الشّبابيّ، بعيدا عن الوصاية والإعاقة، وأقرب إلى التّدافع والتّهذيب، فكما أنّه لا يمكن اليوم التّفكير بعقليّة ماضويّة مغلقة، كذلك أيضا لا يمكن التّفكير بعقليّة ذاتيّة واحدة، فالإبداع وليد التّعدّد، والتّعدّد وليد الحريّة، والحريّة نتاج طبيعيّ يوسّع من قدرات الفرد وإبداعه، إذا ما اطمأن في داخله، ولا يشغل داخله برهاب يجعله يبحث عن عالم آخر غير عالمه!!
لهذا واقع السّلطة في الخليج عموما واقع آنيّ، أي يعيش المرحلة وفق هاجس من حيث التّغيير من جهة، ووفق الحفاظ على الهويّة من جهة ثانية، فهو أمام خيارين، خيار الانفتاح على العالم الآخر، وأثر ذلك على الاقتصاد والتّنمية؛ لأنّ اقتصاد السّوق اليوم لم يعد منغلقا، ولا يمكن أن يبني على رهاب الانفتاح مع الآخر، وإلا سيكون خيار ذلك أنّ تعيش السّلطة تحت خيار الهويّة المغلقة، ومدى تأثير ذلك على حركة المجتمع تنمويّا واقتصاديّا وتعليميّا، وهنا ينشأ الرّهاب من حيث خيار التّغيير، والانفتاح على الآخر.
ومع أبويّة السّلطة كعادة الأبويّات الملكيّة أو السّلطانيّة وهي حالة طبيعيّة، إلّا أنّ هناك من يتقمص دور السّلطة أكثر من السّلطة ذاتها، ويرى لها الأحقيّة فوق القانون، خصوصا عند السّلطتين الدّينيّة والاجتماعيّة، وتعبيري بالسّلطة هنا باعتبار القوّة المأخوذة من أسباب خارجية، وليس بمعنى القوّة المبنيّة على الجانب الهيكليّ القانونيّ المتمثل من حيث الأصالة في فصل السّلطات الثّلاثة وتمايزها كليّا، ولا أقصد بذلك أيضا بالمعنى المؤسّساتي الهيكليّ، فهي أوسع من ذلك، ولا تحصر ذاتها في هياكل مقننة من حيث الابتداء.
فالسّلطة الدّينيّة تمارس الرّهاب عندما تلبس لباس الإله، فتخرج من الخطّ التّعبديّ الطّبيعيّ عند الإنسان، إلى الخطّ الكهنوتيّ، فترى نفسها فوق أيّ سلطة وقانون، وأنّها يد الله في الأرض وظلّه، لتتدخل في جميع مرافق الحياة، وتراقب تحركات النّاس، وتزداد ضيقا إذا وسعت من النّصّ الدّينيّ – التّأريخيّ والاجتهاديّ خصوصا – من خلال حرّفيّته، لا من خلال مقاصده، فهذه السّلطة تمارس الرّهاب ضدّ المختلف أو النّاقد ولو كان في ذات الدّائرة، والرّهاب هنا يتمثل تحقّقه باسم الإله أو اللّاهوت أو الدّين ذاته، وهذا من أخطر أنواع الرّهاب من حيث العقل الجمعيّ وتفككيه؛ لطبيعة هذا العقل في صعوبة الممايزة بين ما هو تدين فطريّ وتطبيقات متطوّرة تدخل في دائرة الدّين، وما بين المقدّس والتّأريخيّ، والمطلق والمتحرك، والحرفيّ والمقاصديّ.
كذلك السّلطة الاجتماعيّة تمارس الرّهاب باسم الهويّة والعادات والتّقاليد، فتصبح الهويّة جامدة ظاهريّا غير متحركة، وتعيش في ازدواجيّة بين الواقع والهويّة، وهذه وإن كانت حالة طبيعيّة في الاجتماع البشريّ؛ لأنّه لا توجد هويّة جامدة من حيث الأصالة، فجميع الهويّات متحركة، وزادها تحركا اليوم التّدافع الثّقافي والهويّاتي في العالم، فطبيعيّ أن تتأثر الهويّات الاجتماعيّة والثّقافيّة عندنا كغيرنا تماما، بيد أنّ هناك من يمارس الرّهاب من خلالها مع الآخر إمّا لإدخال المقدّس فيها، أو إدخالها في المقدّس، وإمّا لأسباب مصالحيّة تمارس في إرهاب الآخر باسمها.
لهذا اتّجه العالم الحديث إلى نزع السّلطة الدّينيّة والاجتماعيّة، وجعلها وفق مؤسّسات مقننة، والمدار هو القانون الّذي يسود النّاس وفق سلطات واضحة ومنفصلة عن بعضها، حتّى لا تتقمص السّلطة الأعلى ذاتها دور السّلطة الدّينيّة أحيانا، والاجتماعيّة أحيانا أخرى، كما يذكر القرآن عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]، فهنا استخدم فرعون السّلطتين الدّينيّة [أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ]، والاجتماعيّة [أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ]، ولهذا هناك من يرى أنّ السّلطة العامّة إذا ركنت إلى السّلطتين الدّينيّة والاجتماعيّة؛ فهو مؤشر لحالة الضّغف الّتي تعيشها، إمّا لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة، أو لأجل أمور مصالحيّة آنيّة.
فسلطة العالم الحديث اليوم من خلال دولة المواطنة اتّجه إلى مفارقة الدّولة الكهنوتيّة الماضويّة من جهة، ودولة الهويّة شبه الجامدة من جهة ثانية؛ لهذا كان الحديث عن دولة الإنسان، من خلال المواطنة المربوطة بالإنسان ذاته، بيد أنّ الرّهاب أيضا قد يمارس هنا باسم الانسانويّة المفرطة، إذا ابتعدت الإنسانيّة عن خطّها الفردانيّ الطّبيعيّ، إلى الانسانويّة كهويّة يمارس بها رهاب وإقصاء المختلف، كما في العلمانيّة اللّائكيّة.
فهناك فارق دقيق بين المواطنة من حيث الفردانيّة، وبين المواطنة من حيث الهويّة، والثّانية وإن حاولت التّظاهر بأنّها تجاوزت الخطّ الكهنوتيّ أو الاجتماعيّ الهويّاتيّ في إدارة سلطة الشّأن العام؛ إلّا أنّها ما لم تتحرّر من التّفكير الجمعيّ، ولو كان باسم المواطنة أو الإنسانويّة أو الحداثويّة؛ تبقى رهينة الرّهاب ضدّ الآخر، وتتوسع هنا دائرة الاستبداد والإقصاء بطبيعة الحال.
فدولة المواطنة لا تنفصل بحال عن الفردانيّة، وإلّا أصبحت هويّة قامعة، لا يبنى قانونها على أساس المساواة أمام القانون، وإنّما يبنى على أساس الهويّة، ثمّ أيّ هويّة هذه، فالمجتمع ذاته يتشكل وفق هويّات متباينة دينيّة أو مذهبيّة أو ثقاقيّة أو عرقيّة، فلهذا سندخل في صراع الهويّات من جهة، وفي الرّهاب والإقصاء باسم الهويّات ذاتها، لهذا للخروج من هذه الدّوامة المغلقة، كانت نظريّة العقد الاجتماعيّ، وكما يرى عامر شطارة أنّ "فلسفة العقد الاجتماعيّ الّتي أكدت أولويّة الفرد في المجتمع، وحماية حقوقه السّياسيّة والاجتماعيّة ضدّ أي هيمنة خارجيّة".
فنظريّة العقد الاجتماعيّ وإن كان في ضمنها شيء من التّخلّي من قبل الأفراد عن بعض حقوقهم لسلطة الدّولة مقابل حقوقهم الأخرى؛ إلّا أنّ هذا لا يخرج عن مدار الفردانيّة، والفردانيّة هي الّتي تجعل الجميع تحت خطّ المساواة من حيث الحقوق ومن حيث الجزاء، وبها تقوم دولة المواطنة، وتتحقّق إنسانيّة الفرد، ولا يمكن فهم العدالة بعيدا عنها، فلا عدالة بدون مساواة، ولا مساواة إلا من خلال الإقرار بماهيّة ذاتيّة واحدة يكون الجميع حولها سواء ذكورا كانوا أم أناثا.
وعليه كلّما اقتربت السّلطة العامّة في إدارة الشّأن العام من الفردانيّة؛ كلّما ضاقت دائرة الاستبداد والإقصاء ورهاب الآخر، كما يشعر الأفراد بالاطمئنانة والمساواة والعدالة وعدم التّمييز بكافة أشكاله، فيشعرون بإنسانيّتهم لا بعبوديّتهم، وأنّهم مواطنون على أساس المساواة لا على أساس الهويّة، فيكون انتماؤهم للوطن الواحد لا للذّوات والانتماءات المفرقة.
والإقرار بالفردانيّة ليس إلغاء للهويّة بقدر ما هو تهذيب لها، ولا يعني أيضا منازعة السّلطة في هيمنتها بقدر ما هو كسر لحاجز الرّهاب والاستبداد والإقصاء الّذي يتحقّق باسم السّلطة، ويلبس أحيانا ألبسة مختلفة كما أسلفنا كالدّين والمجتمع، أو حتّى المواطنة والإنسانويّة والحداثويّة، فلمّا يتحقّق القانون الحامي للفرد ابتداء ثمّ للمجتمع، ويكون المدار حوله وفق مؤسّسات منفصلة عن بعضها، ومتشاركة بين السّلطة والمجتمع، منها الخدميّة، ومنها مؤسّسات المجتمع المدنيّ، وهذه مدارها سلطات ثلاث منفصلة، ومتعاقدة مع السّلطة الأعلى الحافظة للجميع.
وتأثير هذا بلا شك ليس على الجانب الحقوقيّ والإنسانيّ المتمثل في دولة المواطنة؛ بل يشمل ذلك الجانب التّنمويّ والاستثماريّ والاقتصاديّ، فوجود منظومة محكمة واضحة، تتسع فيها دائرة الحريّات، ويضيق فيها الرّهاب والاستبداد والإقصاء، يؤدي إلى خلق بيئة قابلة للنّمو الاقتصاديّ والسّياحيّ والتّنمويّ، كما يفتح مجالات واسعة من الإبداع الشّبابيّ، بعيدا عن الوصاية والإعاقة، وأقرب إلى التّدافع والتّهذيب، فكما أنّه لا يمكن اليوم التّفكير بعقليّة ماضويّة مغلقة، كذلك أيضا لا يمكن التّفكير بعقليّة ذاتيّة واحدة، فالإبداع وليد التّعدّد، والتّعدّد وليد الحريّة، والحريّة نتاج طبيعيّ يوسّع من قدرات الفرد وإبداعه، إذا ما اطمأن في داخله، ولا يشغل داخله برهاب يجعله يبحث عن عالم آخر غير عالمه!!