قوضت مسؤولتان غربيتان كبيرتان سابقتان الأسبوع الماضي أي رصيد ضئيل مازال باقيا للقيمة والقوة الأخلاقية لـ«السردية الغربية» للنزاعات الدولية والإقليمية التي اكتوت بها البشرية وخصوصا شعوبنا العربية والاسلامية.

أما المسؤولة الأولى والأهم فهي آنجيلا ميركل أول وأهم مستشارة لألمانيا "2005-2021” فقد اعترفت مؤخرا بأن اتفاقيات مينسك التي وقعتها روسيا مع أوكرانيا برعاية وضمانات أوروبية كاملة كانت تهدف فقط لمنح كييف الوقت الكافي لتعزيز قدراتها العسكرية.

وقالت ميركل إن أوكرانيا استغلت هذه الفرصة جيدا، وهي اليوم أقوى مما كانت عليه في الأعوام 2014-2015.، بعبارة أخرى كشفت ميركل أن الغرب خطط من البداية لعدم تنفيذ اتفاقيات مينسك 1و2 والتي كان بإمكانها منع الحرب الأوكرانية الحالية التي دمرت الاقتصاد العالمي ووضعت الشعوب الفقيرة على حافة المجاعة والفقر المدقع ومع ارتفاع أسعار واضطراب سلاسل إمداد المواد الغذائية الرئيسية.

تكشف تصريحات ميركل المتأخرة كالعادة وبعد ارتكاب الجريمة كالعادة وبعد خروجها من السلطة كالعادة، تكشف للمرة الألف كيف يبني الغرب سرديته عند وقوع الغزو أو الحرب أو الأزمات الكبيرة على سلسلة من الأكاذيب لتبرير قراره، في حالة أوكرانيا قال الغرب إن روسيا دخلت الحرب ليس لعدم التزام أوكرانيا باتفاقيات مينسك وليس لرفض الناتو تقديم ضمانات لموسكو بشأن وصول صواريخه في شرق أوروبا -القادرة على حمل رؤوس نووية- إلى الكرملين في أقل من 10 دقائق وإنما بسبب أن روسيا هي دولة توسعية تسعى لإعادة الإمبراطورية السوفيتية وأن الصراع هو صراع بين الدول الديمقراطية والدول الاستبدادية.

من السهل الاستنتاج من تصريح ميركل أن برلين وواشنطن وباريس إنما كانوا يمهدون الأرض للحرب الراهنة باستفزاز الدب الروسي لفخ شن الهجوم العسكري على أوكرانيا في فبراير 2022 ولكن فقط عندما تكون الأخيرة قد تم تجهيزها عسكريا من قبل الناتو بطريقة قادرة على استنزاف روسيا وتحطيم اقتصادها سواء بكلفة الحرب أو بتوابع سلسلة من حزم عقوبات اقتصادية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر

المسؤولة الثانية هي ميشال آليو ماري التي شغلت مناصب وزارية رفيعة منها الخارجية ومنها الدفاع بين 2002 و2007 والتي كشفت فيها أكاذيب جديدة اعتمدت عليها امريكا والتحالف الغربي 2003 لغزو وتدمير العراق ثالث أغنى بلد في العالم، خارج الولايات المتحدة، بالاحتياطات النفطية.

تقول ماري الفرنسية إن نظيرها الأمريكي في هذا الوقت دونالد رامسفيلد قدم لها صورا التقطتها أقمار صناعية لما قال إنها منصات صواريخ عراقية وقالت هي إن الأقمار الصناعية الفرنسية التقطت صور لنفس الموقع وهي في الحقيقة صور صوامع قمح وليس منصات صواريخ ولكن الأمريكيين كانوا مصرين على شن الحرب على العراق المطمع النفطي والاستراتيجي بذرائع بنيت كلها على كذبة كبرى.

مصيبة تصريح المسؤولة الفرنسية أنها أولًا لم تستطع التصرف كسياسية وإنسانة نزيهة ولم تجرؤ على قول هذا علنا وقتها قبل الحرب فلربما تمكنت بكشف هذه الفضيحة الأخلاقية من منع حدوثه لكنها سكتت بل وشارك بلدها وجيشها الذي كانت وزيرة دفاعه آنذاك في التحالف العسكري الدولي المحتل للعراق.

