الاهتمام باللغة العربية وحمايتها ونشرها ليس بجديد، فهو موضوع نقاش مستمر وهو كذلك مطلب ملح لكثير من المثقفين والسياسيين والمهتمين باللغة العربية في الوطن العربي وخارجه. واللغات عامة واللغة العربية خاصة، أمر يتعلق بالوجدان و بالانتماء و بالدين و بالهوية، أو هي كما يقول الشاعر اللبناني الراحل حليم دموس في قصيدته الذي حفظناها و نحن تلاميذ في المدرسة:

نزلتْ في كل نفس ** و تمشت في دماها

فبها الأم تغنت ** و بها الوالد فاها.

أما السبب الذي دعانا إلى الكتابة عن هذا الموضوع اليوم فهو الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، الذي نرى أنه احتفال مستحق و أقل مما هو واجب علينا تجاه لغتنا. لذلك يجب أن يكون الاحتفال عاما، و بالصورة التي تناسب ذلك الشعور العميق لدى محبي اللغة العربية و على قَدَر تلك المكانة العظيمة التي تتمتع بها هذه اللغة في الحضارة الإنسانية.

في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام يحتفل العرب والعالم باليوم العالمي للغة العربية، وذلك بمناسبة قرار الأمم المتحدة اعتبار اللغة العربية لغة رسمية لها. ففي الثامن عشر من ديسمبر عام 1973 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190، الذي اعتمدت بموجبه اللغة العربية لتكون لغة رسمية ولغة عمل في جلساتها ووثائقها ومنشوراتها إلى جانب اللغات الصينية والإنجليزية والأسبانية والفرنسية والروسية. ولو رجعنا إلى التاريخ القريب لمعرفة الاسباب التي دعت الأمم المتحدة إلى اعتماد اللغة العربية لغة رسمية لها لوجدنا أن ذلك تم على إثر الملحمة التاريخية التي خاضها العرب في شهر رمضان/اكتوبر من عام 1973، وهي ملحمة استخدموا فيها الجيوش والموارد الاقتصادية والإرادة السياسية المدعومة بقوة و تضامن الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج. وقد حقق العرب حينها إنجازات لم يستطيعوا تحقيقها لعقود طويلة من الزمن. فإلى جانب النصر الذي حققته الجيوش العربية في ساحات الحرب، تمكنت الدول العربية المصدرة للنفط من انتزاع اعتراف الدول الكبرى، ولو بصورة ضمنية، بحقها في السيادة الكاملة على ثرواتها ومواردها الاقتصادية. وبعد ذلك بأسابيع قليلة تم الاعتراف الدولي باللغة العربية لتكون لغة رسمية ولغة عمل في الأمم المتحدة.

صحيح أن اللغة العربية هي لغة حضارة منذ حوالي ألف و خمسمئة عام، وهي في وجدان ما يزيد على خمسمئة مليون إنسان من العرب والمسلمين و غيرهم، إلا أنها تواجه اليوم تحديات خطيرة ومن عدة جوانب. فإلى جانب تحدي التطور المستمر في العلوم و التقانة وظهور مصطلحات وأسماء لمنتجات جديدة لم يعمل العرب على مواكبتها لغوياً، فإن هناك تحديات أكثر خطورة على اللغة، ومنها الإهمال شبه المتعمد لاستخدامها في الحياة المعيشية للناس، لاسيما من قبل قطاعات الأعمال والاستثمار والصناعة في الدول العربية. والأخطر من ذلك تقصير كثير من الأسر العربية في تعليم اللغة العربية لأبنائها وبناتها. بل إن كثيرا من الآباء والأمهات في الأسر المترفة والأسر متوسطة الدخل انزلقوا إلى التحدث مع أطفالهم وأبنائهم بغير اللغة العربية، الأمر الذي أدى إلى ظهور جيل كثير من أفراده من اللامنتمين، أي من الذين لا هوية لهم ولا شعور بالانتماء لأسرة أو وطن أو أمة أو دين، وتلك مسألة غاية في الخطورة.

