«إن نجاح وسائل الإعلام في وضع الأهداف الوطنية حاضر دائمًا أمام مرأى الجمهور، وتحويل الإنجازات الطموحة إلى قصص واقعية هو روح التنمية الوطنية، ويجب أن يُنظر إلى هذا النجاح على أنه نتيجة تنموية حاسمة في حد ذاته».

هذه الكلمات البليغة قالها الصحفي والأكاديمي الأمريكي ويلبر شرام، الذي يُلقب بالأب المؤسس لدراسات الاتصال الاستراتيجي، أكد فيها على أن الإعلام ليس أداةً لدعم التنمية وحسب، وإنما هو القطب الذي تدور حوله جميع الأهداف التنموية، وإن كانت جميع وسائل الإعلام لها دورها في دعم جهود الإنماء الاقتصادي والاجتماعي، إلا أن الصحف تكتسب مكانةً مميزة لدى جمهور القراء والمتلقين، ففي كل الثقافات والمجتمعات ترتبط الصحف بعلاقة وثيقة مع مختلف جوانب حياة الأفراد، ولها حضورها الكبير في جميع مناحي العمل، دأبت الصحافة دومًا في نقل أخبار العالم إلى عين القارئ وفهمه، وإعطاء نظرة متعمقة لقضايا الاقتصاد والبيئة والعلوم والتكنولوجيا والمجتمع.

واستيحاءً من هذا الفكر فإننا نقف اليوم أمام رحلة صحفيَّة جديرة بالقراءة والتفكر واستذكار تاريخها، ففي الثامن عشر من نوفمبر من هذا العام أكملت جريدة عُمان نصف قرن من العطاء المتقن والمؤثر، إذ صادف ذكرى صدور العدد الأول من الجريدة في عام 1972م مع احتفالات سلطنة عمان بعيدها الوطني الثاني، والاحتفاء بتأسيس هذه الجريدة يُعد مناسبةً وطنيةً للاعتزاز بأهم أركان الإعلام العماني، فهذه الصحيفة المتميزة تركت بصمة لا تُنسى في مختلف جوانب حياتنا، وتزدحم خواطرنا بالكثير من الذكريات، ألم تكن جريدة عُمان مصدرنا الأساسي للمعلومات والأخبار قبل الثورة التكنولوجية، ولا تزال متعة تصفح نسختها الورقية من أهم الطقوس الصباحية حتى يومنا هذا، رغم وجودنا في عالمٍ مشبع بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

ولأنها بكل هذا الحضور والعمق، لا بد من قراءة رحلة جريدة عُمان من منظور استراتيجي وتحليلي معًا، ودراسة قصة نشأتها بتأنٍ للاستدلال على أهم مصادر نجاحها، ثم إدراك وفهم هذه القصة المؤسسية كمصدر إلهام على مختلف المستويات، وهنا تأتي أهمية السردية الإبستيمولوجية لنشأة جريدة عُمان وتطورها التاريخي، من أجل توثيق الرحلة المؤسسية التي امتدت لخمسة عقود من الزمن، ورسم الصورة الكاملة لحضور المؤسسة عبر مختلف الفترات الزمنية، وبذلك يصبح التحليل العميق ضرورةً معرفية واستراتيجية، حتى تتضح ركائز تميز ونجاح هذه المؤسسة العريقة، إذن دعونا نطرح هذه التساؤلات؛ تُرى ما هي أبرز الخصائص الوظيفية والمضمونية في رحلة جريدة عُمان؟ كيف حافظت على مكانتها كوسيلة إخبارية ومصدر للمعلومات حول الأحداث العالمية والوطنية والمحلية؟ كيف أدت أدوارًا مركزية كأداة تعليمية وتثقيفية وساهمت في تنمية الموارد البشرية، واستضافة المواهب وصقلها وإبرازها على مدى عقود؟ والأهم من ذلك كله: كيف حافظت جريدة عُمان على جاذبيتها للقراء مع التأثير الكبير للقنوات الإخبارية الإلكترونية التي تعمل على مدار الساعة، والوسائط المرئية، ووسائل التواصل الاجتماعي التي أفقدت الصحف ميزة تقديم الأخبار الفورية والعاجلة؟

