هل للعملية الروسية الخاصة في أوكرانيا - الجارية منذ الرابع والعشرين من فبراير 2022 - من تعريف دقيق يطابق منطقها الداخلي، ويترجم وجهة استهدافاتها وغاياتها التي من أجلها انطلقت؟ هل هي منصرفة إلى حماية الأمن القومي الروسي، على وجه الحصر، (لذلك هي «خاصة» بهذا المعنى)؛ أم تريد الضغط على الأمن الأوروبي عن طريق رفع القناع عن أزعومة الحماية الأمريكية الأطلسية له؛ أم هي ذات صلة بفكرة إعادة النظر في النظام الدولي الحالي، الموروث عن حقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، في أفق إرساء أسس نظام دولي جديد؟
أسئلة عديدة مشروعة تتداعى إلى الذهن عند التفكير في العملية الروسية الجارية، وقد تكون -جميعها- على المقدار عينه من الصـحة؛ وقد يكون بعضها آثـر للتفكير فيه من بعض آخر؛ كما قد يكون بعضها مجانبا للدقة. وأيا يكن موقف المرء من هذه الأسئلة، مجتمعة أو منفصلة، ومما إذا كانت تسمح، فعلا، بوضع السياسات الروسية موضع فحص وتحليل لأهدافها، فإن أهميتها ليست تنحصر في اتصالها بسياسات روسيا وأهدافها فقط، بل في أن مشروعيتها قد تتولد من كونها تعبيرا عن هواجس من يطرحها: دولا، ومؤسسات، وقـوى وحتى أفرادا؛ ذلك أن مجرد السؤال عن هذه الأبعاد المختلفة في العملية الروسية يقيم دليلا على أن نتائجها تتخطى حدود روسيا وأوكرانيا...
والحق أن التمعـن في هذه الأسئلة الثلاثة يظهرنا على ما بينها من ترابط وثيق وبالتالي، يبطل الظـن بأن الأمر فيها يتعلق باحتمالات ثلاثة قد يرجح واحدها على الآخريـن. لذلك من المفيد أن تقارب جميعها بحسبانها أسئلة شديدة الاتصال بحزمة من الأهداف العليا الروسية لا بهدف واحد وحيد، أو حتى بهدف رئيس وأهداف أخرى فرعية. وعلى ذلك، يبدو لنا أنها (أسئلة) تتعلق بمستويات أو أصعدة ثلاثة مترابطة: قومي روسي؛ وإقليمي أوروبي؛ ودولي. وإذا كان مدارها، في الجملة، على مسائل الأمن (الوطني والإقليمي والدولي) - أو هكذا هي تبدو لمـن ينظر إليها - فإن هواجس الاقتصاد والمصالح وتوازنات القوى الاستراتيجية لا تبارح ذلك المدار، حتى أنها قد تكون في خلفية كل ما يجري من نزاع بين أطراف الأزمة والحرب: المباشرين منهم وغير المباشرين.
حماية الأمن القومي الروسي هو الهدف الأول المتصل بالصعيد القومي. هذا هدف حيوي ووجودي بالنسبة إلى روسيا الاتحادية. وهي تعتقد - كما لم يفتأ الكرملين والرئيس پوتين يرددان - أن أخطارا عدة تتهدد هذا الأمن من الخاصرة الأوكرانية لروسيا. هذا التقدير هو عينه ما دفع موسكو إلى دعم جمهوريـتي دونييتسك ولوغانسك منذ إعلان قيامهما، قبل أعوام، في إقليم دونباس شرق أوكرانيا، قصد تحجيم زحف كييڤ وحلفائها إلى ما يحاذي الحدود الغربية لروسيا. وهو عينه ما دفع بقواتها إلى السيطرة العسكرية على شبه جزيرة القرم وضمها إليها. ولكنه - أيضا - التقدير الذي تزايدت عليه القرائن، في السنوات الأخيرة، فرفع تواترها من معدل المخافة الروسية على الأمن القومي إلى المدى الأبعد؛ خاصة مع توالي الجهر الأمريكي بالنية في توسيع نطاق منظومة «حلف شمال الأطلسي»، من طريق ضم أوكرانيا إليه، والوصول بالمنظومة وجيوشها ونطاق سيطرتها ونفوذها إلى حدود روسيا! وما كان يسع الأخيرة - خاصة بعد أن تعافت اقتصاديا من انهيارها الاقتصادي الذي ضربها عقب انفراط الاتحاد السوفييتي، واستعادت قواها العسكرية، بل زادتها تطويرا وتحديثا، وباتت هاجسا يؤرق السياسات الغربية، وتفتح ملف أمن يتهدده تمدد الأطلسي وتصاعد موجات ما سمته موسكو بالنازيين الجدد في أوكرانيا، ومشاعر العداء العنصري الغربي ضد روسيا.