ظهرت خلال السنوات الثلاثين الأخيرة بعض الجهود الرسمية والمحاولات لخدمة اللغة العربية، وهي جهود تستحق الشكر و الإشادة. و قد كان من تلك الجهود في عمان مثلا إصدار معجم السلطان قابوس لأسماء العرب، و تأسيس أكاديمية السلطان قابوس لتعليم العربية لغير الناطقين بها. أما خارج عمان فإن أبرز الأمثلة على الصعيد الرسمي للدول هو إصدار معجم الدوحة التاريخي في قطر و معجم الشارقة التاريخي في الإمارات. و إلى جانب تلك الجهود الرسمية توجد جهود أخرى يقوم بها أفراد أو مؤسسات خاصة في الوطن العربي، و منها مثلا تأليف و نشر "معجم الفوائت"، في السعودية، و هو معجم يسد جانبا من النقص في المعاجم العربية التقليدية المعروفة، حيث أن تلك المعاجم لم تشمل كلمات و مفردات عربية أصيلة كثيرة. غير أن تلك الجهود ما تزال غير كافية لمواجهة الخطر الوجودي الذي تواجهه اللغة العربية، فلا بد من جهود أكبر تبدأ بالأسرة و لا تنتهي بالدولة، بل يجب أن تكون جهودا جماعية على مستوى كافة الدول و الشعوب العربية.

ولأن اللغة العربية في وُجْداننا وفي هويتنا السياسية وفي تاريخنا الثقافي فإن علينا نحن العمانيون القيام بالعبء الأكبر في الجهود الرامية إلى انتشالها من وضعها الحالي، والعودة بها إلى الطريق التي سار بها عليه الخليل بن أحمد الفراهيدي وأبو العباس المبرد وغيرهم من علماء اللغة العمانيين، سواء من الذين عاشوا في عمان أو خارجها. بل إن علينا الخروج بها إلى عالم أرحب من خلال نشرها و تعليمها في كافة أرجاء المعمورة. و في اعتقادي أن النهوض باللغة العربية و نشرها ينسجم مع الدور الذي تقوم به عمان و الخط الذي رسمته لنفسها على مر العصور، و هو دور أشرنا إليه في مقالات سابقة، و قوامه التعارف بين الناس و نشر الخير و السلام في الأرض. و يقع فهم اللغات و التحدث بها في مقدمة وسائل التعارف و التفاهم بين الأمم و الشعوب.

ومن أجل أن لا تتكرر الجهود التي قامت بها بعض الدول و المؤسسات الخاصة والأفراد، مثل اصدار معاجم أو تقديم جوائز للترجمة و التعريب أو للرواية و الشعر، فإنه من الأنسب فتح أبواب و نوافذ أخرى لخدمة اللغة العربية. ومن تلك الأبواب والنوافذ تشجيع ابتكار طرق و وسائل إيضاح حديثة أو تقانات جديدة لتدريس اللغة العربية ضمن المناهج التعليمية، سواء كان ذلك للناشئة من العرب أو لغير الناطقين بالعربية. كما أنه من المفيد إنشاء مؤسسة ثقافية ترعاها الحكومة أو معهد لتعليم اللغة العربية، و من المناسب أن يكون اسمه معهد الخليل، على غرار معهد كونفوشيوس الصيني أو معهد جوته الألماني، و ذلك من أجل تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، و تكون له فروع داخل عمان و خارجها. و من المفيد كذلك جعل شرط الحصول على درجات أعلى في اللغة العربية في المرحلة ما قبل الجامعية من ضمن المعايير الموضوعة للحصول على منح دراسية و قبول في الجامعات. كما يجب حث المدارس على تشجيع الطلاب على تحقيق مستويات عليا في اللغة و تقديم جوائز تحفزهم على ذلك. و في جانب استخدام اللغة العربية و ترسيخ وضعها كواحدة من أهم مكونات الهوية الوطينة يجب أن يفرض على كل المؤسسات و الشركات العامة و الخاصة استخدام اللغة في كافة وثائقها و مراسلاتها، و أن يكون ذلك بموجب قانون يضع المخالفين له تحت طائلة المساءلة و العقاب. أخير و ليس آخرا، يجب على الأسر أن تعمل بكل السبل على إعلاء شأن اللغة العربية داخلها بالاعتزاز بها و غرس حبها في نفوس الأطفال، وذلك عن طريق الاناشيد و الغناء و ضرب الأمثلة و الحِكم العربية و عدم التحدث بغيرها، إلا إذا كان من باب تعليم الأطفال لغات أخرى خلال ساعات الدراسة و التعلم في المنزل.

*د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية