لم يعد اليوم التّقويم الميلاديّ تقويما مسيحيّا، أو ذا أرث مسيحيّ أو غربيّ؛ بل أصبح اليوم تقويما جمع البشريّة ككل، على اختلاف أقطارهم وألسنتهم وأديانهم وتوجهاتهم، وأصبحت البشريّة على مشارف توديع عام مضى، بجسناته وسيئاته، وبإيجابيّاته وسلبيّاته، وعلى مشارف استقبال عام جديد بآماله وتطلّعاته، أي عام 2023م، ونحن لا زلنا في بدايات العقد الثّالث من بداية الألفيّة الجديدة.
ومع هذه الألفيّة الجديدة، إلا أنّ الصّراع البشريّ لا يزال يظهر بين حين وآخر، وبأشكال متعدّدة، آخرها الحرب الأوكرانيّة، الّتي أثرت في العالم أجمع، ولا يزال التّخوّف كبيرا من حرب عالميّة جديدة، في ظلّ صراع شرقيّ وغربيّ، وفي ظلّ توسع كبير للتّسلح، وفي تضخم الصّراع الاقتصاديّ، وانتشار الحرب البيلوجيّة، ممّا يعطي مؤشرات سلبيّة للواقع القادم، خصوصا إذا ما قاد العالم سياسيون يريدون خلق زعامة من دماء البشر، وكهنة يعيشون في ماورائيّات ما ورثوه من ضرورة الدّمار لمجيئ المخلّص، وبداية الحياة الأبديّة، وفلاسفة يبررون للسّاسة أفعالهم، وفنانون ومثقفون ومصالحيون يسيرون حول المنفعة الآنيّة المراد تحقّقها كذوات أو هويّات أو أعراق.
لا يمكن بحال للمجتمعات الإنسانيّة أن تتحرّر من ربقة هذا الصّراع، فهو رهين الإنسان منذ القدم، وإلّا لما قامت حروب ومجاعات ودمار وتشريد سببه الإنسان نفسه، ومنه ما تحوّل إلى معتقدات يدافع عنها، وموروثات يتعصّب لها، وبطولات ينظم حولها قصائده، وما نراه اليوم إلا نماذج تتكرّر في صور مختلفة ومتنوعة.
ولكيّ تتحرّر المجتمعات الإنسانيّة من ربقة هذا الصّراع عليها أن تتحرّر من مصالح السّاسة، وأوهام رجال الدّين وخطاباتهم الشّعبويّة، المبررة للسّاسة من جهة، ولتحقّق الأوهام الماورائيّة من جهة ثانية، والّتي صنعها البشر تحت ظلّ الخلاص وفق تمكين الصّراع البشريّ، ومن المصالحيين الّذين لا يتجاوزون منافع ذواتهم، وإن أوذي وحرم حتّى من هو أقرب منهم أصبح لا يعنيهم مقابل تحقّ مصالح ذواتهم بمعنى الأنا.
ولا يتحقّق ذلك كلّه إلا إذا خرجنا من صندوق السّاسة، والهويّات الاجتماعيّة والدّينيّة، إلى فضاء المبادئ والقيم المرتبطة بالإنسان ذاته، ونطرنا إلى العالم من الفضاء الواسع، حينها يمكن خلق نظام عالميّ إنسانيّ لا يفرق بين البشر، ويكون مواجها لهذه الصّراعات المفرقة والقاتلة للمجتمع البشريّ.