وهو ثانيا يكمل قطع «البازل» الناقصة في لوحة الأكاذيب الغربية متفقة في ذلك مع سياق من اعترافات متأخرة لمسؤولين غربيين آخرين. هذه الاعترافات تبدأ من أول اعتبار الجنرال كولن باول بأن التضليل الذي مارسه هو شخصيا على العالم بأكاذيب مهدت لغزو العراق كانت عارا ونقطة سوداء في تاريخه. وتمتد إلي اعترافات مدير الـ«سي آي ايه» جورج تينيت بأن ما عرضه باول على مجلس الأمن وقتها «كمقطورة كبيرة متجولة ادعى أنها مجهزة بمعدات حديثة يستخدمها العلماء العراقيون لتخصيب اليورانيوم لتصنيع أسلحة نووية، وهي متنقلة لكي لا يُكشف مكانها بسهولة لفرق التفتيش الدولية إنما هي صورة لعربة كبيرة متنقلة (مخبز اوتوماتيكي) فيها معدات لتصنيع الخبز للجيش وليس لتخصيب اليورانيوم».

استنادا لهذه الكذبة الملفقة أصدر مجلس الأمن قرارا يجيز غزو العراق.

المشكلة الأخطر هي أن الفضح المتأخر للسردية الغربية التي تبرر أي شيء من أجل استمرار الهيمنة على موارد وثروات الغير مازال ناقصا وغير مكتمل مفتقرا إلى الصدق الكامل ويدلل على وجود خيط جرائم أخري مازالت مخفية في «جراب» الحاوي الغربي الذي تتجمع فيه كل مصائب وأنات شعوب العالم.

فبوش الأبن وشريكه في جريمة غزو العراق توني بلير عندما قاما بالاعتذار عن هذه الجريمة زعما أنهما ضللا بمعلومات قدمتها أجهزة الاستخبارات وهو ما كذبهما فيه جورج تينيت مدير الـ CIA عندما كتب في مذكراته المنشورة التي قال إنها دفاع عن نزاهة واحترافية وسمعة الجهاز الذي ترأسه وقتها مؤكدا انه رفع تقارير عديدة تؤكد كذب سلسلة ادعاءات المسؤولين في إدارة بوش الابن التي زعمت علي التوالي ان العراق لديه أسلحة دمار شامل، أو على صلة بالقاعدة، أو أنه حصل على يورانيوم مخصب من نيجيريا.

ويمتد تبادل الاتهامات إلى الحلفاء أنفسهم.الأمريكيون يلقون باللوم على تقرير للمخابرات الألمانية كان مصدره شخص عراقي ثبت لاحقا أنه كان يكذب للحصول علي إقامة وجنسية في ألمانيا أدعي أن لديه معلومات موثقة عن إمتلاك صدام أسلحة نووية.

وأوحي تقرير اللورد شيلكوت البريطاني أن توني بلير جر بريطانيا إلي حرب غير مبررة اعتمادا على تقارير نقلتها إليهم الاستخبارات الأمريكية.. وهكذا في سلسلة أكاذيب لاتنتهي.

وكما كان الأمر بالنسبة للعراق كشفت ميشيل ماري عن أكاذيب الغرب في ليبيا ومسألة قتل الرئيس الليبي السابق معمر القذافي ففضحت ما أنكره الناتو وقتها عن عدم وجود دور مباشر له في قتل القذافي. وتحدثت عن الغارات الجوية التي استهدفت القذافي مباشرة انتهت باغتياله بطريقة بشعة.

ماذا تقول اعترافات أسبوع واحد لميركل وماري؟

- إن ما هو مخفي من أسرار ومؤامرات أعظم بكثير مما كشف عنه النقاب عندما يتعلق الأمر بالدروس بالأقدام على أي مبدأ أخلاقي أو أي قرار يتعلق بحياة عشرات الملايين غير الغربيين الذين قتلوا واصيبوا أو شردوا لاجئين في حروب الغرب في العراق وليبيا وأفغانستان والصومال وحتى عشرات الألوف من القتلى والمصابين في حرب أوكرانيا الحالية.

- إن السردية غير الغربية القادمة من الجنوب ـأو حتى القادمة من القوى الصاعدة مثل الصين والهند وروسيا هي سردية أصدق وأقل لا أخلاقية من سردية الغرب.

- إن إستمرار الحروب وآخرها حرب أوكرانيا واستمرار نزيف أطرافها المباشرة من البشر والموارد هو في جزء مهم منه قرار غربي يرتبط بالمصالح الغربية حتى لو تدمر السلم والاستقرار في العالم. فهذه الحروب باقية طالما أن المصالح الغربية من إشعالها أو استدراج الغير لاشعالها مازالت لم تتحقق. ومثال ذلك حرب أوكرانيا فإن لم يتحقق تقزيم روسيا وحصارها ستستمر الحرب. أو أن أوكرانيا ستكون جاهزة للدخول في تسوية مع روسيا في اليوم التالي مباشرة التي تبلغها فيه واشنطن أن أهدافها قد تحققت أو ان تكلفة الحرب على واشنطن وأوروبا باتت أعلى وأفدح من استمرارها لفترة أطول.