حينما اعتزم الأوروبيون الخروج من العصور الوسطى ( المظلمة) إلى مرحلة جديدة مع بدايات القرن السادس عشر الميلادي، لم تكن المهمة سهلة وإنما كانت محفوفة بمخاطر هائلة، ابتدأت بالحروب الدينية ما بين الكاثوليك والبروتستانت، مرورًا بالحروب السياسية التي عمت كل القارة الأوروبية، وقد صاحب ذلك كله ظهور جيل من المفكرين والفلاسفة والمبدعين في مختلف مجالات الفنون، فضلًا عن ظهور أجيال متعاقبة من السياسيين وعلماء الاجتماع والقانون، الذين راحوا ينشرون الوعي والمحبة وسط جموع الناس الذين أرهقهم البؤس والشقاء.
لم تخرج أوروبا من شقائها ومحنتها إلا بتضحيات جسيمة، بعدها انطلقت المجتمعات الأوروبية لإرساء قيم العدل وإعمال القانون، وإقامة العدالة الاجتماعية التي كانت بمثابة عقد إجتماعي وسياسي. ولم تأت نهايات القرن الثامن عشر إلا وكانت أوروبا قد خرجت من محنتهما، وكان التعليم والثقافة وإعمال العقل كلها طرق جعلت من الدول الأوروبية نموذجًا للخروج من أوضاع قديمة إلى حياة جديدة انطلقت بعدها نحو عوالم عربية وآسيوية وأفريقية راحت تتزاحم لاحتلالها، وكان نصيب العرب منها فوق قدراتهم، لأن الصراع كان حضاريا قبل أن يكون عسكريًا أو سياسيًا.
الملاحظ على النهضة الأوروبية أن الثقافة والتعليم كانا قوام نهضتها في كل مناحي الحياة، وهو ما أدى إلى ظهور أجيال متعاقبة من المفكرين والفنانين والفلاسفة، الذي آمنوا بالعقل باعتباره قوام الحياة، ولم يأخذ الحكام موقفا من العلم بكل صنوفه وإنما كانوا داعمين له، بينما كان العالم العربي يعيش في غياهب الجهالة بعد أن افتعل فقهاؤنا صراعًا ما بين العلم والعقل، لدرجة انه مع مجيء الحملة الفرنسية على مصر ١٧٩٨، التي استقدمت عشرات العلماء من كل صنوف المعرفة، وأسسوا المجمع العلمي المصري الذي راح علماؤه يدرسون ويناقشون كل القضايا إبتداءً من دراسة المناخ والاقتصاد والتاريخ، ويقيمون التجارب العلمية في علوم الطبيعة والفلك، وراحوا يدعون بعض الشخصيات التي كانت تتبوأ مكانة علمية في مصر، كان من بينهم الشيخ حسن الجبرتي، الذي كان يملك نصيبًا من بعض المعارف الدينية والرياضية، وقد رحب به علماء المجمع وراح يتجول في أرجائه لمشاهدة التجارب الفلكية والكيميائية، وعقب خروجه من زيارته سأله البعض: ماذا شاهدت يا شيخ ؟ أجابهم قائلا: والله لولا أنني أسمع عن بعض معارفهم لقلت أن هؤلاء الناس يوظفون الجن!
رغم أن الحملة الفرنسية على مصر لم تستغرق إلا ثلاث سنوات ١٧٩٨-١٨٠١، إا إنها كانت نقطة تحول هائلة ليس في تاريخ مصر فقط، وإنما في معظم أقطارنا العربية، فقد عرف المصريون بعدها الطباعة وتم اكتشاف الغموض الذي خيم على التاريخ المصري القديم، بعد فك رموز حجر رشيد، ومضت الحياة نحو طرق جديدة قوامها التعليم الحديث، الذي أقبل عليه المصريون، من خلال البعثات التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا، و لم تعد الظواهر العلمية وتفسيراتها حكرا على الفقهاء، وإنما راح العلم يمضي نحو مزيد من التقدم، وكانت معركة شرسة ما بين الفقهاء والعلماء، تعددت مجالاتها لدرجة أن رجال الدين قد حرموا ممارسة الطب عقب عودة بعثات محمد علي من أوروبا، وراحوا يأخذون من التراث ما يقيم حجة على تحريم العلاج بالطب، وكانت معركة تصدى لها الفقهاء وقاوموها بكل شراسة، متهمين من يمتهن هذا العمل بالكفر والمروق من الدين، على اعتبار أن الله هو الذي يُمرض وهو الذي يُشفي، وكان موقف الأزهر داعما لهذا الاتجاه.