فإذا تأملنا ما بعد آثار الحربين العالميتين الأولى والثّانيّة، حيث استطاع العقل الإنسانيّ خلق منظومة عالميّة، تولد منها ما يتعلّق بحقوق الإنسان، فهي أرقى ما توصّل إليه العقل البشريّ، والّتي أعطت الاستقرار حينا من الدّهر، لا زلنا نتمتع بالعديد من حسناتها، أمام استبداد دول قُطريّة، واستعلاء حكوماتها على الإنسان كإنسان، فحقوق الموطنة كلّما ارتبطت بالإنسان كلّما تحرّرت من استبداد هويّات الدّولة القطريّة كما يرى صادق جواد أنّ "للحقوق منظومتان: منظومة حقوق الإنسان، ومنظومة حقوق المواطنة، وبالنّسبة للأولى ليست لأيّ دولة معينة، فهي عالميّة لها مواثيقها وأدبياتها، ولا يصح لأيّ دولة التّدخل فيها، وإنّما عليها الموائمة من خلال المرجعيّة العالميّة، وأمّا حقوق المواطنة فيدخل في هذه الدّولة، ولهذا نجد حقوق المواطنة تختلف من دولة إلى دولة، عكس حقوق الإنسان، والمعادلة كلّما كانت حقوق المواطنة وافية من حيث تلائمها مع حقوق الإنسان كلّما كانت أقرب إلى الإنسان وحقوقه وكرامته، فعلى الدّول أن تنظّم حقوق المواطنة في تلائم مع حقوق الإنسان؛ لأنّ حقوق الإنسان أكثر سعة"، ويرى أنّ "مدى الوفاء بحقوق الإنسان أضحى اليوم المسطرة الرّئيسة الّتي تقاس بها جدارة الدّول، وضمن الدّول تقاس بها جدارة الحكومات، والمعيار إذا ليس المواطنة فحسب؛ بل المواطنة المتساوية الّتي لا تشوبها أيّما امتيازات خاصّة ببعض دون سائر المواطنين".
إلّا أنّ هذه المواثيق الدّوليّة لحقوق الإنسان اليوم بدأت تتراجع لتلاعب السّياسة بها تحت دائرة النّفعيّة، وبما أنّها الأصل في الانطلاق من ذات الإنسان إلى الدّول الإجرائيّة، إلا أنّ نفعيّة بعض الدّول الإجرائيّة جعلتها تتحكم في خيرات ومصالح الشّعوب الأخرى باسم حقوق الإنسان ذاتها، وكما ترى سويدا معاني يوبنغ في جوابها عن سؤال "ما الحل بدل النّفعيّة؟" فترى أنّ "الحل في وجود منهج عالمي جديد مبني على تأسيس مبادئ مشتركة للعلاقات الدّوليّة، أي تحت مسمّى الأخلاقيّات العالميّة المشتركة، وأهم هذه المبادئ وحدة الشّعوب والدّول، وهذا ينبني أنّ منفعة الجزء (الدّولة) لا يتحقق إلا بمنفعة الكل (جميع الدّول)، وينبني أيضا أنّ الوطنيّة غير المقيدة أصبحت من الماضي، أي الوطنية القائمة على مصلحة دولة معينة بعيدا عن مصلحة الدّول الأخرى، ويتضح هذا مثلا من التّوزيع غير العادل للثّروات الطّبيعيّة، فنجد من الدّول الّتي تملك هذه الثّروات تمنع الدّول الأخرى من الاستفادة لكونها تملك الموقع الجغرافيّ، وهذا يعني لابدّ من تحقيق المساواة والعدالة المتمثلة في حكومة وطنيّة عالميّة عليها أن تجعل جميع الشّعوب والدّول تستفيد من هذه الثّروات... ولابدّ من حل أزمة الفيتو الّتي جعلت لخمس دول فقط من أصل مائة وثلاثة وتسعين دولة، حيث يملك أعضاؤها سلطة غير عادلة فيما يتعلق بالدّول الأخرى، فالفيتو يجسّد النّفعيّة السّلبيّة واستخدامها بشكل متكرر... وأنّ اللّجوء إلى القوة لا يستخدم إلا في حالة تحقيق العدالة فقط، فعلى الدّول أن تتنازل في استخدام القوة في العلاقات الدّولية، وتكون لأجل منفعة جميع الدّول وليس لهيمنة دول معينة يدعمها حق الفيتو أو المصالح النّفعيّة السّلبيّة".
فعلى العقل الفلسفي والثّقافيّ بل وحتّى الدّينيّ أن يدرك ذلك جيّدا، حتّى لا نستنسخ التّجارب البشريّة السّلبيّة السّابقة، ولن يتحقّق ذلك إلا عن طريق رؤية الذّات من جهة، واستقلاليّة رؤية الذّات من جهة ثانيّة، وأقصد برؤية الذّات أي رؤية الآخر والتّعامل معه من خلال الذّات ليس بمعنى الأنا، ولكن بمعنى الماهيّة الواحدة، فعلينا أن نتخلّص في رؤية الآخر من خلال ضيق هويّاتنا النّقغيّة، كانت دينيّة أم مجتمعيّة أم قطريّة، فالبشر جميعا سواء في الوجود، لهم حقّ التّمتع بالوجود وفق المبادئ والقيم الكبرى، من مساواة وعدل وحريّة، ومصاديق ذلك على التّعليم والصّحة والعدالة الاجتماعيّة ومحاربة الفقر والطّبقيّة والتّمييز بكافة أشكاله.