في البدء لا بد من الإشارة إلى أن نمو الاهتمام بالصحف الورقية والإلكترونية يعد مؤشرًا على حقيقة أن القراء قد ازدادوا، وأنهم يبحثون وراء التنوع في المحتوى شكلًا ومضمونًا واحترافًا، وقد جاءت بداية إصدار جريدة عمان وسط زخمٍ من إصدارات الصحف الأخرى إقليميًّا وعربيًّا، ومع تنوع أشكالها ومضامينها إلا أن جريدة عمان قد تمكنت من أن تتموضع بصورة استراتيجية لدى القراء داخليًّا وخارجيًّا، فقد جاء الإصدار الأول ليؤرخ ذكرى العيد الوطني الثاني، وهذا أكسبها ثقلًا وطنيًّا وقبولًا متفرّدًا، وصار العدد التاريخي الأول للجريدة بمثابة ذاكرة مرجعية، حيث يستطيع العماني أن يؤرخ لكثير من الأشياء التي تعاصرنا اليوم، ويتحسس أصولها واضحة إذا عاد إلى مثل هذه المرجعيات التاريخية، هذا من جهة التميز في التوقيت، أما من الناحية النوعية فقد ضمّت أسرة العمل في بداياتها صفوة الإعلاميين على المستوى العربي، ومنهم أسماء لامعة ممن امتهنوا السلك الصحفي منذ أربعينيات القرن الماضي، مما أكسبها الثقل المعرفي في المضمون والمحتوى، وبذلك جمعت جريدة عُمان أهم نقاط القوة الاستراتيجية في مرحلة التأسيس، وبذلك فإن الدور الاستراتيجي للهوية التكوينية هنا يأتي في مقدمة خماسية النجاح والإتقان لجريدة عُمان.

أكدت جريدة عُمان حضورها كحدثٍ معرفي واتصالي على الخريطة المؤسسية المحلية، وأرست دعائم الصحافة العمانية خارجيًّا، بعظيم أهميتها، ووضوح أثرها على المستوى الوطني والإقليمي والعربي، ومع محدودية معطيات ذلك العصر في بداياتها، إلا أنها تبوأت مكانةً مركزية في العمل الوطني، فقد أصبحت الصوت الرسمي للإعلام العماني، الذي رافق كل منجزات البناء والتطوير، وتمكنت الجريدة عبر محتواها الرصين أن تستجيب للمتطلبات المتغيرة لمراحل العمل ولقطاعات المجتمع المختلفة، ودأبت منذ صدورها على الالتزام بالدقة المطلقة في نقل الأخبار والمعلومات، وهذا أكسبها المصداقية والموضوعية، التي تمثل البُعد الاستراتيجي المركزي لنقاط القوة المؤسسية، في سياق فرضية «القيمة المميزة» لأي مؤسسة.

أصبحت عُمان صحيفة يومية ابتداء من العيد الوطني العاشر، بلغت أوج اكتمال تطورها بحلول العقد الثالث، بعد سلسلة متعاقبة من التطور التاريخي وبروز اتجاهات جديدة، قد تطورت وانتقلت عبر مراحل التعلم والمحاكاة والتجريب، وبدأت الجريدة تتشكل وفق النموذج الوظيفي القائم على التتابع والتتالي في الأدوار، وهنا نجدنا أمام اتجاهين متناقضين منسجمين وهما التوجه الحصري والمسار التوسيعي، ففي الأدوار المتعلقة بالاتصال الاستراتيجي مع القارئ اتخذت الجريدة نهجًا حصريًّا، يتمحور حول زرع القيم الوطنية والمجتمعية، وتعزيز الانتماء والهوية العمانية من منظور ترسيخ الهوية المتحققة والمتفردة التي هي أساس بناء وتقدم الأوطان، أما على مستوى الأدوار الوظيفية الأخرى، فقد حرصت جريدة عمان على اكتساب القيمة من الخبرات والمعرفة الضمنية لجيل المؤسسين، مع التركيز على قيمة وأهمية التوسع والانفتاح نحو الأفكار الجديدة، إذ مثلت جريدة عمان أحد أبرز مصانع التعلم وبناء الثقافة المجتمعية المشتركة، وكذلك كانت بمثابة ملتقى الموهوبين والمثقفين عبر مساحة «بريد القراء» على سبيل المثال، التي استقطبت شرائح عديدة من المجتمع العُماني، مما يعكس التكامل بين المحاور التنظيمية والوظيفية والهوية المؤسسية للجريدة، والتي تأتي في المرتبة الثانية من خماسية الإتقان.

ساهم هذا التكامل في التطور المتوازن لجريدة عُمان الذي امتد لخمسة عقودٍ من الزمن على الخريطة المؤسسية، حافظت فيها الجريدة على مكتسباتها التراكمية من الخبرات والمعرفة والإنجازات، فكل مرحلة زمنية كانت تحوي في طياتها شيئًا من الرسالة الوطنية الكبرى للجريدة، وظلت تتعاقب هذه الرؤية الاستراتيجية والرسالة من الرعيل الأول وحتى يومنا هذا، وإن امتداد الفترة الزمنية للجريدة منذ تأسست تعكس الثباتية والصمود من جهة، والقدرة العالية على التكييف مع المتطلبات والمتغيرات من جهةٍ أخرى، مع تحقيق الاتساق الشامل في القيام بأدوارها ورسالتها الوطنية، كونها صوت عُمان لكل العمانيين.