كان موقع روسيا الأوروبي، وما زال، يرتب عليها خيارات سياسية لا مهـرب لها منها؛ أولها بناء أوثـق العلاقات الاقتصادية والسياسية بها، خاصة بعد قيام «الاتحاد الأوروبي» وصيرورة أوروبا قوة اقتصادية عالمية ثالثة، وزوال الأسباب التي كانت تستثير المخاوف الأوروبية من الخطر (الشيوعي) الروسي. ومع أن الاقتصادات الأوروبية مرتهنة، في معظم قطاعاتها، لروسيا ومصادر الطاقة فيها، وأن هذه كانت تتدفق عليها باستمرار؛ ومع أن أشكالا من التنسيق الأمني الروسي - الأوروبي نمت في نطاق «منظمة الأمن والتعاون» في أوروبا، إلا أن معضلة موسكو الأساس ظلت تتمثل في الروابط الأطلسية التي شدت بلدان أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها، وفرضت على دول أوروبا الانتظام تحت سقف الموقف الأمريكي بدعوى الشراكة الأطلسية. ولم يكن الغطاء الأطلسي مانعا لتكوين جيش أوروبي موحد فحسب - بحيث تطمئن به أوروبا على أمنها الإقليمي - بل وفر الذريعة لتوسيع نطاق هذا الإطار الأطلسي بحيث انتقل من ضم دول شرق أوروبا إليه إلى ضم دول كانت جمهوريات في الاتحاد السوفييتي السابق! هكذا تولد الهاجس الروسي الجديد تجاه أوروبا: هاجس دفعها إلى فك ارتباطها بالسياسات الأمريكية، من طريق الضغط عليها من أوكرانيا وإقناعها بأن الأطلسي لن يحميها من روسيا، وأن العلاقات المتكافئة، والتعاون، والشراكة، واستقلالية قرار أوروبا عن واشنطن... وحدها تبني أفضل صلات الأمن والتعاون بين روسيا ودول الاتحاد.
لا ترى روسيا نفسها - على صعيد النظام الدولي وتوازنات القوى فيه - تحتل المكانة التي تليق بها وبقواها وإمكاناتها، خصوصا بعد أن خرجت من لحظة السقوط والانهيار - التي عمقتها حقبة سيطرة بوريس يلتسين وطغمة مافيات المال والليبرالية المتوحشة على السلطة فيها - وبعد أن انصرمت حقبة القطبية الأوحدية التي تكرست فيها أمريكا بما هي مركز العالم الأوحد: اقتصاديا وسياسيا. تدرك روسيا، اليوم، أن العالم تغير منذ انتهاء الحرب الباردة، في نهاية الثمانينيات، ومنذ نهاية الأوحدية القطبية، في نهاية العقد الأول من هذا القرن، حيث قامت مراكز اقتصادية وتكنولوجية وعلمية جديدة كبرى (الصين، الهند، البرازيل...)، وتجمعات اقتصادية دولية ضخمة (البريكس، شنجهاي... إلخ)؛ وتوطدت العلاقات الاستراتيجية بين روسيا والصين والهند بعد قطيعة دامت عقودا. وهذه جميعها متغيرات كبرى سوف تعيد النظر في نظام دولي تجاوزته أحكام التطور.
ليس مستغربا، إذن، أن تفتح العملية الروسية هذه الملفات الثلاثة (القومية والإقليمية والدولية) مجتمعة؛ فهذه - مثلما أومأنا - مترابطة يمسك بعضها ببعض، وقد لا يمـكن معالجة واحد منها بمعزل عن الأخرى.
أسئلة عديدة مشروعة تتداعى إلى الذهن عند التفكير في العملية الروسية الجارية، وقد تكون -جميعها- على المقدار عينه من الصـحة؛ وقد يكون بعضها آثـر للتفكير فيه من بعض آخر؛ كما قد يكون بعضها مجانبا للدقة. وأيا يكن موقف المرء من هذه الأسئلة، مجتمعة أو منفصلة، ومما إذا كانت تسمح، فعلا، بوضع السياسات الروسية موضع فحص وتحليل لأهدافها، فإن أهميتها ليست تنحصر في اتصالها بسياسات روسيا وأهدافها فقط، بل في أن مشروعيتها قد تتولد من كونها تعبيرا عن هواجس من يطرحها: دولا، ومؤسسات، وقـوى وحتى أفرادا؛ ذلك أن مجرد السؤال عن هذه الأبعاد المختلفة في العملية الروسية يقيم دليلا على أن نتائجها تتخطى حدود روسيا وأوكرانيا...
والحق أن التمعـن في هذه الأسئلة الثلاثة يظهرنا على ما بينها من ترابط وثيق وبالتالي، يبطل الظـن بأن الأمر فيها يتعلق باحتمالات ثلاثة قد يرجح واحدها على الآخريـن. لذلك من المفيد أن تقارب جميعها بحسبانها أسئلة شديدة الاتصال بحزمة من الأهداف العليا الروسية لا بهدف واحد وحيد، أو حتى بهدف رئيس وأهداف أخرى فرعية. وعلى ذلك، يبدو لنا أنها (أسئلة) تتعلق بمستويات أو أصعدة ثلاثة مترابطة: قومي روسي؛ وإقليمي أوروبي؛ ودولي. وإذا كان مدارها، في الجملة، على مسائل الأمن (الوطني والإقليمي والدولي) - أو هكذا هي تبدو لمـن ينظر إليها - فإن هواجس الاقتصاد والمصالح وتوازنات القوى الاستراتيجية لا تبارح ذلك المدار، حتى أنها قد تكون في خلفية كل ما يجري من نزاع بين أطراف الأزمة والحرب: المباشرين منهم وغير المباشرين.
حماية الأمن القومي الروسي هو الهدف الأول المتصل بالصعيد القومي. هذا هدف حيوي ووجودي بالنسبة إلى روسيا الاتحادية. وهي تعتقد - كما لم يفتأ الكرملين والرئيس پوتين يرددان - أن أخطارا عدة تتهدد هذا الأمن من الخاصرة الأوكرانية لروسيا. هذا التقدير هو عينه ما دفع موسكو إلى دعم جمهوريـتي دونييتسك ولوغانسك منذ إعلان قيامهما، قبل أعوام، في إقليم دونباس شرق أوكرانيا، قصد تحجيم زحف كييڤ وحلفائها إلى ما يحاذي الحدود الغربية لروسيا. وهو عينه ما دفع بقواتها إلى السيطرة العسكرية على شبه جزيرة القرم وضمها إليها. ولكنه - أيضا - التقدير الذي تزايدت عليه القرائن، في السنوات الأخيرة، فرفع تواترها من معدل المخافة الروسية على الأمن القومي إلى المدى الأبعد؛ خاصة مع توالي الجهر الأمريكي بالنية في توسيع نطاق منظومة «حلف شمال الأطلسي»، من طريق ضم أوكرانيا إليه، والوصول بالمنظومة وجيوشها ونطاق سيطرتها ونفوذها إلى حدود روسيا! وما كان يسع الأخيرة - خاصة بعد أن تعافت اقتصاديا من انهيارها الاقتصادي الذي ضربها عقب انفراط الاتحاد السوفييتي، واستعادت قواها العسكرية، بل زادتها تطويرا وتحديثا، وباتت هاجسا يؤرق السياسات الغربية، وتفتح ملف أمن يتهدده تمدد الأطلسي وتصاعد موجات ما سمته موسكو بالنازيين الجدد في أوكرانيا، ومشاعر العداء العنصري الغربي ضد روسيا.
كان موقع روسيا الأوروبي، وما زال، يرتب عليها خيارات سياسية لا مهـرب لها منها؛ أولها بناء أوثـق العلاقات الاقتصادية والسياسية بها، خاصة بعد قيام «الاتحاد الأوروبي» وصيرورة أوروبا قوة اقتصادية عالمية ثالثة، وزوال الأسباب التي كانت تستثير المخاوف الأوروبية من الخطر (الشيوعي) الروسي. ومع أن الاقتصادات الأوروبية مرتهنة، في معظم قطاعاتها، لروسيا ومصادر الطاقة فيها، وأن هذه كانت تتدفق عليها باستمرار؛ ومع أن أشكالا من التنسيق الأمني الروسي - الأوروبي نمت في نطاق «منظمة الأمن والتعاون» في أوروبا، إلا أن معضلة موسكو الأساس ظلت تتمثل في الروابط الأطلسية التي شدت بلدان أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها، وفرضت على دول أوروبا الانتظام تحت سقف الموقف الأمريكي بدعوى الشراكة الأطلسية. ولم يكن الغطاء الأطلسي مانعا لتكوين جيش أوروبي موحد فحسب - بحيث تطمئن به أوروبا على أمنها الإقليمي - بل وفر الذريعة لتوسيع نطاق هذا الإطار الأطلسي بحيث انتقل من ضم دول شرق أوروبا إليه إلى ضم دول كانت جمهوريات في الاتحاد السوفييتي السابق! هكذا تولد الهاجس الروسي الجديد تجاه أوروبا: هاجس دفعها إلى فك ارتباطها بالسياسات الأمريكية، من طريق الضغط عليها من أوكرانيا وإقناعها بأن الأطلسي لن يحميها من روسيا، وأن العلاقات المتكافئة، والتعاون، والشراكة، واستقلالية قرار أوروبا عن واشنطن... وحدها تبني أفضل صلات الأمن والتعاون بين روسيا ودول الاتحاد.
لا ترى روسيا نفسها - على صعيد النظام الدولي وتوازنات القوى فيه - تحتل المكانة التي تليق بها وبقواها وإمكاناتها، خصوصا بعد أن خرجت من لحظة السقوط والانهيار - التي عمقتها حقبة سيطرة بوريس يلتسين وطغمة مافيات المال والليبرالية المتوحشة على السلطة فيها - وبعد أن انصرمت حقبة القطبية الأوحدية التي تكرست فيها أمريكا بما هي مركز العالم الأوحد: اقتصاديا وسياسيا. تدرك روسيا، اليوم، أن العالم تغير منذ انتهاء الحرب الباردة، في نهاية الثمانينيات، ومنذ نهاية الأوحدية القطبية، في نهاية العقد الأول من هذا القرن، حيث قامت مراكز اقتصادية وتكنولوجية وعلمية جديدة كبرى (الصين، الهند، البرازيل...)، وتجمعات اقتصادية دولية ضخمة (البريكس، شنجهاي... إلخ)؛ وتوطدت العلاقات الاستراتيجية بين روسيا والصين والهند بعد قطيعة دامت عقودا. وهذه جميعها متغيرات كبرى سوف تعيد النظر في نظام دولي تجاوزته أحكام التطور.
ليس مستغربا، إذن، أن تفتح العملية الروسية هذه الملفات الثلاثة (القومية والإقليمية والدولية) مجتمعة؛ فهذه - مثلما أومأنا - مترابطة يمسك بعضها ببعض، وقد لا يمـكن معالجة واحد منها بمعزل عن الأخرى.