وأمّا استقلاليّة رؤية الذّات فإذا لم يستقل عقل المثقف كان مفكرا أم فيلسوفا أم كاتبا أم فنانا أم مخترعا عن نفعيّة وبرجماتيّة السّياسيّ من جهة، وإن لم يكن رهين هويّة ضيّقة، عرقيّة أم دينيّة أم اجتماعيّة؛ فسيكون أداة من أدوات تحقّق هذا الاستبداد، أيّا كان مقدار تمدّده وأثره، وهذا ما سيؤثر سلبا في المجتمع الإنسانيّ ككل.
فالمجتمعات الإنسانيّة لها تطلّعات قادمة تحقّق كرامتها الإنسانيّة، وتتجاوز هذا الصّراع، وهذه الحروب المدمرة، وهذا الاستبداد والنفعيّة لمصالح شخصيّة أو أسريّة أو قطريّة، وهذا التّمييز بكافّة أشكاله، والاتّجار بالبشر، وهذه الحروب البيلوجيّة، والتّسليح، والفقر والمرض والجهل، وهذا تحقّقه إن وجدت عقول ثقافيّة مدركة لأهميّة ذاتيّتها الماهيّة، ومستقلّة عن أيّ نفعيّات ذاتيّة أو برجماتيّة.
ونحن على مشارف عام 2023م نرجو أن نتجاوز ما يحدث في العالم من آثار الحرب الأوكرانيّة، وممّا يحدث في الشّرق والوطن العربيّ خصوصا، في فلسطين سابقا، وفي سوريّة واليمن حاليا، كما نرجو أن نتجاوز هذه الخطابات الطّائفيّة والفئويّة المفرقة، إلى الخطاب الإنسانيّ الجامع، المحقّق للكرامة الإنسانيّة، وهذه لها أثرها الكبير، وإن بدأ لها الدّاعون أقلة، إلا أنّ تأثيرها الجمعيّ كبير بعد حين؛ لأنّ الواقع لم يعد يتحمل الرّؤية الماضويّة، والهويّات النّفعيّة السّلبيّة المعاصرة، والّتي أضرت بالمجتمع الإنسانيّ ككل.
*مراجع النّصوص المقتبسة في المقالة: كتابي الإنسان والماهيّة مع صادق جواد، وكتاب التّعارف: معرفة بالذّات ومعرفة للآخر.
ومع هذه الألفيّة الجديدة، إلا أنّ الصّراع البشريّ لا يزال يظهر بين حين وآخر، وبأشكال متعدّدة، آخرها الحرب الأوكرانيّة، الّتي أثرت في العالم أجمع، ولا يزال التّخوّف كبيرا من حرب عالميّة جديدة، في ظلّ صراع شرقيّ وغربيّ، وفي ظلّ توسع كبير للتّسلح، وفي تضخم الصّراع الاقتصاديّ، وانتشار الحرب البيلوجيّة، ممّا يعطي مؤشرات سلبيّة للواقع القادم، خصوصا إذا ما قاد العالم سياسيون يريدون خلق زعامة من دماء البشر، وكهنة يعيشون في ماورائيّات ما ورثوه من ضرورة الدّمار لمجيئ المخلّص، وبداية الحياة الأبديّة، وفلاسفة يبررون للسّاسة أفعالهم، وفنانون ومثقفون ومصالحيون يسيرون حول المنفعة الآنيّة المراد تحقّقها كذوات أو هويّات أو أعراق.
لا يمكن بحال للمجتمعات الإنسانيّة أن تتحرّر من ربقة هذا الصّراع، فهو رهين الإنسان منذ القدم، وإلّا لما قامت حروب ومجاعات ودمار وتشريد سببه الإنسان نفسه، ومنه ما تحوّل إلى معتقدات يدافع عنها، وموروثات يتعصّب لها، وبطولات ينظم حولها قصائده، وما نراه اليوم إلا نماذج تتكرّر في صور مختلفة ومتنوعة.
ولكيّ تتحرّر المجتمعات الإنسانيّة من ربقة هذا الصّراع عليها أن تتحرّر من مصالح السّاسة، وأوهام رجال الدّين وخطاباتهم الشّعبويّة، المبررة للسّاسة من جهة، ولتحقّق الأوهام الماورائيّة من جهة ثانية، والّتي صنعها البشر تحت ظلّ الخلاص وفق تمكين الصّراع البشريّ، ومن المصالحيين الّذين لا يتجاوزون منافع ذواتهم، وإن أوذي وحرم حتّى من هو أقرب منهم أصبح لا يعنيهم مقابل تحقّ مصالح ذواتهم بمعنى الأنا.
ولا يتحقّق ذلك كلّه إلا إذا خرجنا من صندوق السّاسة، والهويّات الاجتماعيّة والدّينيّة، إلى فضاء المبادئ والقيم المرتبطة بالإنسان ذاته، ونطرنا إلى العالم من الفضاء الواسع، حينها يمكن خلق نظام عالميّ إنسانيّ لا يفرق بين البشر، ويكون مواجها لهذه الصّراعات المفرقة والقاتلة للمجتمع البشريّ.
فإذا تأملنا ما بعد آثار الحربين العالميتين الأولى والثّانيّة، حيث استطاع العقل الإنسانيّ خلق منظومة عالميّة، تولد منها ما يتعلّق بحقوق الإنسان، فهي أرقى ما توصّل إليه العقل البشريّ، والّتي أعطت الاستقرار حينا من الدّهر، لا زلنا نتمتع بالعديد من حسناتها، أمام استبداد دول قُطريّة، واستعلاء حكوماتها على الإنسان كإنسان، فحقوق الموطنة كلّما ارتبطت بالإنسان كلّما تحرّرت من استبداد هويّات الدّولة القطريّة كما يرى صادق جواد أنّ "للحقوق منظومتان: منظومة حقوق الإنسان، ومنظومة حقوق المواطنة، وبالنّسبة للأولى ليست لأيّ دولة معينة، فهي عالميّة لها مواثيقها وأدبياتها، ولا يصح لأيّ دولة التّدخل فيها، وإنّما عليها الموائمة من خلال المرجعيّة العالميّة، وأمّا حقوق المواطنة فيدخل في هذه الدّولة، ولهذا نجد حقوق المواطنة تختلف من دولة إلى دولة، عكس حقوق الإنسان، والمعادلة كلّما كانت حقوق المواطنة وافية من حيث تلائمها مع حقوق الإنسان كلّما كانت أقرب إلى الإنسان وحقوقه وكرامته، فعلى الدّول أن تنظّم حقوق المواطنة في تلائم مع حقوق الإنسان؛ لأنّ حقوق الإنسان أكثر سعة"، ويرى أنّ "مدى الوفاء بحقوق الإنسان أضحى اليوم المسطرة الرّئيسة الّتي تقاس بها جدارة الدّول، وضمن الدّول تقاس بها جدارة الحكومات، والمعيار إذا ليس المواطنة فحسب؛ بل المواطنة المتساوية الّتي لا تشوبها أيّما امتيازات خاصّة ببعض دون سائر المواطنين".
إلّا أنّ هذه المواثيق الدّوليّة لحقوق الإنسان اليوم بدأت تتراجع لتلاعب السّياسة بها تحت دائرة النّفعيّة، وبما أنّها الأصل في الانطلاق من ذات الإنسان إلى الدّول الإجرائيّة، إلا أنّ نفعيّة بعض الدّول الإجرائيّة جعلتها تتحكم في خيرات ومصالح الشّعوب الأخرى باسم حقوق الإنسان ذاتها، وكما ترى سويدا معاني يوبنغ في جوابها عن سؤال "ما الحل بدل النّفعيّة؟" فترى أنّ "الحل في وجود منهج عالمي جديد مبني على تأسيس مبادئ مشتركة للعلاقات الدّوليّة، أي تحت مسمّى الأخلاقيّات العالميّة المشتركة، وأهم هذه المبادئ وحدة الشّعوب والدّول، وهذا ينبني أنّ منفعة الجزء (الدّولة) لا يتحقق إلا بمنفعة الكل (جميع الدّول)، وينبني أيضا أنّ الوطنيّة غير المقيدة أصبحت من الماضي، أي الوطنية القائمة على مصلحة دولة معينة بعيدا عن مصلحة الدّول الأخرى، ويتضح هذا مثلا من التّوزيع غير العادل للثّروات الطّبيعيّة، فنجد من الدّول الّتي تملك هذه الثّروات تمنع الدّول الأخرى من الاستفادة لكونها تملك الموقع الجغرافيّ، وهذا يعني لابدّ من تحقيق المساواة والعدالة المتمثلة في حكومة وطنيّة عالميّة عليها أن تجعل جميع الشّعوب والدّول تستفيد من هذه الثّروات... ولابدّ من حل أزمة الفيتو الّتي جعلت لخمس دول فقط من أصل مائة وثلاثة وتسعين دولة، حيث يملك أعضاؤها سلطة غير عادلة فيما يتعلق بالدّول الأخرى، فالفيتو يجسّد النّفعيّة السّلبيّة واستخدامها بشكل متكرر... وأنّ اللّجوء إلى القوة لا يستخدم إلا في حالة تحقيق العدالة فقط، فعلى الدّول أن تتنازل في استخدام القوة في العلاقات الدّولية، وتكون لأجل منفعة جميع الدّول وليس لهيمنة دول معينة يدعمها حق الفيتو أو المصالح النّفعيّة السّلبيّة".