كان علاج المرأة والكشف عليها من المحرمات التي أجمع عليها الفقهاء، طوال القرن التاسع عشر، وكانت نسبة الوفيات في حالات الولادة تصل إلى ٥٠٪، وهي مهنة لم يكن يمارسها إلا ( القابلات )، وكانت نسبة الوفيات الأكبر تحدث إما بسبب الولادة العسرة أو بسبب التلوث، ورغم ذلك لم يجد المجتمع حلا لهذه القضية بسبب معارضة رجال الأزهر.
مع نهاية القرن التاسع عشر كان بعض المستنيرين من علماء الأزهر يطرحون أسئلة لا يجدون إجابة عليها، من قبيل الصراع بين العلم والدين، وكان في مقدمتهم الشيخ محمد عبده، الذي راح يقول بفتاوى رآها خصومه مروقا على الدين. من بينها: إذا تعارض النص مع العقل أُخذ بما يقول به العقل، وأن الدين لا يمكن أن يكون عائقًا للعلم. وهي فتاوى واجه الرجل بسببها اتهامات قاسية، لدرجة أن خصومه قد أسسوا له صحيفة للنيل منه، وبقي الصراع قائما إلى إن مات الرجل قهرًا وكمدًا ١٩٠٥.
إذا كان الأوروبيون قد عاشوا نفس الظروف التي عاشتها أوطاننا قبل عصر النهضة الأوروبية الحديثة، حينما أقاموا صلحا ما بين العلم والعقل، أو ما بين العلم والدين، إلا أن من أسباب تخلفنا عن ركب الحضارة الحديثة أننا افتعلنا خصومة ما بين العلم والدين حالت دون انطلاقنا نحو المعرفة والعلم، رغم أن تاريخنا يحفل بشخصيات عظيمة، أسست لمعارف مختلفة في العلوم الإنسانية والطبيعية والفلسفية، من قبيل ابن سينا والفارابي وابن الهيثم وابن رشد، وهي القاعدة العلمية التي أسس عليها الأوروبيون نهضتهم، بينما نحن أضعنا الوقت وأهدرنا طاقاتنا وأقمنا جسورا هائلة ما بين العلم والعقل، وأسقطنا من تاريخنا ما قال به فقهاؤنا القدامى ( يدور الإسلام حيث تدور المصلحة، ويكمن شرع الله حيث تكمن مصالح الناس).
لعلنا مازلنا نعيش في أزمة حقيقية، حيث يصطنع البعض خصومة ما بين العلم والدين، وكثيرون ممن يتصدرون المشهد يحاولون التوفيق بين القضيتين، لكنهم يجهلون المقاصد العامة للشريعة التي هي جهد بشري خالص، بينما القرآن الكريم بنصوصه القاطعة الواضحة الجلية يقول بكل ما فيه الخير والنماء والمحبة والصدق والأمانة، وجميعها قضايا لا تشغل بال البعض من فقهائنا.
لم تخرج أوروبا من شقائها ومحنتها إلا بتضحيات جسيمة، بعدها انطلقت المجتمعات الأوروبية لإرساء قيم العدل وإعمال القانون، وإقامة العدالة الاجتماعية التي كانت بمثابة عقد إجتماعي وسياسي. ولم تأت نهايات القرن الثامن عشر إلا وكانت أوروبا قد خرجت من محنتهما، وكان التعليم والثقافة وإعمال العقل كلها طرق جعلت من الدول الأوروبية نموذجًا للخروج من أوضاع قديمة إلى حياة جديدة انطلقت بعدها نحو عوالم عربية وآسيوية وأفريقية راحت تتزاحم لاحتلالها، وكان نصيب العرب منها فوق قدراتهم، لأن الصراع كان حضاريا قبل أن يكون عسكريًا أو سياسيًا.
الملاحظ على النهضة الأوروبية أن الثقافة والتعليم كانا قوام نهضتها في كل مناحي الحياة، وهو ما أدى إلى ظهور أجيال متعاقبة من المفكرين والفنانين والفلاسفة، الذي آمنوا بالعقل باعتباره قوام الحياة، ولم يأخذ الحكام موقفا من العلم بكل صنوفه وإنما كانوا داعمين له، بينما كان العالم العربي يعيش في غياهب الجهالة بعد أن افتعل فقهاؤنا صراعًا ما بين العلم والعقل، لدرجة انه مع مجيء الحملة الفرنسية على مصر ١٧٩٨، التي استقدمت عشرات العلماء من كل صنوف المعرفة، وأسسوا المجمع العلمي المصري الذي راح علماؤه يدرسون ويناقشون كل القضايا إبتداءً من دراسة المناخ والاقتصاد والتاريخ، ويقيمون التجارب العلمية في علوم الطبيعة والفلك، وراحوا يدعون بعض الشخصيات التي كانت تتبوأ مكانة علمية في مصر، كان من بينهم الشيخ حسن الجبرتي، الذي كان يملك نصيبًا من بعض المعارف الدينية والرياضية، وقد رحب به علماء المجمع وراح يتجول في أرجائه لمشاهدة التجارب الفلكية والكيميائية، وعقب خروجه من زيارته سأله البعض: ماذا شاهدت يا شيخ ؟ أجابهم قائلا: والله لولا أنني أسمع عن بعض معارفهم لقلت أن هؤلاء الناس يوظفون الجن!
رغم أن الحملة الفرنسية على مصر لم تستغرق إلا ثلاث سنوات ١٧٩٨-١٨٠١، إا إنها كانت نقطة تحول هائلة ليس في تاريخ مصر فقط، وإنما في معظم أقطارنا العربية، فقد عرف المصريون بعدها الطباعة وتم اكتشاف الغموض الذي خيم على التاريخ المصري القديم، بعد فك رموز حجر رشيد، ومضت الحياة نحو طرق جديدة قوامها التعليم الحديث، الذي أقبل عليه المصريون، من خلال البعثات التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا، و لم تعد الظواهر العلمية وتفسيراتها حكرا على الفقهاء، وإنما راح العلم يمضي نحو مزيد من التقدم، وكانت معركة شرسة ما بين الفقهاء والعلماء، تعددت مجالاتها لدرجة أن رجال الدين قد حرموا ممارسة الطب عقب عودة بعثات محمد علي من أوروبا، وراحوا يأخذون من التراث ما يقيم حجة على تحريم العلاج بالطب، وكانت معركة تصدى لها الفقهاء وقاوموها بكل شراسة، متهمين من يمتهن هذا العمل بالكفر والمروق من الدين، على اعتبار أن الله هو الذي يُمرض وهو الذي يُشفي، وكان موقف الأزهر داعما لهذا الاتجاه.
كان علاج المرأة والكشف عليها من المحرمات التي أجمع عليها الفقهاء، طوال القرن التاسع عشر، وكانت نسبة الوفيات في حالات الولادة تصل إلى ٥٠٪، وهي مهنة لم يكن يمارسها إلا ( القابلات )، وكانت نسبة الوفيات الأكبر تحدث إما بسبب الولادة العسرة أو بسبب التلوث، ورغم ذلك لم يجد المجتمع حلا لهذه القضية بسبب معارضة رجال الأزهر.
مع نهاية القرن التاسع عشر كان بعض المستنيرين من علماء الأزهر يطرحون أسئلة لا يجدون إجابة عليها، من قبيل الصراع بين العلم والدين، وكان في مقدمتهم الشيخ محمد عبده، الذي راح يقول بفتاوى رآها خصومه مروقا على الدين. من بينها: إذا تعارض النص مع العقل أُخذ بما يقول به العقل، وأن الدين لا يمكن أن يكون عائقًا للعلم. وهي فتاوى واجه الرجل بسببها اتهامات قاسية، لدرجة أن خصومه قد أسسوا له صحيفة للنيل منه، وبقي الصراع قائما إلى إن مات الرجل قهرًا وكمدًا ١٩٠٥.
إذا كان الأوروبيون قد عاشوا نفس الظروف التي عاشتها أوطاننا قبل عصر النهضة الأوروبية الحديثة، حينما أقاموا صلحا ما بين العلم والعقل، أو ما بين العلم والدين، إلا أن من أسباب تخلفنا عن ركب الحضارة الحديثة أننا افتعلنا خصومة ما بين العلم والدين حالت دون انطلاقنا نحو المعرفة والعلم، رغم أن تاريخنا يحفل بشخصيات عظيمة، أسست لمعارف مختلفة في العلوم الإنسانية والطبيعية والفلسفية، من قبيل ابن سينا والفارابي وابن الهيثم وابن رشد، وهي القاعدة العلمية التي أسس عليها الأوروبيون نهضتهم، بينما نحن أضعنا الوقت وأهدرنا طاقاتنا وأقمنا جسورا هائلة ما بين العلم والعقل، وأسقطنا من تاريخنا ما قال به فقهاؤنا القدامى ( يدور الإسلام حيث تدور المصلحة، ويكمن شرع الله حيث تكمن مصالح الناس).
لعلنا مازلنا نعيش في أزمة حقيقية، حيث يصطنع البعض خصومة ما بين العلم والدين، وكثيرون ممن يتصدرون المشهد يحاولون التوفيق بين القضيتين، لكنهم يجهلون المقاصد العامة للشريعة التي هي جهد بشري خالص، بينما القرآن الكريم بنصوصه القاطعة الواضحة الجلية يقول بكل ما فيه الخير والنماء والمحبة والصدق والأمانة، وجميعها قضايا لا تشغل بال البعض من فقهائنا.