وهذا يقودنا للقيمة الثالثة في خماسية الإتقان وهي الالتزام بالتقارب المعنوي، الذي تجلَّى في الكثير من الوقائع التاريخية والمواقف الإيجابية ذات العمق والدلالة، وكانت شاهدة على التلاحم والترابط الكبير بين الصحافة العمانية ومختلف أطياف المجتمع ومؤسسات الدولة، وكذلك عكست المهنية الاحترافية في بُنية ومكونات الممارسات الصحفية، ومتانة العلاقات التي تجمع بينها وبين المتلقي، فنجد على سبيل المثال أنه كان لجريدة عمان حضور كبير في الفترة التي كانت نتائج امتحانات الشهادات العامة تنشر في الصحف، وهذا قد جعل منها أحد أهم تفاصيل الفئات المتعلقة بشريحة الطلبة، إذ احتفظ أولياء الأمور بقصاصات الجريدة التي ضمت أسماء أبنائها لفترة طويلة، ولا تزال الذاكرة تبض بهذه التفاصيل الغالية على قلوب الطلبة وذويهم، وعلى صعيدٍ آخر كان للجريدة دور مهم ومحوري في توفير المعلومات والتغطيات الصحفية والأخبار بشأن الحالات الاستثنائية التي مرت بها البلاد مثل إعصارَي جونو وفيت، ومنذ وقتٍ ليس ببعيد كان للجريدة حضور محوري في توثيق أحداث إعصار شاهين، كذلك اتشحت جريدة عمان بالسواد طوال فترة الحداد على رحيل المغفور له السلطان قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه، هذا النبض المتحد بين جريدة عُمان وجمهورها من المؤسسات والمجتمع أكسبها ثقلها وتأثيرها الاستراتيجي، الذي ظل جوهر استدامة الميزة التنافسية.

لعل إسهامات التكنولوجيات الرقمية ذات أهمية بالغة، فالتغييرات الجذرية التي أحدثتها هذه التكنولوجيات زادت من رحابة الفضاء التواصلي والمعرفي مع قرَّاء الصحافة، لكنها لا تزيد أهمية عن تلك الإضافات المهمة التي جاءت بها تراكم الخبرات والمعارف والإبداعات في جريدة عُمان، إذ كانت الجريدة سبَّاقة في إدماج التقنيات المتقدمة في الأسس المفاهيمية للممارسة الإعلامية النابعة من الثراء المعرفي لدى القائمين عليها، وأتاحت لمستخدمي الأجهزة الرقمية مساحةً لتلقي المحتوى الإعلامي والتفاعل معه، عن طريق حسابات التواصل الاجتماعي، وأتاحت كذلك النسخة الإلكترونية من الجريدة لتحقق بذلك التقارب التكنولوجي مع الأجيال الرقمية، وتمكنت الجريدة من إذكاء الأداء الإبداعي في قالب الحداثة مع امتلاك الأصالة، وتحقيق الشمولية في احتواء مختلف فئات القراء، وهذه هي القيمة الرابعة من خماسية الإتقان.

وكما هو الوضع مع بقية الميادين المعرفية، فإن العمل الصحفي لا يقتصر على نقل المعلومات والمساهمة في فهم التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تطرأ على المجتمعات، وإنما هو إطار عمل شامل وشريك فعال في تمكين خطط البناء، والدفع بالتطور الاقتصادي والاجتماعي وتذليل العقبات التي تعترض التنمية الوطنية الشاملة والمستدامة، والارتقاء بالحس الفني من خلال المحتويات الأدبية والتاريخية، وتعميق الوعي المجتمعي بالسمات الإنسانية والأخلاقية البنّاءة، وإن استلهام مقولة ويلبر شرام تبرز لنا القيمة الأخيرة من خماسية الإتقان في جريدة عمان، وهي وضوح الرؤية الاستراتيجية والرسالة المؤسسية من قيم واتجاهات وتكتيكات، والالتزام المتقن بالرسالة الإعلامية الكبرى التي حملتها على مدى العقود الخمسة الماضية، والمحافظة على أصالتها وخصائص الإبداع المميزة لها، الذي هو بحد ذاته إنجاز تنموي، في غمرة التطور الهائل الذي نعيشه في صناعة الاتصالات، وحقيقة أن العالم قد أصبح قرية كونية واحدة.

كاتبة وباحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.