القاهرة "د.ب.ا": تؤكد المصادر العربية، وكتب الرحّالة والمستشرقين على أن القليل من المدن تلك التي يمكن أن تثير خيـال المرء لدى سماع اسمها كمدينة القاهرة، وأن هذا الاسم يبعث في النفس صوراً وخيالات رسمتها كتابات المؤرخين ورسوم الفنانين على مر العصور.

فهناك تبدو لنا قلعتها كقائد حربی مختال يشرف على جنوده الذين تؤلفهم منائر العاصمة، فترسـم لنا صورة المماليك بعمائمهم وثيابهـم الفضفاضة وهم منطلقون على صهوة جيادهـم وفي أيديهم سيوفهم المشرعة التي تنعكس عليها أشعة الشمس، ولا ننسى الأهرامات، تلك الصروح الهائلة تعبر عن فكرة الخلود، وهنا وهناك الأبنية العتيقة، الشواهد الدالة على حضارات عدة متباينة، شكل كل منها وجه المدينة بأسلوبه، وخلف لنـا آثارا تشهد بذلك فهنا جامع سامق يدعو المارة إلى الاحتماء في ظلال ايوانته الرطبة من قيظ الشمس، وهناك كنيسة قبطية عتيقة تزدان بصورة القديسين الرصينة، وهنا نهر النيل الخالد وما يطل على جانبيه من عمائر... وهكذا تتعدد تلك الصور وتتباين، لتشترك جميعها في رسم صورا جذابة تضاعف من روعة تلك المدينة العتيقة.

ومن بين المعالم العتيقة التي جذبت علماء الحملة الفرنسية، وخصصوا لها الأبحاث والمقالات تلك الخطوط العربية التي تفرّدت بها عمائر القاهرة، وهي العمائر التي لفتت أيضا أنظار الرحّالة منذ قرون عديدة.

وتذهب بحوث علماء الحملة الفرنسية المنشورة بالجزء العاشر من كتاب "وصف مصر"، والذي حمل عنوان "مدينة القاهرة: الخطوط العربية على عمائر القاهرة"، إلى أن تلك العمائر والخطوط وغيرها من المعالم التي خلفها المصريون وحكامهم على مر العصور، قد جعلت من مصر منبعا للحضارة والفنون، كما جعلت منها أرضا كلاسيكية.

وقد لفتت تلك الخطوط التي كانت تزين عمائر القاهرة التاريخية، والتي بقي بعضها حتى اليوم، أنظار علماء الحملة الفرنسية إلى الخطوط التي استخدمها العرب في الكتابة قبل الهجرة النبوية وبعدها، ودراسة تلك الخطوط وفي مقدمتها الخط الكوفي، وكذلك خط النسخ، وخط الثلث، وغير ذلك من الخطوط العربية التي حرصوا على رسمها ونقل نسخ منها عند عودتهم إلى العاصمة الفرنسية باريس.

وقد رأى علماء الحملة الفرنسية من خلال دراستهم لتلك الخطوط العربية التي كانت تنتشر على عمائر القاهرة التاريخية، أن الخط الكوفي لعب دورا مهما في الكتابات التي تزين الآثار التي أقامها الأمراء الذين حكموا وقت أن كان هذا الخط مستخدما.

وسجّل علماء الحملة الفرنسية في مقالاتهم عن الخطوط العربية على عمائر القاهرة، عدداً كبيراً من العمائر التي تحمل كتابات كوفية، ومن بينها نقوش مقياس النيل بجزيرة الروضة، وترجع إلى عصر تأسيسه الأول، وهي النقوش التي تشتمل عليها لوحة نقوش المقياس، وكذلك مجموعة الكتابات التي وجدوها في منطقة سور مجرى العيون، وفي كثير من البنايات القديمة الخاصة، وأفاريز الجامع الذي شيّده أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية، وجامع الخليفة الأشرف.

ولفت علماء الحملة الفرنسية في بحوثهم المتعلقة بالخطوط العربية على عمائر القاهرة التاريخية، الأنظار إلى انتشار القباب والمآذن والمساجد، وأحواش المقابر التي تزينها الأعمدة والكتابات والنقوش العربية في بذخ، وتقع هذه المقابر وسط الرمال عند سفح جبل المقطم.

وقد اهتم علماء الحملة الفرنسية، بتتبع تاريخ تلك الخطوط العربية التي كانت تنتشر على عمائر القاهرة التاريخية، وحرصوا على دراسة تاريخ الكتابات الكوفية، وأشاروا إلى أن الكتابة الكوفية تختلف عن غيرها من الكتابات التي اشتقت منها فيما بعد، مثل خلوها من العلامات التي تحدد نطق الحروف المشكلة والتي لا توجد إلا في عدد قليل من المخطوطات التراثية، حيث يستخدم شكل هجائي واحد للتعبير عن حروف شديدة الاختلاف، الأمر الذي كان يسبب صعوبات بالغة عند قراءة الكلمات، ويخلق لتفسيرها بذلك مجالاً واسعا للتخمين، وللتغلب على هذه الصعوبة اضطر النحاة العرب إلى ابتكار حركات ضبط ذات أوضاع متغيرة، تضاف إلى الحروف الهجائية، وهى علامات مشتركة بين الحروف المختلفة، لتحديد هويتها ونطقها المضبوط.

وكان لخط الثلث نصيبه من الاهتمام لدي علماء الحملة الفرنسية، حيث سجّل الفرنسيون في كتاب وصف مصر، أن من أهم ما يميز الخط المسمى بالثلث، أن خطوطه أكثر سمكا بالقياس إلى خط النسخ، وأن أشكال كلماته تتشابك إحداها بالأخرى بشكل بالغ الأناقة والرشاقة.

ورصد الفرنسيون أن هذا الخط استخدم في الكتابة على شواهد القبور بأناقة بالغة، وفى أغلب النقوش التي نفذت بعناية فائقة، ومن بينها تلك التي تغطى جانبي العارضة الموضوعة فوق عمود المقياس في جزيرة الروضة.

واعتبر علماء الحملة الفرنسية في أبحاثهم المتعلقة بالخطوط العربية على عمائر القاهرة التاريخية، أن تلك الخطوط كانت مصدراً لتسليط الضوء على بعض فترات تاريخ مصر، كأحداث عصور غير معروفة بشكل جيد، والتي كانت تمثل أمام المؤرخين غموضا يحتاج إلى تبديد ظلماته، وتناقضات تحتاج إلى التوفيق بينها، وأن كثيراً من تلك الكتابات تصلح لإلقاء الضوء على نقاط من التاريخ لعلها كانت ستظل إلى الأبد مغلفة بغياهب الظن، لولا الاستعانة بتلك الكتابات التي عُرفت بها عمائر القاهرة قديما.

وهكذا لعب الخط العربي في حياة القاهرة وحضارتها دورا فنياً وتاريخياً لا يقل أهمية وفاعلية عن دوره كوسيلة للكتابة والتفاهم، ولم تبخل عليه القاهرة برعايتها فأعطته من مظاهر العناية والتقدير ومن دفعات التجويد والتطوير ما وصل به إلى المكانة الممتازة الجدير بها، حتى ان الخط العربي – بحسب قول - أصبح في بعض المراحل التاريخية علامة القاهرة المميزة لعمائرها.

وكما يقول حسين عبد الرحيم عليوة في مقاله بكتاب "القاهرة: تاريخها فنونها آثارها"، فقد تميز الخط العربي بعدة خصائص فنية لم تتوفر لغيره من الفنون العربية الاسلامية، ذلك أن مرونة حروفه وسهولة حركته وقابليته للتشكيل والزخرفة أدت كلها إلى اطلاق العنان أمام الخطاط القاهري الذي اخذ يشكل حروفه حسب المساحات المخصصة للكتابة، ويزخرف كتاباته بشتى الأساليب الزخرفية المتنوعة التي كانت تعبر عن ذوقه السليم وإدراكه التام لأصول فن الخط العربي، وفهم لأسرار حروفه وأشكالها، وهي الكتابات التي تزينت بها عمائر القاهرة ولفتت أعين علماء الحملة الفرنسية، ومعهم الكثير من المؤرخين والرحّالة والمستشرقين والفنان الأجانب الذين كانت القاهرة مصدراً للكثير من لوحاتهم الفنية.