فعلى العقل الفلسفي والثّقافيّ بل وحتّى الدّينيّ أن يدرك ذلك جيّدا، حتّى لا نستنسخ التّجارب البشريّة السّلبيّة السّابقة، ولن يتحقّق ذلك إلا عن طريق رؤية الذّات من جهة، واستقلاليّة رؤية الذّات من جهة ثانيّة، وأقصد برؤية الذّات أي رؤية الآخر والتّعامل معه من خلال الذّات ليس بمعنى الأنا، ولكن بمعنى الماهيّة الواحدة، فعلينا أن نتخلّص في رؤية الآخر من خلال ضيق هويّاتنا النّقغيّة، كانت دينيّة أم مجتمعيّة أم قطريّة، فالبشر جميعا سواء في الوجود، لهم حقّ التّمتع بالوجود وفق المبادئ والقيم الكبرى، من مساواة وعدل وحريّة، ومصاديق ذلك على التّعليم والصّحة والعدالة الاجتماعيّة ومحاربة الفقر والطّبقيّة والتّمييز بكافة أشكاله.
وأمّا استقلاليّة رؤية الذّات فإذا لم يستقل عقل المثقف كان مفكرا أم فيلسوفا أم كاتبا أم فنانا أم مخترعا عن نفعيّة وبرجماتيّة السّياسيّ من جهة، وإن لم يكن رهين هويّة ضيّقة، عرقيّة أم دينيّة أم اجتماعيّة؛ فسيكون أداة من أدوات تحقّق هذا الاستبداد، أيّا كان مقدار تمدّده وأثره، وهذا ما سيؤثر سلبا في المجتمع الإنسانيّ ككل.
فالمجتمعات الإنسانيّة لها تطلّعات قادمة تحقّق كرامتها الإنسانيّة، وتتجاوز هذا الصّراع، وهذه الحروب المدمرة، وهذا الاستبداد والنفعيّة لمصالح شخصيّة أو أسريّة أو قطريّة، وهذا التّمييز بكافّة أشكاله، والاتّجار بالبشر، وهذه الحروب البيلوجيّة، والتّسليح، والفقر والمرض والجهل، وهذا تحقّقه إن وجدت عقول ثقافيّة مدركة لأهميّة ذاتيّتها الماهيّة، ومستقلّة عن أيّ نفعيّات ذاتيّة أو برجماتيّة.
ونحن على مشارف عام 2023م نرجو أن نتجاوز ما يحدث في العالم من آثار الحرب الأوكرانيّة، وممّا يحدث في الشّرق والوطن العربيّ خصوصا، في فلسطين سابقا، وفي سوريّة واليمن حاليا، كما نرجو أن نتجاوز هذه الخطابات الطّائفيّة والفئويّة المفرقة، إلى الخطاب الإنسانيّ الجامع، المحقّق للكرامة الإنسانيّة، وهذه لها أثرها الكبير، وإن بدأ لها الدّاعون أقلة، إلا أنّ تأثيرها الجمعيّ كبير بعد حين؛ لأنّ الواقع لم يعد يتحمل الرّؤية الماضويّة، والهويّات النّفعيّة السّلبيّة المعاصرة، والّتي أضرت بالمجتمع الإنسانيّ ككل.
*مراجع النّصوص المقتبسة في المقالة: كتابي الإنسان والماهيّة مع صادق جواد، وكتاب التّعارف: معرفة بالذّات ومعرفة للآخر.